نص رأي «الحركي الإسلامي» و «القومي الجنوبي» ... حصاد مشروعين خالد التيجاني النور الاستفتاء على تقرير المصير الذي مارسه مواطنو جنوب السودان الأسبوع الماضي بإقبال منقطع النظير وبحماسة وفرحة لا تخطئها العين، وبإرادة وتصميم في طلب الانعتاق والتحرر، كانت واضحة للعيان بدرجة لا تحتاج لشهادة من مراقبين دوليين أو محليين لمنحها شهادة نزاهة، كما لن يغير من جوهر مضمون رسالتها السياسية حدوث تجاوزات رافقتها. وعلى الرغم من أن محصلة هذا الاستفتاء كانت معلومة حتى قبل إجرائه وكانت أبرز مؤشراته التسليم بذلك في أوساط النخبة الشمالية بما في ذلك حزب المؤتمر الوطني الحاكم، إلا أنه مع ذلك يظل حدثاً وطنياً فارقاً فقد وضع رغم طبيعته الرمزية خطاً فاصلاً بين حقبتين في تاريخ السودان الحديث. ولعل أهم ما يميز هذا الاستفتاء الذي كتب الفصل الأخير في كتاب النظام السياسي السوداني، سمه القديم إن شئت أو ذاك الذي تشكل بين يدي الاستقلال واستمر طوال عهد الحكم الوطني، انه يقترب من حسم الصراع القديم والمتجدد على تشكيل طبيعة الدولة السودانية، وهو الذي بدأ مع ارهاصات ولادة الدولة السودانية المستقلة في منتصف خمسينيات القرن الماضي، واستمر طيلة عهود الحكم الوطني حتى بلغ أوجه في ظل السباق المحموم بين المشروعين اللذين يمثلان طرفي النقيض في الحالة السياسية السودانية، والمعني هنا المشروع السياسي ل«الحركة الإسلامية السودانية»، والمشروع السياسي ل«القوميين الجنوبيين» الذي شكل الحركة الشعبية لتحرير السودان آخر تجلياته. وما من شك أن الصراع المحتدم بين الطرفين على مدار العقدين الماضيين على جبهات الحرب والقتال، أو في ساحات التفاوض والسلام قد كشفت الكثير عن الفرق في مدى القدرات الاستراتيجية والمهارات التكتيكية التي يتمتع بها كل طرف، وإلى اي مدى استطاع كل من المشروعين، مشروع «الحركيين الإسلاميين»، ومشروع «القوميين الجنوبيين» في استخدام تلك القدرات والمهارات للاقتراب من تحقيق أحلامه وأهدافه أو الابتعاد عنها. كان رهان «الحركيين الإسلاميين» يقوم على فرضية تحقيق «مشروع حضاري» يمكن لنموذج إسلامي يستوعب التنوع والتعدد الديني والعرقي في السودان عبر منح وضع خاص للجنوب يستثنيه من «احكام الشريعة الحدية» ويمنحه قدراً من الحكم الذاتي مقابل بقائه ضمن الدولة السودانية الموحدة، وهو مشروع قام على زعم كبير بتحقيق نموذج نهوض ليس وطنياً فحسب بل أممياً بامتياز. ولعل أول ما لفت الانتباه إلى أن مشروع «الحركيين الإسلاميين» جاء خصماً على مشروع «القوميين الجنوبيين» ما جاء في بيان إنقلاب 89 الذي انتدب نفسه لمهمة مواجهة الطموحات الجنوبية المتمددة شمالاً تحت وقع تقدم الجيش الشعبي لتحرير السودان وتقهقر النظام السياسي في الخرطوم، والمحافظة على وحدة البلاد، والتصدي لمحاولة انتقاصها من أطرافها. أما المشروع السياسي للحركة الشعبية فقد دار ولا يزال يدور جدل كبير حول حقيقته، هل هو مشروع لسودان جديد موحد على أسس تتجاوز مسلمات تصنيف السودان ضمن المشروع العروبي الإسلامي، أم هو محض مشروع انفصالي مهموم بحدود الجنوب الجغرافية، فرضت عليه لعبة التحالفات مع قوى شمالية معارضة توسيع مدى اهتماماته إلى خارج أطر انشغالات نخبة «القوميين الجنوبيين». وليس سراً أن جون قرنق صاحب نظرية «السودان الجديد» ربما كان الوحدوي الوحيد على طريقته وسط النخبة الجنوبية، وهاجرت إليه بعض النخب الشمالية