السفير السعودي لدى السودان يعلن خطة المملكة لإعادة إعمار ستة مستشفيات في السودان    مليشيا الدعم السريع تكرر هجومها صباح اليوم على مدينة النهود    منتخب الشباب يختتم تحضيراته وبعثته تغادر فجرا الى عسلاية    اشراقة بطلاً لكاس السوبر بالقضارف    المريخ يواصل تحضيراته للقاء انتر نواكشوط    شاهد بالفيديو.. رئيس مجلس السيادة: (بعض الوزراء الواحد فيهم بفتكر الوزارة حقته جاب خاله وإبن أخته وحبوبته ومنحهم وظائف)    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    شاهد بالفيديو.. رئيس مجلس السيادة: (بعض الوزراء الواحد فيهم بفتكر الوزارة حقته جاب خاله وإبن أخته وحبوبته ومنحهم وظائف)    شاهد بالصور والفيديو.. على أنغام الفنانة توتة عذاب.. عروس الوسط الفني المطربة آسيا بنة تخطف الأضواء في "جرتق" زواجها    المجد لثورة ديسمبر الخالدة وللساتك    بالصورة.. ممثلة سودانية حسناء تدعم "البرهان" وثير غضب "القحاتة": (المجد للبندقية تاني لا لساتك لا تتريس لا كلام فاضي)    المجد للثورة لا للبندقية: حين يفضح البرهان نفسه ويتعرّى المشروع الدموي    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    الناطق الرسمي للقوات المسلحة : الإمارات تحاول الآن ذر الرماد في العيون وتختلق التُّهم الباطلة    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    قرار بتعيين وزراء في السودان    د.ابراهيم الصديق على يكتب: *القبض على قوش بالامارات: حيلة قصيرة…    هل أصبح أنشيلوتي قريباً من الهلال السعودي؟    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    ترامب: بوتين تخلى عن حلمه ويريد السلام    باريس سان جيرمان يُسقط آرسنال بهدف في لندن    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    صلاح.. أعظم هداف أجنبي في تاريخ الدوري الإنجليزي    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    المريخ يخلد ذكري الراحل الاسطورة حامد بربمة    ألا تبا، لوجهي الغريب؟!    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    ارتفاع التضخم في السودان    بلاش معجون ولا ثلج.. تعملي إيه لو جلدك اتعرض لحروق الزيت فى المطبخ    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    بيان مجمع الفقه الإسلامي حول القدر الواجب إخراجه في زكاة الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحاجة لثقافة إنسانية توحيدية
نحو مشروع ثقافي توا ثقي مستقبلي (4)

يتحدد تطور وتقدم المجتمعات بقوة دفعها الثقافي من حيث القدرة المستدامة لقابلبات الإبداع والخلق التي تحملها ، وحيوية أنساقها في التفاعل والاستيعاب والتكامل لصنع الثقافة الإستراتجية الضامنة لمراحل تقدم وتنمية المجتمع ، والمحددة لطبيعة مهامه عبر التاريخ . ومن ثم فان أي تغير في الثقافة يتضمن فعلياً تغيراً في المجتمع من حيث أهدافه ورؤاه التنموية ... وعلية فان أي فعل تغييري حقيقي يبدأ من الثقافة ومكوناتها أن أراد أن يكتب له النجاح والاستمرارية .... هذا الفعل يجب إن تتكثف رؤاه عبر جدال فكري عميق يستشرف المستقبل ويتجاوز الماضي بأدوات نقد بمقتربات تمتلك صلاحية ملامسة واقع تاريخي متعين قصد إنتاج اسئله الحاضر للإجابة علي قضاياه الإنسانية المستقبلية .
إن قضايا الثقافة الأصولية التوحيدية تحتاج للتعاطي مع أمهات إشكالات ينبغي التصدي لمؤشرات أزماتها الفكرية العميقة،التي أوقعت التفقه(الاتاريخي) السلطوي والسياسوى في صعوبات مجتمعية:نفسية وذهنية وسياسية لم تُحسن التعامل مع تحديات واقع محلي مضطرب لازم يتكشف يومياً عن اتساع في الهوة بينه والمشروع(الاسلاموي)المتنفذ وإرادات التحرر بالثورة أو التمرد أو الاحتجاج الصامت(بقابليته للانفجار من كل إطرافه الوطنية) علي سطوة تجانب بنيته وتفارق خصوصيته من جهة وفضاء إقليمي وعالمي متعدي بتداخل معرفي واقتصادي وعسكري لايقبل الفراغ من جهة آخر، مما يدفع إلي استدراك هذه النواقص بمشروع ثقافي تواثقي مسلح بالإجابة علي تساؤلات إشكالات مشروعة.
