الديمقراطية التي نريد!! تيسير حسن إدريس [email protected] مازلنا منذ عقدين ونيف من الزمان نسعى ونجد خلف هدف نبيل وغالى يتمثل في استعادة النظام الديمقراطي الذي سلب بليل بهيم بيد المتأسلمة الجدد بينما كانت حكومتنا الديمقراطية تنام في العسل وترعى في منامها (غنم إبليس) وكان شعب السودان الشقي الذي طار النوم من عينه يلتحف سراب وعود السادة ويتقلب على شوك سلبيات التجربة الديمقراطية الثالثة التي أعادت بصورة دراماتيكية (وضع الحافر على الحافر) إنتاج سلبيات ما سبقها من تجارب ديمقراطية مجهضة بل وزادت عليها من عندها الشيء العجاب مما وضع قطاعات عريضة من الجماهير السودانية في ضباب الحيرة وافقدها رغبتها في استمرار ذلك الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي المتردي والمتأزم. ولقد انعكس هذا الشعور الشعبي سلبا على عملية تفعيل (ميثاق حماية الديمقراطية) الذي وقعته وتعاهدت علي تنفيذه جميع الأحزاب السودانية (ما عدا الجبهة القومية الإسلامية) بعد الانتفاضة المجيدة في حال وقوع انقلاب عسكري ولكن استحكام حالة الإحباط والشعور السالب في النفوس نتيجة لتعثر التجربة الديمقراطية الأخيرة أدى لحالة من اللا مبالاة عصفت بجماهير شعبنا ولازمتها طوال فترة حكم نظام الإنقاذ ولا يزال بقايا الأثر ممتد حتى الآن الشيء الذي يبرر استمرار هذا النظام البغيض في الحكم رغم ارتكابه لشتى أنواع الخطايا وأحط أصناف الموبقات وتجاوزه لكافة الخطوط الحمراء في سياساته التي انتهجها داخليا وخارجيا. فقد ظل سؤال (البديل) الذي عشش في ذاكرة الشعب يقف حاجزا منيعا وسدا يحول بينه وبين خوضه لانتفاضة شعبية جديدة تطيح بنظام الإنقاذ رغم مقدرته على ذلك وإتقانه لفنون الهبة الجماهيرية التي برع في استحداث أدواتها حتى صارت مضرب مثل لشعوب المنطقة ، غير أن سؤال ( البديل) شتت الأذهان وأرهق الوجدان فخارت العزائم وضعفت الهمم فخمد البركان ولو لحين، فعدم وجود البديل المقنع بعد التجربة الديمقراطية المتعثرة أسهم بصورة فاعلة في إطالة عمر هذا النظام الباغي. من هنا تبدو الضرورة ملحة في أن تغير قيادات أحزابنا السودانية من نهجها القديم وتنتبه لحقيقة أن الزمان قد تغير ومتطلباته كذلك فوعي الجماهير قد ارتقى نتيجة لتوسع التعليم والاهتمام به خاصة من شرائح اجتماعية عريضة كانت تهمله في السابق أضف إلي ذلك انتشار وسائل ووسائط التثقيف الذاتي الأخرى مما أدى لنضج وعي هذه الجماهير فصارت أكثر فهما ودراية بألاعيب الساسة مما يستدعي إعادة النظر في مجمل النهج السياسي الذي اتبعته أحزابنا في الماضي بعد أن سقطت عن عورته ورقة التوت التي كانت تستره ولم يتبقى أمام القيادات خاصة في الأحزاب التقليدية سوى خيار إعادة إنتاج برامجهم على أسس جديدة توافق وتستجيب لروح العصر ومتطلبات المرحلة وتخاطب آمال وطموحات الجماهير بكل صدق وشفافية وبلا استهانة بعقولهم ومقدراتهم في الرصد والفهم والتحليل. إن نجم نظام الإنقاذ البغيض إلى أفول وليله سينجلي بعد أن استنفذ فرص استمراره في الحكم وانتفت مشروعية وجوده فنظم الحكم تستمد مشروعية وجودها واستمرارها من توفير الأمن والأمان للمواطن وحفظ وحدة التراب الوطني الشيء الذي فشلت فيه الإنقاذ طوال فترة حكمها وكانت محصلة سعيها في ذلك سالبة ويكفي شاهدا على ذلك ذهاب ثلث الوطن بعد أن مل التناحر والمماحكة نحو تكوين دويلة مستقلة وفقدان أهلنا في دارفور للأمن والأمان منذ فترة ليست بالقصيرة دون حلول عادلة لأزماتهم التي تحولت إلى مأساة إنسانية يشهد عليها العالم مما ينذر بتفكك بقية مفاصل الدولة السودانية. إن النظام المدني الديمقراطي سوف يعود بإذن الله ليحكم السودان من جديد لأنه النظام الأصلح والأجدر للحكم في بلد متعدد الأعراق والديانات وكذلك لأن تجارب الأمم والشعوب الأخرى لم تبدع نظم أكثر منه عدالة مهما حاول بعض عشاق النظم الدكتاتورية دمغه بالضعف وصنوف المثالب ومن هنا جاءت فكرة وأهمية طرح هذا المقال وفي هذا التوقيت بذات الذي قد يختلف معه البعض ويقول قائل منهم (الناس في شنو والحسانية في شنو؟!) وأين نحن من زوال هذا النظام؟!. إن الخطأ القاتل الذي ظللنا نكرره طوال فترات تاريخنا الحديث دون أن نتعلم من تكراره يتمثل في قصر نظر تنظيماتنا السياسية وضعف رؤيتها لقضايا