أرى في الصحف كثيراً هذه الأيام، حديثاً عن العيد الخمسين لتلفزيوننا القومي، والعيد السبعين لإذاعتنا القوميّة. وتتعدد المناسبات الإعلامية في بلادنا، وهي مناسباتٌ تثير في نفوسنا نحن الإذاعيون الشجن، وحلو الذكريات ومُرها. و على الرغم من كثرة تلك المناسبات الإعلامية، التي أُقيمت على مَر السنوات، لم يكن لي شرف حضور أي منها، عدا المؤتمر الأخير للصحفيين العاملين في الخارج. ومما يُثار في نفسي من ذكريات؛ ذكرى ذلك اليوم الذي التحقتُ فيه بالإذاعة مُذيعاً، في تحقيق لأمنية كانت تلازمني منذ صباي الباكر وأيام الطلب الأولى، ثم ذكرى إنتقالي منها إلى التلفزيون، الذي مالت نفسي إلى العمل فيه ، إبان وجودي في الاذاعة، والذي مكثتُ فيه فترة أطول مما مكثتُ في الإذاعة. إبان دراستي الهندسة المدنية في المعهد الفني العتيد، عطّر اللّه ذكره، كتبتُ عدداً من الموضوعات في الصحف اليومية انتقد فيها بعضاً مما كان يُذاع من الإذاعة، وكان بعضٌ من ذلك النقد، عن لغة بعض المذيعين. كما كتبتُ موضوعات للإذاعة في مجال النقد الأدبي، وشيئاً من شعري، وذلك في برنامج الأدب الذي كان يقدمه الأستاذ المبارك إبراهيم عليه رحمة الله، ثم بعده الأستاذ أبو القاسم عثمان أمَدّ اللّه في عمره. ذات يوم في العام 1966 علمتُ أن الإذاعة أعلنت رغبتها في توظيف خمسة مذيعين، مطلوب أن يتوافر فيهم كذا وكذا من الشروط، وستُعقد لجان معاينة لاختيار أولئك الخمسة المذيعين. شعرتُ أن تلك الشروط تتوافر في شخصي؛ فقررتُ أن أتقدم بطلب أدخل به المنافسة. فتقدمتُ بطلبي إلى قسم شؤون الموظفين بوزارة الإعلام بالخرطوم، حيث كانت تقدم الطلبات، وعلمتُ بعد أيام من تقديم الطلب أن عدد المتقدمين بلغ مائة وأربعة وثمانين متقدماً. ثم علمتُ بعد أيام أن ذلك العدد صُفيَ وقُلص إلى أربعة وثمانين متقدماً، وستُشكل لاختيار الخمسة المتقدمين لجنةٌ برئاسة مدير الإذاعة آنذاك السيد محمد صالح فهمي، وعضوية نائبه السيد محمد العبيد، والإذاعيين السيدين ياسين معني ومحمد خوجلي صالحين، عليهم رحمة الله جميعاً. وتقرر أن يمثُل أمام تلك اللجنة عشرون متقدماً يوم الاثنين، وعشرون يوم الثلاثاء، وعشرون يوم الأربعاء، وأربعة وعشرون يوم الخميس. كانت تتنازعني مشاعر مختلفة؛ فتارة أقول إن ما كتبتُه من مقالات صحفية انتقد فيها الإذاعة قد يكون عاملاً عائقاً لاختياري، وبالذات أن لجنة الاختيار هي من أهل الإذاعة أنفسهم، وتارة أقول إن ما قدمته من الإذاعة من موادَ من شعري؛ ومواد نقدية أتناول فيها آراء عدد من النقاد في بعض الموضوعات الأدبية، قد يزيد من أسهمي في تلك المنافسة. وأثناء وجودي في مبنى الإذاعة ذات يوم، لتسجيل مادة أدبية أعددتُها، وذلك قبل أيام من موعد المعاينة، لقيتُ صدفة مدير الإذاعة محمد صالح فهمي فسألته إذا كان لأحد المتقدمين للمنافسة سبقُ مساهمات في برامج الإذاعة؛ هل يُحسب له ذلك فيرجح من أسهمه في المعاينة فقال لي لا، إننا لن نأخذ ذلك في الإعتبار ويتوقف اختياره على أدائه في لجنة المعاينة. فقلتُ في نفسي؛ لقد إنتفى ذلك العامل الإجابي فبقي العامل السلبي، وهو عامل الموضوعات الصحفية التي كتبتها في نقد الإذاعة. في صباح يوم المعاينات وكنتُ من دفعة يوم الأربعاء واقفاً في مدخل الإذاعة وإذا بمحمد العبيد يقول لمحمد خوجلي صالحين بخصوص جلسة المعاينة؛ حيث تقابلا عند الباب: (أنا ومحمد صالح ماشين الوزارة لاجتماع وجاييكم الأخ علي شمو للمعاينة). كان السيد علي شمو مديراً للتلفزيون آنذاك، فشعرتُ بشئ من الإرتياح لهذا التعديل الذي طرأ على لجنة معاينتنا، لإدراكي أن السّيّد علي شمو سيترأس تلك