1.إشكاليه أولويات القراءة والبناء الثقافي،كانت رسالة الأنبياء واحده في الجوهر: تكيف حياة العباد في ضوء مبدأ التوحيد.فكل نبي سلك منهجاً في الدعوة يتفق وخصائص البيئة التي بعث فيها، كما قدم رسالته من خلال الحادثات التي عاناها قومه، إصر بعضهم علي الدعوة حتى قتل ،بينما تراجع ويئس من استجابة قومه بعضهم ، وهنالك من صنع تمرداً جماعياً بتحريض قومه علي الانفصال من جسد الدولة التي كان يخضعون لها، ومنهم من شارك في السلطة السياسية ومارس الولاية في دولة (كافره)،وما نزول القرآن منجماً حسب الوقائع إلا تعبيراً عن وثوق الصلة بين الفكرة وبين الواقع، وعن الدور الإنساني الذي يلعبه الواقع في تجسيد الفكرة أو إخفاقها لأنه مناط تحققها، فالمحرك الأساسي هو في مدي الفهم لخصوصية الواقع والاستجابة لمتطلبات المرحلة . ومن هنا يتورط التفقه الثقافي في تساؤل أي العاملين الاخضع للآخر الفكرة أم الواقع؟ الدين هو الأصل والواقع هو الفرع.الدين ثابت والواجب يقتضي تطويع الواقع ليتكيف مع الثابت ثم التعاطي مع الدين والواقع باعتبارهما مفهومين مطلقين،مع أن كليهما(فهم الدين وفهم الواقع) نسبي وأن كليهما في علاقة جدلية بالآخر لا انفصال لها.فالبنية الثقافية المحلية بخصوصيتها هي التي تحدد المنهج وأسلوب التغيير أو علي الأقل تتدخل كثيراً في ضبط المرتكزات الرئيسية لهذا المنهج:ذلك إن وعي الإنسان لا يتحدد في المطلق،وإنما يتحدد عبر الممارسة، أي داخل التاريخ، ومن هنا تنبع الحاجة لتفقه أصولي توحيدي مستقبلي لأولويات القراءة والبناء الثقافي ترسم خارطة طريق (للانتجلنسيا) الوطنية الإسلامية ضمن ما يطرح في سوق الاتجاهات النظرية الكبرى لقيادة عملية التفكير الجماعي بالرهان علي المحتوي الداخلي للإنسان المتمثل في الفكر والإرادة فهما العاملين الأساسين في توجيه حركه التاريخ وتغيرها بإعطاء عملية البناء الخارجي محركيتها ومضمونها بتلك الفاعلية التاريخية، وذلك وفقاً للقاعدة القرآنية (إن الله لا يغيرما بقوم حتى يغيروا مابانفسهم) .وعندما نوقن بذلك نكون قد هدمنا الركن الأساسي لنظرية التفسير المادي التاريخي وذلك بإسناد فاعلية التغير للتفسير المعنوي وارتباطه بالقيم التي يعتنقها الإنسان واثر ذلك كله في إحداث عملية البناء الاجتماعي.هذا الرصيد الشعوري الداخلي هو الذي يبلور الغايات ويجسد الإرادات،فلا المادة تصنعنا ولا الظروف التاريخية هي التي تشكل الأساس الصياغي للإنسان،إنما هو الذي يسخر الظروف المادية والطبيعية ويطوعها لصنع تاريخه وحاجياته الحياتية والمعيشية.عندما نوقن بتلك الفاعلية الإنسانية الفردية والجماعية في إطار مشروع مستقبلي لتواثق ثقافي يصبح من العسير جداً أن لا تكون هنالك دواعي اجتماع حقيقية تربط الأفراد والجماعات،فبدون الدراسة الاجتماعية لأصول مشاكلنا،لن تكون شكلية الاجتماع إلا تغطية لتواصل الانتماء الاجتماعي السابق ودعماً لمكاسب طبقاته وقيمه الاجتماعية في ثوب جديد وبأدوات أكثر دقة تعبر بواقعية عن الامتداد الاجتماعي لأفرادها القائد بداهة إلى تكريس الفهم الطائفي والفئوي في نظرتنا للأفكار والتجارب.