كان عبود يعيش حياة عادية، يرعي البهائم ويساعد والده في الزراعة، يحلب البقرة كل مساء ويذهب يوم السبت إلى السوق لشراء أغراض البيت، وفي المساء بعد أن يؤدي صلاة العشاء في المسيد كان يخرج لينضم لأقرانه للسمر في ضوء القمر، حيث يجتمع الصبية أحيانا حول أحد القادمين من الخرطوم يستمعون لوصف أسطوري عن الحياة في العاصمة . عبود أثبت آنذاك أنه مستمع جيد، كان يكتفي بأن يجلس القرفصاء ويرخي أذنيه متخذا وضعا حياديا لا ينبئ عن وجوده أو عدمه، يرخي أذنيه حتى تقاربا الأرض، فرسخت في ذهنه صور مثيرة : فتيات مثل الأقمار لا علاقة لهن بهؤلاء اليابسات اللائى يراهن في القرية يرعين البهائم، فتيات مثل الأقمار يرتدين بناطلين الجينز، وكان ذلك يثير سرا في قلبه أحقادا حضارية، إذ كيف يسمح لبنت بارتداء بنطلون بينما هنا في القرية ينظر الجميع باستهجان إلى من يرتديه من الرجال . رسخت في ذهنه صورة خيالية حالمة لمدينة الخرطوم، فرآها في ضوضاء الفجر الوليد، مدينة ساحرة مغسولة بالثلج والكهرباء، لا يحتاج الإنسان فيها ليحقق حلما ما ولا حتى ليحلم، مجرد ضغطة زر صغيرة تحقق كل الأحلام . كان يمكن لعبود أن تمضي حياته إلى الأبد علي نفس الوتيرة، يساعد والده في الزراعة، ويرعي البهائم ويحلب البقرة كل مساء بعد أن يعلفها بكومة ضخمة من الحشائش التي يجمعها من حقول الفول المصري، لولا أن القصص المبهرة التي سمعها عن العاصمة أحدثت شرخا خطيرا غير ملحوظ في قناعاته اليومية، وذات صباح وكان اليوم يوم سوق السبت ارتدي جلبابه ووضع فوق رأسه عمامة قديمة من قماش الكرب وركب الحمار واتجه إلى السوق كعادته كل أسبوع لشراء مستلزمات البيت، وكالعادة أعطاه والده نقودا إضافية لشراء تبغ وسعوط، إلا أن عبود لم يدخل السوق، وضع النقود التي كان مفروضا أن يشتري بها مستلزمات البيت وسعوط والده في جيبه وباع حمار والده لأحد تجار الحمير واستقل البص إلى امدرمان . طوال الرحلة الشاقة إلى امدرمان عبر الصحراء لم يفكر عبود في أسرته ولا في والده، اكتفي فقط بمحاولة إكمال الصورة الحالمة التي رسخت في ذهنه عن العاصمة، متخيلا النعيم القريب الذي سيدخله حيث العمل متاح والرفاهية بلا حدود، تخيل نفسه لحظة وصوله للعاصمة والفتيات الجميلات اللائى سوف يستقبلنه . وفي النهاية وصل البص العتيق الشبيه بسفينة نوح من فرط ما حمل من بشر وعتاد، وصل صبيحة اليوم التالي إلى مدينة أمد رمان وبدلا من الفتيات الجميلات اللائى حسب أنهن سوف يستقبلنه، وجد في انتظاره : دفار الخدمة الإلزامية ! تم ترحيله مباشرة إلى معسكر في منطقة المرخيات، وهكذا بدلا من الاستقبال الحالم الذي استعد له نفسيا طوال عدة اشهر فوجئ باستقبال عسكري، وبدلا من رفاهية الخبز التوست الساخن والكنافة وجد نفسه في معسكر بين جبال الصحراء وفي اليوم أول جعله المدرب يطوف حول المعسكر مائة مرة وهو يردد بصوت مرتفع : أنا تاني ما بسف السعوط . بعد أن ضبط وهو مدقر السفة أثناء أول حفل إدارة داخلية استمر واقفا فيه ويديه إلى اعلي طوال الليل حتى تيبست أعضاء جسده . ورغم انه اكتشف أن حياة العسكر لا تخلو من تسلية إلا انه سئم المعاملة القاسية، وذات مساء أثناء أداء صلاة العشاء انسحب من الصلاة بهدوء ولاذ بالفرار، تتبع أضواء مدينة أمد رمان حتى وجد نفسه في الصباح بعد عدة ساعات من المشي في سوق ليبيا، أصابته خيبة أمل في البداية حينما رأي الجمال والبهائم والنسوة بائعات السعف والشاي مما جعله يردد دون وعي : يي دي الخرطوم ! وبعد صعوبة وبمساعدة بعض الأغراب الطيبين استطاع الوصول إلى منزل خاله في