دولة المذهب التي لم تشرق فيها الشمس.(1) أحمد يوسف حمد النيل- الرياض [email protected] ... الدولة ما هي الا كيان جامع ذا بعد تنظيمي دستوري و قانوني في بعد انساني وسياق اجتماعي . تنتشر فيها الثقافات المختلفة في رقعة قطرية تستبطن التباين الطبيعي للانسان من فكر ودين وعقائد وآداب و فنون. و إن أي محاولة لترويضها كهيئة تنظيمية أو تدجين شبابها تحت طائلة مذهب طائفي أو ديني أو عقدي سوف يؤدي بها إلى عزلة . واستنطاق التاريخ السحيق دون استلهام جزئيات الكيان الجامع للمجتمع و الشعوب من هذا التاريخ سيؤدي إلى عقم فكري و مسح ملامح الإنسان و كرامته. ... كثير من الدول التي تتمذهب و تميل إلى تدجين شبابها انما ترتكب اكبر كارثة و تورث الشباب و الاجيال اللاحقة كساد فكري فتمنع عنهم ضياء الشمس ليعيشوا في ظلام ما له حد. فكل التجارب التي يمارسها حكام دول العالم المتأخر , كانت الدول المتقدمة قد خاضتها ثم انفكت منها كتجارب متفطرة ثم ما لبثت ان انفكت منها و اتجهت صوب الدولة التجريدية ذات الافق الواسع و التجربة الانسانية الثرة. و من خطورة التوجه الفكري و المذهبي إن الدولة تحمل تداعياتها بأكف اداراتها لأنها تصر على مذهب واحد في وسط مجتمع متنوع مما يتنافى مع طبيعة الإنسان الذي لا يصبر على نمط معين طوال فترة حياته. فترسم بذلك نسخ متكررة من الشعوب تحول بينها و بين استلهاماتها وايداعاتها و البنيوية الخلاقة. فتذوب فكرة الامن الاجتماعي و النفسي مما يعكس ظلام النفوس و النفوس المظلمة . فتنشا الصراعات الداخلية من اجل الانعتاق في وسط المجتمع الواحد الذي لم يخلق ليكون ذا طابع منسوخ من قائد واحد. فالعزلة هنا تكون بمثابة الظلام الدامس فتعدم الفكرية الخلاقة مما يهدد الادارة ذات نفسها التي سنت هذه القوانين و التشريعات , مما يجعلها تقع في فخ المراجعة و الندم و التراجع عن ذات المذهب و بالتالي تكون قد اعلنت عن هزيمتها التي يتوقعها الاعداء. فصورة الدولة الحديثة هي الدولة المدنية الحرة التي لا تقبض بين يديها بامرة القوة العسكرية و الامعان فيها و انما تُبنى على الديمقراطية و التعددية , و إن تهميش كل التنظيمات الاجتماعية , و جعلها في الصف الاخير ليس إلا استفزاز سياسي و عقدي سينفجر في أي لحظة مما يدلل على غباء المنظرين السياسيين و الدينيين و الاقتصاديين الذين يتبعون السلطة . و لكن ( الاقتصاديين) قد يسببون المتاعب للدولة من قبل العدو أو الخصم السياسي لأنها بذلك تكون قد لمست حرية و رزق الآخرين. فتذوب حريتها و حدود حقوقها و تنتهك.فينتفي معنى العدل رغم أنها تبحث عنه في مبادئها و لكنها لم تحسن تفسير القوانين و الدساتير التي تسيير الدولة اذ تضعها في قوالب جامدة لا تستطيع تطبيقها لأنها تحمل تناقضها بما ترفع من مباديء و تستبطن من نوايا غير تلك المباديء. فتسير الدولة على محازاة الخطوط الحمراء للشعوب ردحا من الزمان , لتجلب لنفسها القلق ثم تتحول في مرحلة من المراحل إلى شذر مذر , فيبدو عليها النفاق فيحكم عليها بالنفاق و الظلم. و نتيجة لذلك تعود هذه الصفات إلى المذهب أو الدين الذي تنتهجه الدولة. و لكن غاب عن ادارييها إن الدين أو المذهب انما هو وسيلة أو اداة هداية و ليست تشريع جامد لكل قوانين الدولة أو نسخة كربونية لفكر رجل له ذهنيته و نفسيته ذات التعاقب الزمني المجدول و المنسوخ. فتغيب عنها الشمس و العدل الانيق وتتحول الدولة رغم بزتها الجميلة وربطة عنقها التي لا تجذب الناس و