اللجنة، وعلى الأقل أن اسمي لن يعني له شيئاً. بعد قليل جاء السيد شمو وعُقدت اللجنة في استديو «ب» كما كان يُطلق عليه تلك الأيام، ونودي علي إسمي بعد أن قابل اللجنة عددٌ من المتقدمين قبلي. وفعلاً وجدتُ السيد شمو كما توقعتُ يترأس اللجنة، التي كان بها معه السيدان ياسين معني ومحمد خوجلي صالحين. وكان السيد شمو هو أول من ألقي عليَّ سؤالاً، ثم تبعه السيد ياسين معني بسؤال ثم السيد محمد خوجلي صالحين، ثم توالت الأسئلة من هنا وهناك. ولم تفتني فرصة أن أذكر لهم بعضاً مما اشتركتُ به من مواد أدبية في الإذاعة، وكان أول موضوع ذكرته لهم هو رأيي في (تجني مدرسة الديوان النقدية على أمير الشعراء أحمد شوقي)، ثم موضوع بعنوان: (هل نفدت أغراض الأدب في عصر العلم؟) ثم ذكرتُ أسماء قصائد من شعري سجلتها للاذاعة. انتهت المعاينة، وعند خروجي وإغلاقي باب الإستديو خلفي، قال لي مهندس الصوت، الذي كان يتولى تسجيل تلك المعاينات على شريط: (لقد أثنى علي شمو عليك) فتفاءلتُ بثنائه خيراً، كما تفاءلت من قبلُ بخبر حضوره لجنة المعاينة. وبعد أيام أُعلنت نتائج المعاينات، وكان الذين أُختيروا هم الإخوان: خليل الشريف، وعمر النصري، وعبد الله وداعة، وشخصي، ثم عبد الكريم قباني. فانضممنا إلى سلك الإذاعة وكان ذلك في العام 1966م. وبعد أيام تدريبٍ طال مداه، وُضِعنا على جدول العمل، وباشرنا المهام التي أوكلت إلينا، ومررنا بحلو التجارب ومُرها هناك. بعد ثلاث سنوات من ذلك التاريخ، وفي يوم من أيام عام تسعة وستين، حدث لي شئ من غرائب الاتفاق، إذ كنتُ واقفاً في النقطة ذاتها التي كنتُ أقف فيها عند مدخل الإذاعة، مستعداً لدخول المعاينة، وهي النقطة التي قال عندها محمد العبيد لصالحين سيأتيكم الأخ علي شمو للمعاينة، فإذا بمحمد العبيد يقول لصالحين كذلك: (الأخ علي شمو مُصِر يأخذ أيوب عنده في التلفزيون). فسُررت لذلك، ولم يكن هو يدري أنني سمعتُ ما قال. فبعد أيام قليلة كتبتُ طلباً، أطلب فيه الموافقة على نقلي إلى التلفزيون، لعلمي برغبة مدير التلفزيون في إنضمامي إليهم. وبعد أيام جاءت الموافقة ونقلتُ إلى التلفزيون، فقالبتُ السيد علي شمو بمكتبه برفقة الأخ لعزيز الأستاذ أبي بكر عوض عليه رحمة الله، رئيس مكتب العلاقات العامة بالتلفزيون آنذاك، وكانت مقابلة السيد شمو لي طيبة جداً، حيث كان ودوداً جداً في استقباله لي وترحيبه بي، مما أدخل السرور في نفسي، واعتبرتُ ذلك بدايةً طَيِّبةً لي في التلفزيون. إنضممتُ إلى مكتب العلاقات العامة، حيث كان المذيعون يوزعون على مختلف الأقسام. فوجدتُ هناك الأخ أحمد سليمان ضو البيت عليه رحمة الله وآخرين، ثم إنضم إلينا فيما بعد الأخوان العزيزان مهدي إبراهيم وحسن عبد الوهاب. بعيد أسابيع من إنضمامي الى التلفزيون، اتصل بي الأخ أبو بكر عوض، في مساء يوم من الأيام، يبشرني بأنّه وقع عليّ الاختيار لتغطية بعثة الحج، وعليَّ أن أستعد للسفر، فكانت تلك أقيم هدية يقدمها إلي التلفزيون، وقمة تفاؤلي بشخص السيد علي شمو منذ ترؤسه لجنة معاينتنا. فوجدتُ التلفزيون بالنسبة إليَّ بعد ذلك أوسع داراً، وأبرد ظلاً، وأعذب مشرباً، وأطيب سامراً. بعد فترة من الزمن ترك السيد علي شمو التلفزيون إلى رئاسة الوزارة، وتعاقبت علينا ضروب من الإدارات مختلفة السياسات في تسيير العمل. فبقيتُ فيه إلى أن التحقتُ بهيئة الإذاعة البريطانية في لندن التي أمضيتُ فيها المدة الأطول من خبرتي الإعلامية، وهي ثلاثة وعشرين عاماً. وأخيراً أختم هذه الذكريات بعاطر تهنئتي لأستاذنا البروفيسور علي شمو، لما نَالَهُ من سامي التكريم، على يد فخامة السيد رئيس الجمهورية. الرأي العام