التغيير والنضال ضد الأنظمة الدكتاتورية الذي تغيب عنه البرامج والخطط التي يجب أن تخاطب وتضع الحلول المسبقة لمرحلة ما بعد (التغيير) المنشود وهذا الخطأ المتكرر يدل على عقلية سياسية ساذجة وأسيرة لمبدأ العمل (برزق اليوم باليوم) المتأصل في سيكولوجية إنسان السودان ففي كل تجاربنا النضالية السابقة ضد النظم الدكتاتورية نلحظ أن جل السعي النضالي ينصب على كيفية إزالة النظام القائم دون الالتفات لضرورة تجهيز البديل القادر على تحمل مسئوليات المرحلة التي تلي ذلك لنجد أنفسنا فجأة قد سلمنا الوطن للفراغ حدث هذا بعد ثورة (21 أكتوبر) 1964م المجيدة وتكرر بعد انتفاضة (مارس/ ابريل) 1985م مما أدى لضعف المردود الايجابي للثورتين فلم يرتقي لمستوى التضحيات التي بذلت ولا القرابين التي قربت على مذبحهما. إن العجز في تجهيز البديل القادر على سد الفراغ الذي تولده عملية إسقاط نظام حكم امتدت سلطته لسنوات يدخل العملية الثورية برمتها في المجهول ويقود للتخبط في تنفيذ الشعارات والأهداف التي من أجلها ثارت الجماهير ويسهل على الأعداء الالتفاف عليها وإفراغها من مضامينها الثورية ومن ثم إجهاضها وهو بالضبط ما حدث في انتفاضة مارس/ ابريل المجيدة عام 1985م و يعد من أهم الأسباب التي أدت لحالة الكمون والبيات التي تعاني منه الحركة الجماهيرية اليوم مما أتاح الفرصة أمام التيار الإسلامي لتحقيق حلمه في الحكم منفردا طوال العشرون عاما الماضية دون معارضة تذكر تعكر عليه صفو حلمه لأن من يأمل في أن يقود معارضة فاعلة دون سند جماهيري فاعل ومقتنع بجدوى البديل القادم يكون كمن يحرث في البحر ومن هنا تبرز أهمية طرح هذا المقال في هذا التوقيت بالذات ولو اختلف معي البعض. نعم إن شعب السودان يأمل ويطمح في أن يحكم ديمقراطيا ومدنيا ولكن في نفس الوقت يرفض تكرار مهزلة التجارب الديمقراطية السابقة وإعادة أخطائها ووعودها الكاذبة فهو يريد ديمقراطية على أسس جديدة مبرأة من جميع شوائب ومثالب التجارب الماضية فليس من العدل أن تضحي الجماهير بالأرواح والمهج ثم يأتي من يتربع على سدة الحكم ولا يراعي فيهم ذمة ولا ضمير فلقد انتهى هذا العهد وولى بغير رجعه وعلي قياداتنا السياسية في كافة الأحزاب السودانية أن توطن النفس على هذا المستجد وتعيه جيدا إذا ما أرادت أن تستمر كقوى فاعلة لها وجود حقيقي على ساحة العمل السياسي. فشعب السودان قد مل وسئم حكام يأتون للحكم باعتبارهم أصحاب حق تاريخي في حكم البلاد والعباد وكأن رحم الوطن قد عقر من بعد ميلادهم، كما يرفض ديمقراطية أساسها المخاصصة والتعويضات واللهث وراء المكاسب الشخصية والحزبية الضيقة والمحسوبية (ففضيحة عزل الوزير الهمام أبو حريره ما زالت حاضرة بقوة في الأذهان) ، ويكره ديمقراطية المتاجرة بالتراخيص التجارية والإدعاء الكاذب بأن ( البلد بلدنا ونحن أسياده) ، ولا يرغب في ديمقراطية التسيب وغياب نواب الشعب عن جلسات البرلمان وجلوسهم في المقهى (المكندش لطق الحنك) وتناول البارد والساخن من المشروبات والوجبات من جيب دافعي الضرائب بينما هم يلهثون تحت هجير الشمس طلبا لما يسد رمق أسرهم ، كما ويرفض ديمقراطية الانفلات والفوضى من سب ولعن في الصحف ووسائل الإعلام ، ولا يريد ديمقراطية إهمال القوات النظامية والجيش ولا التفريط والإفراط ، ولا ديمقراطية التحيز لإقليم بعينه أو فئة بعينها أو اسر لحسبها ونسبها ، وأيضا لا يريد ديمقراطية تسيب النقابات وهجر العمل واختلاق الذرائع لإعلان الإضرابات لأبسط الأسباب باعتبارها حق ديمقراطي دون مراعاة للوضع الاقتصادي والمالي للبلاد ، فالنقابة الوطنية القوية هي من تجيد التعاطي مع الواقع ويحترف قادتها فن الممكن بحيث تحفظ للعمال حقوقهم ولمسيرة الإنتاج أهدافها وللدولة هيبتها عموما لقد مقت الشعب وسئم (الديمقراطية التي إن شالها كلب ما في زول بيقول ليه جر) رحم الله الجميع وغفر لهم. إن شعب السودان من الشعوب العاشقة للديمقراطية بل هو متبتل في محراب هوائها فعلى الرغم من اكتوائه بنار تجاربها وعثراتها السابقة ظل إيمانه بان علاج أزمات الديمقراطية بمزيد من الديمقراطية قويا راسخا في عقله ووجدانه مما يدل على عمق هذا العشق والذي سوف يدفعه بلا شك لاقتلاع نظام الإنقاذ البغيض ولن يطول الانتظار بإذن الله. تيسير حسن إدريس 02/11/2010م