تستجلب رضاهم إلى شخصية اعتبارية بلا استحسان من قبل الناس فيذوب المجتمع في عهد من الظلام الطويل و الكل يعتقد انه على حق الدولة و الشعب. و لكن لا يمكن إن يكون الشعب هو المخطيء لأنه يحتكم إلى قيم جمعية ذات طابع تفكيري جمعي اما الدولة فقد اختارت مكون جيني واحد من نسيج المجتمع نفسه و قد يكون نشاذ. كل الشعوب تريد الرفاهية و لكن اصحاب الطموحات غير الفطرية تدمر طموحات الشعوب التي انتخبتهم. فالعزل السياسي هنا اشبه بمراهقة الشاب المقهور و المنتهكة حقوقه يجعل الشعوب اما عابثة أو لا مبالية وهو كلمة حق اريد بها باطل نمط ديني و مذهبي منمق اريد به الوصول إلى سطوة الحكم و السياسة. فيتربى الشعب عليها فتصبح نقطة مظلمة في جدول التاريخ الزمني و تعاقب الذاكرة الشبابية. ولكن لكي يعود قرص الشمس من جديد متوهجا يهب النفوس نور الحقب التاريخية على الساسة و المذهبيين إن لا يطبقوا كل شيء لأن الحياة لم تكن حقيقة مطلقة و لا عائلاتهم حقيقة مطلقة و لكن الحقيقة الكاملة هي قيمة الإنسان و كينونته الجنسية من ذكر و أنثى . و على ذكر الهيمنة تطرأ في السطح التجربة الامريكية الكولونيالية و التي تدل على إن الحياة ليست مذهب واحد و لاينبغي لها و إن تمثيلها قطبية الكون الوحيدة و ممارسة الاخطاء في العلن و الظلام انما يعجل بطول امدها و بمحوها كدولة سياسية و اقتصادية تستبطن الافكار المذهبية الخبيثة وتظهرها في صورة حسنة بدعوى الحرب على الارهاب. واذا عقدنا مقارنة بدولة امريكا و دول اوروبا فان الدول الأوروبية قد خاضت تجارب الاستعمار و دولة المذاهب حتى خارت قواها و خلصت في نهاية الأمر إلى فصل الدين أو المذاهب الاخرى عن الدولة (الدولة المدنية) ورغم صولجاناتها الآن الا أنها اصبحت تابع لأمريكا لأنها هي القوة العظمى وهي لا تريد إن تدخل في مواجهة تعيدها إلى حقب الظلام لتبقى أمريكا في عنتها و رعونتها التي تعجل بنهايتها إن لم يكن حاليا فمتأخرا . اما دولنا التي تعج في ظلام دامس لا مدى له قد ادخلت شعوبها في اتون الاستعار الاوروبي البائد و لم يتورعوا من تجارب اوروبا بل نقلوا عنها لإنبهارهم بها جملة و تفصيلا و إن كانوا يسترشدون بمذاهبهم الخاصة بهم . و لكن هذا ليقنعوا به شعوبهم و انما هم الآن يعيشون في عهد الظلام الذي خاضته اوروبا من قبل حكام امراء ونبلاء و قادة واصحاب قصور و بلاط و حشم و خدم , ومن الذين يدورون في الشوارع من اجل لقمة العيش يفترشون السُخام وتطأهم اطارات العربات أو يقلقهم ازيز البارود . حتى الشعراء و الفنانون الذين يرسمون ملامح ثقافاتنا اكثر من مهندسي السلطة قد هجروا و اصبحت اوروبا وامريكا تستعطفهم و الضغط بهم على شعوبهم و حكوماتهم. فانتجوا فنا و أدبا لا يعبر عن الشعوب و هي في احسن حالاتها بل يعبر عن الفترة المظلمة و رغم ذلك الناس تتشوق لهذا الأدب المشوه لأنه يشبهها ويعبر عما يجيش بخلدها. إذا نخلص في مقالنا هذا إن الدولة العقدية أو المذهبية مهددة بالموت و للأبد وان تنمحي حضارتها و مكتسباتها لأنها ليست مكتسبات الأمم و الشعوب. الناس عندما تسمع عن الصين كأنهم يسمعون عن دولة اقتصادية ضخمة ظهرت في حيز الوجود و لكن تبعها نفس المذهبيون لكنها تبدو عليها الرزانة و الهدف لأنها استخلصت عصارات و تجارب الآخرين وتبدو أنها تعيش في سلام و لاتنوي اظهار افكار صبيانية مذهبية ام عقدية . وهذا لا يمنع من إن ينتهج الناس كافة مذاهب مختلفة و آراء وعقائد فليذهب كل في مذهبه و لكن لا لفكرة