إن أسوأ ما في تجربة(الاسلمة) مثلاً في التجربة الوطنية الماثلة،هوانها لم تأتي وقد توحد فهمنا لحقائقها ومضامينها بحيث يصبح من السهل جداً علي كل الكيانات الاجتماعية التقليدية بأفكارها القديمة البالية أن تستوعبها تفصيلاً علي واقعها المختل دون كبير عناء أو مشقة في غياب نمط من الاجتماع متجاوز لمقاييس التمايز التقليدية في أشكاله الرابطة والمتمثلة في التركيبة الطائفية القبلية،زد علي ذلك حاله الانفصامية التي نلحظها بين مختلف اضرب النشاط الاجتماعي والهياكل المستوعبة لحراكه.فانه من دلائل العقم أن تضطر حركة(جماهيرية) أن تُقيم الناس أقامة جبرية علي استصحاب قضاياها والدفع عنها متجاوزة بذلك الكسب ألقناعي الذاتي للعامة،فلا يكاد يستشعر المرء من مقومات وجود هذه الحركة إلا بمقدار قدرها التلقيني،لا بحضورها الفكري والتفاعلي.ولعل التصعيد ألاسترزاقي لهذه المعايشة لايقود في النهاية إلا إلي تباين السلوك التعبيري والمقدرات التأويلية،لا النفاقية إحساناً بالظن.ولعله من بعد ذلك يصبح الحديث عن ضرورة قيام مؤسسات إسلامية(أو وطنية) مستقلة عن حركة السياسية ترصد الآثار وتُقيم التجذير التأسيسي للأفكار والتجارب امراً حيوياً.
أن العقدة التاريخية لأولويات القراءة والبناء بمشروع التواثق الثقافي النهضوي، هي في أن ننجح في بناء التأصيل الاجتماعي لافكاره. ومن هنا قد تنبع جذور التحدي الحضاري الاجتماعي وحتمية النقلة الحضارية التي لا تنعقد إلا بطرح نظرية التحرير الاجتماعي وإعادة صياغة البنية التحتية لمجتمعاتنا بمعزل عن الأرصدة الجمعية العرفية والأرصدة الجمعية الوافدة هشة التأسيس.إن إي فرضية عكس ذلك لا تؤكدها إلا صور مجتمعاتنا القائمة علي الهرم المقلوب،قمته إلي الأسفل(السلطة السياسية)وقاعدته إلي الاعلي (البناء المجتمعي). إن أي تناول للطرح السياسي والاقتصادي بل والفكري بمعزل عن جذوره الاجتماعية فيه نوع من الإجحاف حيث نجد أن حصيلة التصور القرآني تقوم علي الخلايا الاجتماعية الأساسية (علاقات الزوجية، نظام الأسرة، نظام المعاملات...الخ).إن قيمة كالشورى لا يمكن أن يُعبر عنها تعبيراً سياسياً فوقياً صادقاً لو لم نهتم بخلق كيانات رابطة جديدة تذوب الرواسب الطائفية في وعاء فكري وعضوي متجانس(لا يشترط تطابقه) إنما يصلح لان يكون أرضية فكرية متجانسة لأفراد مجتمعات واحدة تتوحد فيها زوايا المنطلقات والرؤى والتوجهات،فلا يشذ احدهم برأيه ولا يتعصب له ولا يلغي دوره العقلي الذاتي،فتموت عنده ملكه البحث والتفكير بل يحتفظ بقناعاته الفردية مع التزامه بقناعات المجموع،كل ذلك في إطار من الديمقراطية (أوالشوري) الاجتماعية الأساسية التي تولد الديمقراطية(أوالشوري) السياسية الفوقية تلقائياً بقيامها علي علاقات تمثيلية حقيقية أو صادقة دون كبير عناء،لأنك تكون عفوياً قد عودت أفراد وجماعات المجتمع عليها من خلال الممارسة في كياناتهم الاجتماعية الأساسية وما فوقها.