التي رأت في طرحه ما يدعم تصوراتها لمستقبل السودان، ولكن مع نجاح قرنق في فرض رؤيته لتصبح محوراً لخطاب الحركة السياسي فإن افتراض أن السعي للوحدة الجديدة كان خياره الوحيد أمراً محل نظر، فالقدر لم يمهله لنرى إن كان سيظل وفياً لاطروحته الوحدوية، أم سيجرفه تيار القوميين الجنوبيين الجارف. وبغض النظر عن الجدل المثار بشأن من ابتدر ممارسة تقرير المصير حلاً لأزمة الجنوب وهو أمر ظل مطروحاً مع تفاوت الجدية بشأنه منذ مطالع الاستقلال، إلا أن الثابت أن أول من طرحه وهو على دست الحكم كانوا هم «الحركيون الإسلاميون». لكن الثابت أيضاً أن «وحدوية» قرنق لم تمنعه من التنازل عن موقفه وتبني تقرير المصير في تسوية مشاكوس، لقد كان واضحاً أنه راهن على أحد الحسنيين أن ينجح في استخدام اتفاقية السلام الشامل كمعبر لتحقيق رؤيته للسودان الجديد عبر التحالف مع قوى الهامش السوداني، فإن فشل في ذلك فالاتفاقية تضمن له أن يظفر على الأقل بحسنى الانفصال بما يحقق أحلام نخبة «القوميين الجنوبيين» الغالبة الساعية للاستقلال والزاهدة في طموحات قرنق «الوحدوية». لقد كانت اتفاقية نيفاشا إنجازاً تاريخياً مهماً نجح في وقف أطول حروب القارة الإفريقية عمراً، ولكنها لم تحسم مردود السلام الشامل الذي تفاءلت به إذ تركت الباب مفتوحاً لتحديد مصير وحدة السودان، كانت المهمة سهلة ل«الحركة الشعبية» لأنها كانت تعرف ما تريد تحقيقه، وقد كان لغياب قرنق او تغييبه المفاجئ عاملاً حاسماً في ذلك، بينما عجز «الحركيون الإسلاميون» عن تحويل الاتفاقية إلى نصر يحفظ وحدة السودان، لأن حزبهم الحاكم لم يكن يعرف ما يريد بالضبط، أو لأن قادته منقسمون بين انفصاليين متدثرين بثياب الوحدة، وبين وحدويين عاجزين عن دفع مستحقات الحفاظ على الوحدة. ومهما يكن من أمر فإن قراءة مردود مشروعي «الحركيين الإسلاميين»، و«القوميين الجنوبيين» بعد عقدين من المدافعة والسباق على تحديد مصير ومستقبل السودان طغى فيها دوريهما على ما عداهما من القوى السياسية السودانية في الشمال والجنوب، يشير إلى أن الحصيلة تصب لصالح «القوميين الجنوبيين» الذين يقتربون من تحقيق مشروعهم الاستقلالي بعد أكثر من نصف قرن من السعي والكدح، فيما يتراجع مشروع «الحركيين الإسلاميين» بشدة فهو لم ينجح فحسب في عدم الوفاء بالتعهدات التي قطعها على نفسه غداة انقلاب 89، بل عكس صورة سلبية لتجربة «الحكم الإسلامي» في بلد متعدد، إذ حشر المشروع في خانة من أفضت تجربته في السلطة إلى تقسيم البلاد وشرذمتها، وقبل ذلك كان أول ضحايا فشل تجربته في الحكم إذ عجز عن الحفاظ على الوحدة حتى داخل تنظيمه السياسي فانقسم بين مؤتمرين وطني وشعبي شكلا ظلاً باهتاً ل«الحركة الإسلامية» ، وبالضرورة فإن الفشل في توحيد الجماعة المستندة على إرث فكري وعقدي وثقافي واجتماعي واحد فمن البديهي أن يفتقر للرؤية والإرادة والقدرة على توحيد بلد تتعدد فيه الجماعات العرقية، والدينية وتتنوع فيه الثقافات. ليس سراً ان النخبة الشمالية على امتداد طيفها السياسي كانت تنظر دائماً للنخبة الجنوبية نظرة دونية وتتعامل معها باعتبارها فريسة سهلة للإغراء والإغواء معروضة دائماً للشراء في سوق السياسة، لذلك لم تتعاط أبداً بجدية مع المطالب الجنوبية المشروعة إلا من باب القفز عليها بإرضاء السياسيين الجنوبيين، وتجاهل كسب قلوب وعقول غمار الناس من مواطني الجنوب، لقد صوت الجنوبيون في الاستفتاء