أم بدة، عمل مع خاله في متجره الصغير في الحلة، ورغم أنه ذاق حلاوة بعض الاستقرار وشرب البيبسى البارد واستمتع باستئناف أحلام أكثر واقعية حيث الرفاهية التي تخيلها منقوصة، وتعلم أن يستخدم الشوارع الجانبية حتى لا تفاجئه الكشة مع إبقاء القدمين في وضع استعداد دائم للهروب، وفي الأمسيات استمتع بأكل الطعمية والفول بالدكوة في شوارع الحارة علي ضوء الشموع لا لأسباب شاعرية ولكن لأن الكهرباء مقطوعة . إلا أن هواجس السفر لديه لم تخمد، وذات يوم أرسله خاله لاستبدال بعض صناديق مشروب البيبسى، قام ببيعها واستقل أول بص مسافر إلى مدينة بور تسودان، قضي فيها بضعة أيام لم ترق له فيها الحياة فباع جزءا من ملابس العذابة الذين كان يقيم معهم وعاد إلى الخرطوم علي ظهر مجروس اضطر أن يعمل فيه كمساعد ليصل إلى الخرطوم . طرده خاله ولم يجد أحدا يقيم معه فأضطر أن يبحث عن كشة الخدمة الإلزامية بنفسه واصبح يتسكع بجانبهم فلم ينتبهوا له في البداية إلا بعد بضعة أيام، ومرة أخرى وجد نفسه في نفس المعسكر الأول، وجعله المدرب في اليوم الأول يطوف المعسكر كله عدة مرات وهو يردد بصوت عال : أنا تاني ما بشرد من الجيش ! إلا انه وبعد مرور بضعة أيام لاذ بالفرار مرة أخرى وفي هذه المرة لم يبق كثيرا في الخرطوم اشتغل لبضعة أيام كعامل بناء ورغم صعوبة العمل استطاع توفير بعض المال، وذات صباح بينما كان متجها إلى مكان عمله مر بالقرب من السوق الشعبي في مدينة أمد رمان وجد البص المتجه شمالا يصفر صفارة الانطلاق، لم يستغرق تردده سوي بضعة ثوان قبل أن يجد نفسه علي ظهر البص . وصل في اليوم التالي إلى القرية وبدا للكثيرين انه استنفد كل طاقة الشقاوة لديه، بدا هادئا ومطيعا حريصا علي نظافته ومنذ لحظة وصوله عاد لممارسة نفس مهامه السابقة، يساعد والده المسن في الزراعة ويحلب البقرة كل مساء، ويذهب إلى السوق يوم السبت لشراء مستلزمات البيت . وفي جلسات السمر المسائية في ليالي الدميرة المقمرة التي كان الصبية يسهرون فيها طوال الليل لمراقبة ارتفاع نهر النيل الذي يهدد القرية في موسم الدميرة، في تلك الأمسيات كان يتسلم مفاتيح الكلام يحكي عن مغامراته المثيرة في العاصمة وقصة هروبه العظيم من معسكر الخدمة الإلزامية، وكيف انه قاد مجموعة من الهاربين يزيد عددهم عن العشرين لأنه الوحيد الذي يعرف الطريق المؤدي لمدينة أم درمان وكيف انهم لحظة وصولهم إلى سوق ليبيا وقفوا في طابور واحد وأدوا التحية العسكرية له باعتباره جنرالا متقاعدا. بدا أن الحياة صفت له أخيرا وتسلم من والده كل مسئولياته وهو لم يخف انه ورث وضعا اقتصاديا متدهورا فقد ماتت بقرتهم الوحيدة فجأة اثر علة لم تمهلها طويلا، وتدهورت أسعار المحاصيل الزراعية، إلا أن ذلك كله لم يمنع اتخاذه لقرار مفاجئ بالزواج وتم تحديد ميعاد الزواج ليوافق يوم السابع والعشرين من شهر رجب . وقام بنفسه بالطواف لدعوة كل اهل القرية والقري المجاورة لحضور زواجه. وقبل يومين من ميعاد الزواج اصطحب شقيقه الأصغر إلى السوق واشتري جزءا من الأشياء المطلوبة للزواج أرسلها مع شقيقه وبدأ يبحث عن بقية الأشياء التي طلبتها أمه، بحث عن المحلب الذي يستخدم في مراسم الجرتق، فلم يجده عند الباعة القادمين من مدينة ارقو ولا عند الباعة الجوالة القادمين من غرب الوطن . وفجأة فيما كان يعبر في الفوضى التي يثيرها باعة الخضروات بصراخهم اخترق أذنيه صوت صفارة البص المسافر إلى مدينة أم درمان تعلن عن قرب قيام البص . لم يحتج ولا حتى لثانية واحدة ليفكر قبل أن يجد نفسه علي ظهر البص وسط طوفان البشر والأمتعة