د.بشرى الفاضل استولى الطفابيع في مدينتنا على دور العبادة، وكان عدد تلك هائلاً، ولم نستبن خطتهم في الاستيلاء، ولم نعرف تاريخها؛ بيد أننا صحونا ذات فجر فوجدنا مؤذنا طفبوعياً جهير الصوت في كل مئذنة، وإماماً طفبوعياً مطبوعاً في كل دار عبادة. وكانوا يأذنون لنا بدخول تلك الدور، وفي عيونهم شرر يتطاير مع الضغينة المدغمة في سلام السنة، الذي يرعدون به في وجه كل داخل من المصلين الذين هم ليسوا من بني جلدتهم كأي واجب. سلام بالألفاظ وسيق الأئمة السابقين فدقت أعناقهم وابتعدت الطفابيع رويداً رويدا عن دين آبائنا فجاءوا بتراتيل من عندهم. وتحدثت المدينة عن هذا الاحتكار للشعائر وتزندق الطفابيع حتى أوشكوا أن يوهموا الناس بصلة القربى، والعياذ بالله، وكانت فؤوسهم التي بأيديهم مكتنزة، وقد التحمت بالسواعد. وحلت محل الأكف. يرفع الطفبوع فأسين مكان كفيه بالدعاء. وهكذا أصبح الدعاء حربياً، يردده المصلون منا فيحل بالحلق علقم دام من ترجيعه، كأن هنالك شفرات حلاقة مكان الأصوات والكلمات ولات حين مناص. وتحدثت المدينة عن شخص قال )لا( ففهمها الطفابيع وترجموها للمصلين بلغات البلد بأسرها ثم أعادوها لأصلها بإطالة في الصوت الأخير وإمالة، فبدت 65 64 بلغة وعادت بأختها من جراء الفلتر الطفبوعي الواثق من نطقه للحد الذي تدخل فيه الإبانة والوضوح المكرور منطقة السخف. وتنادوا في المدينة ضد الرجل. وكالوا من بقوليات سبابهم أرادب ودسوا المكيال في رحله. وقالوا ندعو عليه في صلاة الفجر. ووزعوا المناشير التي ترغم كل مصل أن يأتي الفجر التالي بما ملكت إيمانه وبأزواجه وأطفاله مسربلين، فلا تغيب حامل ولا مرضع ولا يقعد مُقْعَد ولا أعمى عن واجب الاستنفار، ففي غد يبتدر الطفابيع الدعاء الكبير، الدعاء الصلب الذي لا بد من أن يستجاب، ووزع الطفابيع الملح والعرديب بالمجان لمليوني مواطن لكي يتم جلاء الأصوات في الغد بالدعاء الرهيب. وقبيل لحظة الصلاة اصطف خمسة عشر ألف طفبوعي في طابور بديع أمام كبير الطفابيع ورفع هذا يده اليمنى في تراخ، ولكنه تراخ حازم مع ذلك. ورفعت خمسة آلاف يد أخرى من ذوات الميمنة، نفسها تبعتها خمسة آلاف يد من ذوات الميسرة، وخمسة آلاف أخرى من ذوات التردد قبل أن تصدر الرؤوس الغفيرة المتصلة بها أمراً بالرفع، واكتفت الرؤوس بهزات جاءت بعد فعل الأيدي وغمرت الميدان صيحة داوية: - الجبار. ورددت الحشود الطفبوعية: - الجبار المنتقم. ثم أمر كبير الطفابيع جماعته بالتحرك. فتحرك جيشهم فصائل – فصائل- كل قصد ناحية بالمدينة واستعجب الناس فتعداد كل فصيلة كان بالضبط كمضاعف عدد المساجد حتى يكون هناك إمام ومؤذن طفبوعان لكل جامع. وكان المصلون هنالك قبل انبلاج الفجر، وهكذا أصبح الآذان شكلياً، ولو أن الطفبوع الرهيب أذن في قلة ودخل، لوجد حضورنا مكتملاً، وكان بيننا شخص مرعوب،أحضر معه بعض أغنامه ودجاجه، وعندما سأله المأموم الطفبوعي مستنكراً، أجاب خائفاً: - أليست مؤمنة بالمعبود مثلنا؟ فتركوه ريثما يجزون الصفوف، ثم عادوا فانتهروه. فخرج بأغنامه متكئاً ينضح دماً. واندلق المسكين كلية بينما كان في السكة لبيته. ودوى صوت مهيب، كأنّه سبع، كأنّ حباله الصوتية رعد، و كأنّ لعابه نبع. ذلك أن خمسة آلاف مؤذن طرقوا في يقين كامل مفصح عنه بإبانة مجهورة بآذانهم آذاننا الوسطى في ثانية واحدة. وأقيمت الصلاة. وما كان هنالك من مشهد لصلاة كهذه في قرن كهذا أشد نظاماً وظلامة، كانت صلاة كثيفة. جاء فيها الطفابيع بنصوص الوعيد، وركعوا على كيفهم وتفرسوا في الوجوه وتجشأوا وانتهوا. ثم جاء وقت الدعاء فوزع الطفابيع في كل مسجد الحلوى والنظرات المتفرسة وهم يصيحون: - )المؤمن حلوي( ولكن الناس سمعوا صغار الطفابيع يرددونها: – المؤمن قلوي أو خلوي ربما . وحسبوها غنة في أصوات الطفابيع فحسب. ومن عجب أن الحلوى تبخرت في الأفواه ودخلت كل مئذنة حتى سدت أسقف الجوامع ثم رفع كل إمام عقيرته بالسؤال: - الجبار! وهدرت كل جموع وراءه بالقرار: - المنتقم! 67 66 صلاة مركزية. للحظة بدأ فيها الصوت الخاشع المتضرع، كأنه يتوعد. واهتزت الجوامع. ووزع الطفابيع منشوراً في ذم الفاسق. ذكروا فيه أنهم أنذروه وقالوا له قل )ون( من قبل مكان )نو( ولكنه استكبر وزفر في عجمة وأبلسة بالاستهجان الجهير. وأقبل الناس على المنشورات الطازجة يشمون عبير حروفها حائرين. ثم هتف خمسة آلاف طفبوع من الأئمة ونحوهم من المأذونين. - يا كبير! ارجم هذا الشيخ اصلبه. أخسف به أسفل السلم الاجتماعي، اهدر دمه وعرضه. وهدرت الجموع: - الجبار المنتقم! وهنا حدث شيء جلل. كان من شدة إرزام الجموع ، وعظم الحشود وتدافع الوفود وتصاعد الأصوات والغارات والفحيح، أن أقلعت المآذن في خمسة آلاف جامع كالصواريخ نحو السماء. انطلقت هادرة كلها مخترقة الأجواء. ومحترقة الأذناب، وتداخلت في جوفها الأصوات والوقود فخفت مسرعة مدوية. - فو.. فو.. اقتل.. أصلب.. أسحل.. فو..فو ! وتدافع الناس خارج المساجد يشهدون صواريخ من صنعنا النامي. في البدء رأى الناس اللهيب يتلاشى يليه الغاز، تليه وسامة ثم سمعوا الهدير ثم رأوا الصواريخ تتدافع توشك أن تصبح صاروخاً جباراً فرداً صمداً.. وكأنها كانت تفكر، فأحرزت وحدانية الهدف. وأصبح هناك تدافعان، تدافع الخارجين من بوابات المساجد وتدافع الطارقات لأبواب السماء. هكذا ابتدع الطفابيع حرب السموات والنجوم.