شئ من حتي الفرق بين الانتفاضة الشعبية والفوضى الخلاَّقة د.صديق تاور كافي ٭ عنصر المفاجأة في الانتفاضات التي عمت الساحة العربية ولا تزال، تمثَّل في ردود الافعال المرتبكة سواء على صعيد الانظمة أو الحركات السياسية العربية أو على صعيد ما يسمى بالمجتمع الدولي، فما بين مشروعية التعبير السلمي للشعوب عن مطالبها التي تقرر هى سقفها، وتشبث الأنظمة الفاسدة بالسلطة بأي ثمن، وتقاطع المصالح الدولية مع مصالح الشعوب، سيطرت حالة ردود الافعال المرتبكة هذه، التي يمكن رصدها وتلخيصها في المواقف المترددة، مما يجري ابتداءً من موقف فرنسا وأمريكا الرسمي من بن علي في تونس، ثم مواقف الإدارة الامريكية مما جرى مع نظام حسني مبارك في مصر، ومواقف الاتحاد الاوروبي والأمم المتحدة والجامعة العربية كذلك. وقد شمل الارتباك حتى توصيف الحالة التي تجتاح المنطقة، فالحالة التي هى انتفاضة شعبية عفوية وتلقائية بمطالب مشروعة ضد نظم فقدت مبررات بقائها ووجودها، هى في نظر وزيرة الخارجية الامريكية هيلاري كلنتون (عاصفة هوجاء). وهو توصيف فيه احتقار للشعب وعدم الاعتراف بوعيه وبقدراته على تلمس الطريق المؤدية الى أهدافه. فالانتفاضة الشعبية هى عاصفة (ثورية) تسعى الى تغيير جذري في المحيط الذي تتحرك فيه، من وضع يتسم بالفساد والفقر والقهر والمهانة، إلى وضع مغاير له تماماً تسوده العدالة والكرامة الانسانية والحرية، وتوظيف ثروة البلد لأبناء الشعب وليس لزمرة الحكام وزوجاتهم ومحاسيبهم وأجهزة أمنهم. وبالتالي فهى انتفاضات وطنية الدافع والمسوغات والأداة التي هى جماهير الشعب، يتقدمها الشباب الوطني الشجاع المؤمن بحقه وبإرادة الشعب في مواجهة الفساد والاستبداد والعمالة لأمريكا وحلفائها. ٭ واتسمت ردة فعل الأنظمة التي مرت عليها موجة الانتفاضة الشعبية وأيضاً تلك التي تنتظر، اتسمت بمحاولات محمومة لخلط الأوراق والتشويش على المطالب وتشويه صورة من يقف خلفها وبالابتزاز، فكلها تربط ما بين بقائها والاستقرار ووحدة البلد والشعب. وهو نوع من الابتزاز والمساومة، حيث يُشاع بأن ذهاب النظام يعني انتشار الفوضى واختلال الأمن وانتشار الفتنة بين مكونات الشعب دينية (مصر) أو قبلية (ليبيا) أو جهوية (تونس)، ثم تنتقل المراوغة الى درجة أخرى باستخدام العنف البوليسي، حتى اذا لم يحقق نتائجه تستخدم المليشيات التابعة للحزب الحاكم وأنصاره، مع اتهام المحتجين بوجود أيادٍ أجنبية تحركهم ضد بلدهم وشعبهم، ثم إذا تجاوز الشعب هذه المرحلة يقترن التهديد ببعض التنازلات، حيث يكون السيف قد سبق العذل، وتبدأ أركان النظام في التفكك والانهيار. ٭ وهذه الحالة يمكن ملاحظتها بشكل واضح في انتفاضة الشعب المصري التي واجهت أشكالاً متطورة من محاولات الإجهاض والانحراف، ولكنها تمكنت من تجاوزها بوعي واقتدار كبيرين. فقد تم العزف طويلاً على وتر الفتنة الطائفية بين المسيحيين والمسلمين، ثم اُستخدم «البلطجية» ومرتادي الجرائم، وتم قذف المحتجين بقنابل الملوتوف من أسطح العمارات، وأطلق الرصاص الحي بواسطة القناصة، وتم التلويح باستخدام الجيش، وفي ذات الوقت أعلن الرئيس أنه لا ينوي ترشيح نفسه مرة أخرى، ثم أجرى بعد التعديلات في صفوف الوزارة وفي قيادة الحزب، في الوقت الذي بدأت فيه الفضائح تنتشر عن أملاك الرئيس وأسرته ورموز حزبه وحكومته، كما هو الحال مع سلفه بن علي في تونس وزوجته وزمرته. ٭ وبعض الأنظمة حاولت استباق حالة الانتفاضة بإجراءات اتصفت بالشكلية والاستغفال أكثر من كونها رغبةً في إجراء تغييرات جذرية شاملة تضع البلد في الاتجاه الصحيح. وأوضح هذه الحالات ما حدث في الكويت، وأوضح منه ما حدث في السعودية، حيث أعلنت الأخيرة عما سمَّته حزمة تنموية