هنالك فرق جوهري بين أن تتعامل التجارب بندية، وبين أن تتعامل في ما بينها تعامل المتبوع الايجابي والتابع السلبي،فهل نملك تجربة أصيلة نقدمها للعالم ؟.إن كلمات بريئة كالديمقراطية والاشتراكية: كانت نتاج لتحولات اجتماعية (ديناميكية)عاشتها المجتمعات الأوربية أكسبت هذا المصطلحات تأسيساً اجتماعياً محلياً يرتبط بالذهنية الأوربية ارتباطاً دقيقاً و محكماً وبتجارب عاشتها هذه الذهنيات وذاقت حلوها ومرها.إن المأساة تكمن في أننا نابي إلا أن نطوع هذه الأطر والمصطلحات لنحلل بها تجاربنا، بحيث تصبح الذهنية الشمولية أو (اللبيراليه)بقليل من التشذيب ذهنية(إسلامية) متغربة عن أصولها الاجتماعية هشة التأسيس. ولعل الإشكالية تزداد استفحالاً عندما نعرف أن كل أدوات التحليل والمناهج العلمية تقود إلي فهم إنساني معرفي أحادى للكون، فمفكر (كشريعتى) مثلاً وبالرغم من نجاحه في تكوين بناء نظري مقبول يقوم علي عنصرين محوريين:القطب القابيلي والقطب الهابيلي،قد فشل في أن يقدم منهجاً تحليلاً اصيلاً فيعتذر لاستعمال كلمة (البرجوازية) مثلاً في كتاباته ويطوع التاريخ الإسلامي لفهم مستصعب في أحيان كثيرة.هل يعُقل أو يستقيم أن نكون نقطة بيضاء في محيط مظلم لا يتجه لله؟ نحن عندئذ أشبه بأحمق يتجه جنوباً داخل قطار يمضي مسرعاً في اتجاه الشمال، فلا الحركة أو إطار الحركة يحققان مبتغانا ومقصدنا. إن الفرق الجوهري بين حسن حنفي وسيد قطب (البناء النظري للمسلم التقدمي،البناء النظري للمسلم السلفي)هو في كلمة واحدة جامعة ومانعة،فالأول يدعو إلي احتواء الجاهلية والثاني إلي مفاصلة الجاهلية،في حين إن بناءهما الفكري يقوم علي محورين متطابقين (الإسلام، الجاهلية) فالأول لا يخرج عن إطار رد الفعل عندما يبلغ قمة التصعيد في بناءه الفكري بإقرار حقيقية قديمة وهي الصراع بين الإسلام والجاهلية كأساس لنظريته المعرفية الكونية والتي قد لايفارق فيها الثاني إلا في المنهجية المتبعة.لا بد إذن من تجاوز ثقافي لمفهومي:الحاكمية في العلاقة بالسلطة السياسية والجاهلية في العلاقة بالسلطة الاجتماعية(إذ ما أردنا تحليلاً أكثر عمقاً):ذلك أن المفهوم الأول سيوقع التفقه الثقافي في جعله مصطلحاً رئيساً في منظومته ومعياراً للفرز العقائدي بين المجتمعات،تكمن المشكلة في أن التطبيق التاريخي للشريعة شي مبهم في أذهان أفراد تشوهت ذاكرتهم الجمعية بسلسلة متطاولة من المخزون العرفي التقليدي والإرث السلطاني المستبد منذ انهيار الأنموذج الإسلامي السياسي الراشد، خصوصاً عندما تختزل غالباً في مجرد تطبيق الحدود أو الطقوسية الشكلية التي تضمن استمرارية المُلك العضوود وتمنع كل أشكال الاحتجاج أو الخروج علي محارمه، والحفاظ علي هذه الحدية الشكلية في إطار نمط اجتماعي وسياسي متخلف لن يزيد الطين إلا بله،ولن يزيد الواقع إلا تخلفاً.