اقصاء الآخر أو عدم الاعتراف به فالاختلاف سمة اصيلة من سمات البشرية وسبب جوهري لوجود البشر في هذا الكون و لكن العقائديون انفسم لا يعرفون ما معنى الاختلاف و ما معنى أن تعيش في سلام . كثير من التجارب الحياتية توضح إن البرابرة أو الهمج أو البدو كل في مجتمعه لا يستطيع احد ان يغويهم عن ذواتهم وعقائدهم فان حاورتهم بدا لك جمالهم حتى و لو جمال مستعار و لكنه يصنع سلام من نوع ما و لزمن ما , و إن اشهرت ضدهم وسائل أخرى مثل السلاح و القوة فانك موعود بحياة بائسة تعيسة تضرج فيها الدماء وان تم كبتهم فتظل الدولة تحمل سماتهم إلى ما لانهاية و إن بدت جميلة من الخارج فهنالك امثلة كثيرة لذلك في عالمنا و في العالم الغربي. و لو اننا اخذنا امريكا بؤرة عدم الاطمئنان و الأمن النفسي و المجتمعي عندما غزا الاوروبيون امريكا وجدوها مظلمة فوجدوا سكانها الهنود الحمر فوصفوهم بانهم الرعاة العراة الهمجيين غير المتمدنين الانفعاليين ثم احالوهم بالسلاح و بالقوة واستبدولوا سكانها بشعوب أخرى بيضاء و سوداء و حمراء لذا اصبحت رقعة غير حقيقية. هي ارض الهنود الحمر و لكن اغتصبها البيض الاوروبيون وحشر فيها الافارقة السود فمن هنا جاءت عقدة العنصر والمذهب ولكنها قنبلة موقوته قد يحين اوانها في كل حين وقد يصحو الهنود الحمر من غفوتهم . الم يحن لمذهبيي بلادي السودان ان يعتدلوا ويجعلوا السودان هو السودان و ليس امريكا؟ لماذا تصر جماعات الإسلام السياسي على شكل نظام الحكم الإسلامي دون مراعاة المحتوي الإسلامي(أي الشعارات)؟ و من الذي فوض للجماعات الإسلامية أن تحارب أمريكا أو الغرب دون الرجوع لشعوبها و توفير الحياة الكريمة لهم , و هم في نفس الوقت يتضورون جوعا ً و ألما ً من عذابات الحروب؟ أليس الأجدر بالجماعات الإسلامية أن تلتفت للدور الدعوي و التوعوي و ترك الدور السياسي و الإقتصادي للخبراء الوطنيين؟ ... نحن الآن نعيش في مجتمعات مدنية حري بها الدفاع عن حقوقها عبر الدستور و القانون. و في هذه المجتمعات يكون الدور التوعوي الدعوي اللين أقوي من الدور السياسي القاطع. لأن الدور السياسي مربوط بتوازنات قوى خارجية و داخلية مؤثرة. و مربوط بحياة الناس من ناحية الكسب المعيشي من رواتب و أجور و صحة و تعليم ..إلخ. فالحديث عن الإسلام أو أي دين لحل هذه المشاكل فقط يجب إن يرتبط بالمصداقية و العدالة. و إن تمت العدالة فما يضير الدولة إن تحكم بالدين الشكلي أو الحقيقي. فان عدلت الدولة فهذا هو الدين و لا يهم الشكل ما دام كل الناس مسلمين في هذه الدولة. و إذا لم يحدث عدل و مصداقية سيرتطم الشكل الديني المزعوم بمجموعة متناقضات , أولها : الفساد السياسي للدولة. ثانيها: الخلل الإداري و المحسوبية و الرشاوى. و ناهيك مما يلحق هذه الدولة الشكلية من نقد مباشر يطعن في الشكل الديني و ليس الأفراد أو الدولة. وبهذا تكون قد فسدت لعبة السياسة , و تنتج عنها مجموعة إحباطات اجتماعية و نفسية و عقدية. أن الاستعجال في بناء الشكل الديني للدولة بمظهرها الذي نعرفه في بلادنا لهو هدم و ليس بناء للدين. لأنه لا يراعى فيه إلا المحسوبية و الحزبية البغيضة و انطبق عليهم حديث المخزومية الذي قال فيه الرسول الكريم :( أيها الناس إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها) و هنا لا ننظر للمعنى الشكلي للحديث من ناحيته اللغوية و انما نعتني بجانب العدالة بغض النظر عن تطبيق هذا الحد أم لا. عذرا ً .... على الإطالة و نواصل...