بأغلبية كاسحة تقترب من الإجماع على الانفصال ليس لأن ذلك هو موقف الحركة الشعبية أو لأنها فرضت عليهم ذلك، ولا لأنها زورت العملية، وهي على أي حال لم تكن محتاجة لذلك اصلاً، ولكن لأن مواطني الجنوب ظفروا أخيراً بالفرصة ليعلنوا رأيهم في سياسة ومواقف النخب الشمالية تجاه الجنوب، وتأتي هذه النتيجة الكاسحة المؤيدة للانفصال لتكشف مدى سوء التقدير السياسي للمؤتمر الوطني الحاكم الذي كان قادته يصرون على الزعم بأنه لو صوت الجنوبيون بحرية وجرت العملية بنزاهة فسيقفون مع الوحدة، وفي الواقع أن تسليم الحزب الحاكم بالانفصال كأمر واقع حتى قبل الذهاب إلى صناديق الاقتراع كان يشير إلى استدراك متأخر وإلى حقيقة فشل المشروع السياسي «للحركة الإسلامية» في كسب أفئدة الجنوبيين بمن في ذلك مسلمو الجنوب وهم ليسوا فئة قليلة. كانت للزعيم الراحل جون قرنق مقولة طريفة مفادها أن «الحركة الشعبية» و«الحركة الإسلامية»، على تناقض مشروعيهما، متفقان في شيء واحد فقط ويعملان معاً على تحقيقه، وهو تحطيم «السودان القديم»، وبالطبع كان الرهان على من يكسب السباق في تنفيذ مشروعه على أنقاض «السودان القديم»، وبالطبع يقترب «القوميون الجنوبيون» من تحقيق حلم الدولة المستقلة، فيما يكابد «الحركيون الإسلاميون» للحفاظ على السلطة فيما تبقى من وطن تتناقص أطرافه، بعدما تبدد حلم «المشروع الحضاري» الأممي. لقد أثبتت «الحركة الشعبية» مهارتها وتفوقها على «الحركة الإسلامية» في مضماري الاستراتيجي والتكتيكي على حد سواء، فقد نجحت الأولى ببراعة في تغيير مسلمات التاريخ والجغرافيا السياسية للسودان في غضون ما يقل عن ثلاثة عقود، باتجاه تحقيق حلم الذات الجنوبية بالاستقلال، فيما بدد «الحركيون الإسلاميون» جهود أكثر من ستة عقود في طلب التمكين لمشروعهم السياسي في السودان، وما وراءه، فلقد منحهم الانقلاب العسكري في العام 1989، سلطة سهلة، ولكنه أيضاً كان طريق الخروج السهل بلا عودة، لأن المشروع تحول من فكرة ورؤية للتغيير السلمي، إلى الوقوع تحت قبضة منطق سلطة القوة، وأصبحت السلطة أكثر من مجرد وسيلة لتحقيق الأهداف، إلى غاية في حد ذاتها، فالوصول إلى السلطة بالقوة يعني ألا سبيل للمحافظة عليها إلا بذلك، وتستمر لعبة الهروب إلى الامام لتضيع في خضمها مقاصد الإسلام الحقيقية إلا من دعاوى بشعارات تبقى رسماً بلا رؤية ثاقبة ولا فعلا نزيها. ويبقى أثرها على السودان «كالمنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى». لقد تنكب مشروع «الحركيين الإسلاميين» الطريق لأنه غلب الذرائعية على النظرة الاستراتيجية، ولأنه أدمن تكتيكات الانفراد بلعبة السلطة دون اعتبار لجماعته الوطنية، وبالطبع على حساب متطلبات الوحدة الوطنية الضرورية في اللحظات المصيرية. لقد أحسنت «الحركة الشعبية» استغلال هذه النزعة الاستقصائية عند خصمها، ولذلك ما كان لها إلا أن تتفوق عليه. على أي حال من الصعب الجزم بأن اللعبة انتهت تماماً، فالصراع على تشكيل مستقبل السودان سيظل مفتوحاً على الاحتمالات كافة، ولكن كسب الشوط الاخير في هذا السباق سيبقى رهيناً بمن ينجح في تغيير قواعد اللعبة الراهنة، وهو أمر غير ممكن بغير مراجعات عميقة، وبغير الإقدام بجرأة على إصلاحات جذرية، فالتحديات الكبيرة والمصيرية لا تزال حاضرة بقوة سواء للدولة السودانية الجديدة في الجنوب، أو ما تبقى من الدولة السودانية القديمة في الشمال. الصحافة