إلا إذا سلمنا بضرورة إفراز إطار نمطي جديد من العلاقات الاجتماعية والسياسية،عندئذ وجب تحديد هذا النمط وبلورته وتبيان خصائصه واختياراته خصوصاً تلك التي تحمل وجهاً ايجابياً للمفهوم يستبطن تحرير الوجدان البشري من عبادة احد غير الله، ومن الخضوع لأحد غير الله.فما لأحد عليه غير الله من سلطان،فإذا توحدت عبادة واتجه الجميع إليه فلا عبادة إلا لسواه ولا حاكمية لغيره،كي لا يتخذ الناس بعضهم ارباباً من دون الله،لا يملكون لاحد منهم فضلاً علي احد إلا بعلمه وتقواه.هذه الفكرة في حد ذاتها هامة جداً لأنها توسع مفهوم التوحيد وتخرجه من عالم التجريد و(الميتافزيقيا) إلي عالم الوجود وساحة الصراع الاجتماعي والسياسي،اضافةٌ لكونها قولاً مرشحاً ليصبح سلاحاً جماهيرياً يُشهر باستمرار في وجه تضخم الدولة وتأليهها ومركزيتها .إذ بتحويل السلطة العليا إلي الله يتم إفراغ الدولة ثم السلطة السياسية المنبثقة عنها من جوهر علوها وطغيانها لتصبح في خدمة المجتمع بدل أن تقوم بدور الإله الأرضي. ولكن شريطة أن تتابع النتائج المنطقية لمثل هذا التوجه التوحيدي الثوري وعدم توقفه عند حدود الشعار السياسي الذي يعيد مبدأ التوحيد إلي الواقع عوضاً عن التحليق النظري بعيداً عن مشاغل الناس وصراعاتهم اليومية والحيوية،والأخطر من ذلك أن يتم احتباس الشعار في بعدة القانوني: أي أن الحكم لله(بمضمونه التوحيدي التثويري) بالشريعة (بمنهاجها الشمولي المعرفي) قد يتحول بمعني أكثر دقة :إلي حكم أدعياء الوصاية وامتلاك النفوذ الإلهي بما يمتلكون من حظ تفقهي (بائس) في فهم مبتسر لأحكام الشريعة لإضفاء الشرعية الدينية علي الأنظمة أو لتبرير أوضاع مهترئة لطغيانها. عندها سيصبح اقوي وأبشع ما سيحصل، هو انه بدل إقامة التعارض والتوازن بين الدين والدولة الظالمة، أي بين المجتمع والدولة القائمة علي حقوقه وحرياته يقوم تصالح بينهما وتطابقاً سيكون بالضرورة علي حساب الدين والمجتمع،لا انتصاراً للإسلام كما يتوهم الكثيرون. أن مفهوم الحاكمية ومصطلحي الشريعة والمجتمع الإسلامي سيظلان في حالة غموض وإبهام مستمرين إذا جمدا تحت هذا السقف الثقافي، ما لم تتلق الجماهير رسماً معلوماً يحدد لها البدائل في حدها الادني. فالمطالبة باقامة(النظام الإسلامي) ينبغي أن تستصحب موضوعياً إطاره العام وملابساته الاجتماعية والسياسية، فهو ليس نقطة البداية ولكن نقطة البداية هي نقل المجتمعات ذاتها حكاماً ومحكومين أو جملة صالحة منها ذات وزن وثقل في مجرى الحياة العامة إلي المفهومات الإسلامية الصحيحة كما يقول (سيد قطب) ذاته ونزيد علي مقولته بالتنبيه إلي ضرورة استنبات التصورات والاختيارات داخل معادلات الواقع،فالمفاهيم المجردة لاتكفي وحدها لتحقيق النماء الثقافي ألتغييري والانطلاق من الحدود والقوانين العامة في الشريعة كبدائل جاهزة تقدم للمجتمع لاتكفي وحدها لتقاس في ضوئها اسلاميته أو إسلامية الأنظمة.