بأكثر من مئة مليار ريال سعودي، تمثلت في إعفاء عدد كبير من المسجونين بسبب الديون، وزيادة «51%» في المرتبات، باعتبار ذلك علاوة غلاء لموظفي الدولة، وتتكفل الدولة بنفقات دارسي بعض التخصصات في الخارج، ودعم ميزانية الإسكان ب «51» مليار ريال، وزيادة صندوق الاسكان ب «04» مليار ريال، ورفع مال بنك التسليف لعامين، وإعفاء جميع المتوفين من ديون الصندوق العقاري، ومليار ريال اضافي لميزانية الضمان الاجتماعي، وزيادة «05%» في ميزانية الجمعيات الخيرية، ورفع رأسمال بنك التسليف ل «03» مليار ريال، ودعم أبناء الأسر المحتاجة في الجامعة، وإعانة مالية لمدة عام للعاطلين والباحثين عن العمل، وعشرة ملايين ريال لكل نادي ادبي، ودعم الأندية الرياضية. ٭ وفي اليمن أخذت الانتفاضة منحى جديداً بظهور أنصار النظام باعتبارهم طرفاً مواجهاً للمعارضين والمحتجين على حكم الرئيس علي عبد الله صالح، وقد ظهر هؤلاء بشكل شديد الغوغائية والتخلف بوصفهم بديلاً للمؤسسات المعنية بحفظ النظام في الدولة، فمن حق أية جماعة من المواطنين أن تعبرّ عن نفسها (معارضة أو موالاة) بشكل سلمي دون التعرض للممتلكات والمنشآت التي هى ملك الشعب نفسه، وعلى الأجهزة الرسمية أمنية أو قانونية أن تحفظ للجميع هذا الحق دونما إنحياز أو محاباة. ٭ وفي ليبيا مثَّل خطاب الرئيس الليبي معمر القذافي وابنه صدمةً كبيرةً لكل الرأى العام القومي والعالمي، حيث دعا الرئيس الذي يتوجب عليه الحرص على النظام والمؤسسية، دعا أنصاره الى الزحف على المحتجين وإبادتهم، ووصف هؤلاء بالمقملين والجرذان والكلاب الضالة والحشاشين والسكرانين.. إلخ، وكانت هذه صدمة لا تقل عن استخدام العنف بطريقة مفرطة ضد هؤلاء العُزل، متمثلاً في القصف بالصواريخ والطائرات والحرق واستخدام المرتزقة وغير ذلك. بيد أن الأنكى هو محاولة القذافي اللعب على وتر التكوين القبلي باعتباره عنصر اختراق ضد معارضيه. ٭ وفي اليمن حاولت بعض أطراف المعارضة دس مطلب انفصال جنوب اليمن ضمن المطالبة بإسقاط النظام، وفي كل الأحوال فإن الأمر يطرح مسألة (الفوضى الخلاَّقة) كإحدى الوسائل التي تستخدمها الأنظمة أو المعارضات المشبوهة لإجهاض الثورات، مما يتطلب قدراً عالياً من الوعي بالأهداف الكبرى لأية انتفاضة شعبية، حيث أنه من الشروط الحاسمة الأساسية لإبقاء الانتفاضات في خدمة الأهداف الوطنية للقطر والاهداف القومية للأمة، هى معرفة الثوار أن الانتفاضات تواجه من قبل الأنظمة والمخابرات المحلية والاجنبية بأساليب ملتوية وخبيثة وليس بالعنف وحده، ومن بين تلك الأساليب محاولات الاحتواء بدس عناصر مشبوهة في صفوفها للتأثير على مسارها والسيطرة عليه، وتحويلها الى مجرد عملية تنفيس عن الغضب المتراكم. ٭ لذلك فإن المعيار الحاسم للتمييز بين الانتفاضة الوطنية والعمليات المشبوهة، يتجسد في الأهداف التي تتبناها القوى والحركات المحركة لها، والتي يجب ألا تفصل بين الشعارات المركزية لها مطلبياً ووطنياً وقومياً في ازدواجية الحرية والعيش الكريم والاستقلالية. ٭ كما أن تخريب منشآت الدولة والمواطنين أثناء أية انتفاضة، ليس من مظاهر الانتفاضة الوطنية، بل هو عمل تخريبي تقوم به جماعات مندسة تحركها مخابرات الأنظمة بهدف الإرباك وخلط الأوراق. ٭ إن وصف (الفوضى الخلاَّقة) يعود إلى أنها فوضى مسيطر عليها وليست فوضى منفلتة، لأن أهدافها مرسومة ومدروسة، وهى نشر اليأس من حدوث تغيير يخدم الشعب ولا يؤذيه أو يضلله ويحقق الكرامة والديمقراطية. ٭ وتقوم هذه «الفوضى الخلاَّقة» على استغلال حالات التشرذم والصراعات والتناقضات الثانوية، لإعادة تشكيل المجتمعات والحكومات وفقاً لمصالح الولاياتالمتحدة والدولة الصهيونية. الصحافة