[email protected] كَان حَظ ونصيب (نفيسة) في الزواج أفضل من نصيب أخواتها، فقد تزوجت من التاجر (تاج السر) وعاشت معه في سعة من الرزق مرتاحة الحال والبال.. عاشت في كنفه لا تشكو من سوء طوال سنوات زواجهم التي رزقهم اللّه فيها بخمس من البنات، ولكن شاءت المشيئة أن لا يرزقوا بصبي يحمل اسم والده ويقوم على رعاية شؤون أمه وإخواته من بعده.. كانت (نفيسة) إمرأة حادة الطباع.. صَعبة المراس.. قوية الشكيمة، ولكنها كانت دائماً بما اشتهرت به من حصافة، تضع مسافة من الاحترام وحُسن التعامل مع زوجها، فلم تشكو حياتهم معاً من منغصات الحياة والمناكفات التي تفتعلها النواشز من الزوجات مع أزواجهن، حتى توفاه اللّه وهو راض عنها بعد قرابة الربع قرن من الزواج. لم تضطرب وتيرة وروتين حياة (نفيسة) بعد وفاة زوجها كثيراً، ولم ترضخ لإلحاح أخواتها بأن تعود مع بناتها لتعيش معهم في بيت والدها حتى تكون تحت رعاية أسرتها، وفضلت البقاء في بيتها الكبير، والذي كان زوجها قبل وفاته قد سَجّله باسمها - حسب طلبها - حتى لا تعاني من مَشاكل الورثة مَع أهله إذا ما - بعد طول عُمر - وافته المنية وتركها وحيدةً مع بناتها. مَرّت سنوات على وفاة (تاج السر) عَاشت فيها (نفيسة) مع بناتها، وقد أحكمت قبضتها على تَصريف شُؤونهن حتى زوّجت آخر واحدة فيهن.. ولكن ما لم توفق فيه (نفيسة) - ليس بإرادتها - وإنّما لحكم القسمة والنصيب، هو اختياراتها لأزواج بناتها.. فَقد كَانَ القاسم المشترك بينهم أنّهم مجرد موظفين (كَحيانين) لا يَمتلكون من مَتاع الدنيا سَوى مَرتباتهم، التي كانت تحتاج منهم لمهارة الحواة في اللعب بالبيضة والحجر لتكفيهم حتى نهاية الشهر، ولذلك ودون أن تشعر (نفيسة) كَانت كل واحدة من بناتها المتزوجات قد عادت بزوجها وأبنائها لتعيش معهم في البيت بعد أن عجزت مرتباتهم عن الإيفاء بالمعايش، ناهيك عن (حق الإيجار).. وهكذا ودون خاطر (نفيسة) أو رضائها، كان البيت قد تحول لمعسكر حربي ملئ بالفواصل والسواتر، التي تفصل كل بنت وأسرتها عن أسرة شقيقتها الأخرى، بينما ضج ما تبقى من حيشان البيت بعد التقطيع والتقسيم، بجيوش العيال ومعاركهم الدائمة طوال اليوم وصراعهم حتى على الماء البارد الذي لم يَعد يكفي الجميع. مع تقدم (نفيسة) في العمر ازدادت طباعها حدة وجفوة وصلابةً، وبدلاً من أن تهنأ وتسعد بوجود بناتها وأحفادها حولها، صارت في حالة غضب وضيق دائم من الشغب والضجيج، الذي أفسد عليها نظام وروتين حياتها التي كانت تعيشها بقواعد مقدسة للنظام والنظافة والترتيب، لذلك مع مرور السنوات تحوّلت تلميحاتها لبناتها لتصريح صريح، بأن يعتمد أزواجهن على أنفسهم ويقوموا بتوفير السكن لأسرهم بدلاً من أن ينوموا على ظهرها على حسب ظنها.. ولكن على طريقة العين بصيرة واليد قصيرة كانت ردود الأزواج على زوجاتهم بأن (من وين عاد؟.. براكم عارفين حالة البير وغطاها). في ذات عصرية عندما تآمر شئ من بوادر الخرف مع الضيق والزهج المتسبب به شجار العيال الذي أيقظها (عكرة) من نومة العصرية.. جرّت (نفيسة) ثوبها الذي كانت تتوسده وتسلّلت خارجة من غرفتها.. توجّهت صوب الباب وفتحته وخرجت، دون أن تنتبه إليها واحدة من بناتها المشغولات ب (ونسة العصرية)، بعد تناول الغداء مع أزواجهن وتركهن للعيال ليعكروا صفاء جدتهم ويقطعوا نومتها. سارت (نفيسة) عبر طرقات الحي حتى وصلت لدكان (محلات بيت الهنا لسمسرة العقارات) الكائن على ناصية الشارع الرئيسي على أطراف الحي، طرقت على الباب الخشبي الصغير في واجهة المحل ودخلت. بعد قرابة الأسبوعين من تلك الزيارة السرية لمحل بيع العقارات، والتي أعقبتها (نفيسة) بالعديد من الزيارات دون علم بناتها.. عادت ذات مساء بعد المغرب للبيت ونادت على بناتها ليجتمعوا معها في غرفتها.. هال البنات ما رأينه في غرفة أمهن من (بقج) و(ربط) وحقائب (مستفة).. طلبت منهن الجلوس فبحثت كل واحدة منهن لنفسها عن موضع جلوس بين أكوام العفش وصاحت إحداهن في شفقة: ده شنو يمة العفش المستف ده؟ عايزة توديهو وين؟ أجابتها (نفيسة) في هُدوءٍ: ده عفشي وأنا راحلة.. صاحت الفتيات عليها في دهشة (في شنو مالِك؟.. الزعّلك منو؟) (ململمة عفشك راحلة وين؟)....... فأجابتهن في برود: أنا بعت البيت فوق راسكم عشان نرتاح.. يلاّ خلوا كل واحد في رجالكن المايلين ديل يتوكر يشيل شيلتو براهو!! الرأي العام