وبذات القدر فان المفهوم الثاني سيوقع التفقه الثقافي في جعل المصطلح الجاهلي مرتكزاً رئيسياً في منظومته الأساسية بتحويله من مرحلة ذات خصوصية ماضية من فترات التاريخ إلي مرحلة ذات خصوصية مستقبلية لتحليل شتي الجاهليات في كل أعصار الحياة،وبذلك يتحرر المصطلح من ظلاله التاريخية عن كل مناهج الأرض بلا استثناء لسحب الشرعية من المجتمعات القائمة بما فيها من أنماط وقيم وعادات وتشريعات ونظم وفنون(=نفي كل التاريخ الثقافي الإنساني) ومن ما يترتب علي ذلك وصم لكل هذه المجتمعات القائمة بالجملة بكونها أصبحت تعيش في جاهلية سواء وعت بذلك ام لم تع، لن يجد التفقه الثقافي حيال هذه الوضعية إلا المفاصلة الشعورية الذهنية النفسية والفكرية والمجتمعية تصوراً ومنهجاً وعملاً. فهو ليس مجرد صراع نظري بين الإسلام والجاهلية يقابل بنظرية أن الجاهلية تتمثل في مجتمع وسلطة لابد كي يقابلها الدين بوسائل مكافئة ،أن يتمثل هو ايضاً في مجتمعً وسلطة ليس بينهما وسعة التجربة المحلية والعالمية من سبيل للالتقاء الحر والتعاون المتكافئ (= نفي كل إمكانات المثاقفه الإنسانية).يستفحل خطر المصطلح وتنداح حلقاته استرسالاً ليشمل دوائر أخريات: فهو أولاً ذو داله عقدية عندما يقع الانتقال من التحديد النظري إلي التشخيص المباشر للواقع الذي نحياه والتصنيف العقدي للناس والشعوب.فهل هو صفة من لم تصله دعوة الإسلام ويرجي لو وصلته إن يؤمن بها ، أم صفة من عرف الإسلام فأنكره عن علم؟.وهو ثانياً لا يفسر ظاهرة الانحطاط الثقافي الذي أصاب جسد وعقل الأمة ، فهو قد يصلح لبيان سمت تاريخي لمرحلتين نوعيتين هما الإسلام والجاهلية ولكن الأسباب التي أفرزت هذا التحول فإنها تبقي متجاوزة الحدود التحليلية لمصطلح لا يكفيه الوقوف عند مركزية الحديث عن اختلاط الينابيع السلفية الصافية بروافد محدثة عاكرة بفعل محيط فلسفة اغريقية واساطير فارسية وإسرائيليات يهودية ولاهوت نصرانية . والتساؤل المشروع،هو إلي أي مدي كان الصحابة يعيشون عزلة ثقافية؟ لقد كان الوحي يعرض أراء الخصوم بكل أمانة ثم ينقضها بأسلوب علمي منطقي.كان الرسول (ص) في جدال مستمر مع كفار قريش واليهود والنصارى والمنتمين إلي مذاهب قدموا من خليط شعوب الفرس والروم والأحباش ، تعايشاً مع إخوانهم المسلمين من العرب وما حرص الرسول(ص) أن يتعلم أصحابه لغات الأقوام الاخري إلا من باب (من تعلم لغة قوم امن شرهم)أي أدرك ماعندهم وعرف كيف يتصدي له أو يتعامل معه، بل أن وضعية اتساع الفضاء(الجيوبلوتيكي) للسلطان الإسلامي بالرسالة الإنسانية العالمية سيفرض بالضرورة حواراً مفتوحاً مع ثقافات هذه الشعوب. المسألة ليست إذن مجرد التقارب والالتحام مع الآخرين والاطلاع علي ثقافاتهم، وإنما في القدرة علي توظيف ذلك كما فعل(ابن رشد وابن خلدون) مثلاً من اجل تعميق الطرح الإسلامي نفسه.وهو ثالثاً لا يفسر ظاهرة التخلف المجتمعي لعجزه (السوسيولوجي) عن الوصول لمستوي نقد التراث وإعادة تقييمه من زاوية جديدة تصب في مجري تغيير العقلية السائدة أو الموجهة للجماهير، أو تشريح آليات التخلف وارتباطها أو تشابكها مع اختيارات اقتصادية وسياسية وثقافية وليس فقط مقاييس وتصورات عقدية في غير علاقة بواقع متعين أو شعارات مجردة ليست في علاقة إلا بواقع متوهم. وهو رابعاً ينتج عقدة الاستعلاء الثقافي علي الناس خلطاً بين الذات (محل التدين) والموضوع (أصل الدين) وبين انحراف سلوك الناس وبين الناس أنفسهم، الذي يولد نمطاً من أنا نرجسية:غروراً واحتقاراً لما عند الآخرين، وقطيعة كاملة بينهم وبين محيطهم. حتى يقع التفقه الثقافي بكامله فريسة لأسلوب ممارسة احتكار فهم نصوص الإسلام علي الشاكلة التي يراها، وسلطة الرخصة بالحديث عن الإسلام.فيختلط الثابت بالمتغير في الدين ليصادر حظ الغير من فهم النصوص فهماً مغايراً بحجة وحدة الدين استدماجاً للدين والفهم الشخصي له، ليُجعل هذه الفهم للدين وكأنه هو أصل الدين نفسه.
كاتب صحفي و باحث في مجال دراسات السلام و التنمية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.