دولة المذهب التي لم تشرق فيها الشمس (3) مدخل: الناس علي دين ملوكهم.. أو مليكهم \" هذه جملة تناقلها العوام في كل عصر وفي كل مصر.. حتى صارت مثلا دارجا أو حكمة سارية أثبتتها أخبار الزمان في غالب العصور. والإمام الحافظ بن كثير في موسوعته التاريخية ( البداية والنهاية ) يري صحة هذه العبارة إلي حد كبير.. فالناس بالفعل علي دين مليكهم ، إن كان خمارا كثر الخمر وان كان خليعا فكذلك ، وان كان شحيحا حريصا كان الناس كذلك ، وان كان جوادا كريما شجاعا ، كان الناس كذلك ، وان كان طماعا ظلوما غشوما فكذلك ، وان كان ذا دين وتقوي وبر وإحسان كان الناس كذلك.. وهذا يوجد في بعض الأزمان وبعض الأشخاص. قالوا ولما رجع عمر بن عبد العزيز من جنازة سليمان وقد بايعه الناس واستقرت الخلافة باسمه ، انقلب وهو مغتم مهموم فقال له مولاه : مالك هكذا مغتما مهموما وليس هذا بوقت هذا ؟ ، فقال : ويحك ومالي لا أغتم وليس أحد من أهل المشارق والمغارب من هذه الأمة إلا وهو يطالبني بحقه أن أؤديه إليه ، كتب إلي في ذلك أو لم يكتب ، طلبه مني أو لم يطلب. * وقال الزبير بن بكار.. قال عمر في أول خطبة له :.. أيها الناس من صحبنا فليصحبنا بخمس أو فليفارقنا : يرفع إلينا حاجة من لا يستطيع رفعها ، ويعيننا علي الخير بجهده ، ويدلنا من الخير علي ما لا نهتدي إليه ، ولا يغتابن عندنا أحدا ، ولا يعرضن فيما لا يعنيه فانقشع عنه الشعراء والخطباء وثبت معه الفقهاء والزهاد. و قالوا : بعث يوما غلامه ليشوي له لحمة فجاءه بها سريعا مشوية ، فقال : أين شويتها ؟ فقال في المطبخ ؟ قال : في مطبخ المسلمين ؟ قال : نعم : كلها فاني لم أرزقها ، هي رزقك !! مترفي السودان ... و إهلاك الشعب و الديمقراطية: ... لقد عالجت الديمقراطية داء التعصب العضال و الدكتاتوريات. فتغيرت طرق التفكير في الشارع و المعامل و المكاتب و الصحف و المدارس و الجامعات ..الخ. ليس هنالك فرق بين الشورى و الديمقراطية. إلا من حيث التسمية و خصوصية و حساسية الانتماء الثقافي للفظتين. فالشورى إسلامية المنشأ أما الديمقراطية فغربية النشأة. فهل يضر الناس إذا طبقوا الفعل الحقيقي ثم استخدموا أي منهما؟ إذاً مشكلتنا الحقيقية هي الفعل و العمل ليس القول و التنظير. فعلى الحكام ألا يتكلموا باسم الدين إلا أن يفعلوا , فإن طبقوا فعليهم تعليم الناس. فالأحكام الدينية و الفقهية واجب العلماء و المشايخ. فلا جدوى من تماهي العلماء و الفقهاء السلطة لأن ذلك يضر بمفهوم الدين. فالجدل للاستهلاك السياسي لا فائدة منه. هذه المقولة \"أن الله يزرع بالسلطان ما لا يزرع بالقرآن\" لا تدع مجالا للشك إن صحت , إن حكامنا في السودان فسدوا و أفسدوا الشعب , فماتت القلوب , و كثرت حوادث الأعراض , و أكل الحرام. فما كانت النتيجة إلا الكذب و الرشاوى و النفاق و الافتراء على الدين. فدولة الدين العادلة يتكفل الله بنشأتها إذا ضل الحكام و الناس عنها. فالعقلية التي تدعي أنها تحكم بدين الله الآن في السودان خائبة و لا يرجى منها إصلاح ديني (فهي فاسدة) و لا اقتصادي (فهي فاشلة). و في مجال الحكم و طرقه فهي ضلت الطريق للحكم الرشيد , فالديمقراطية التي اقتلعوها من مهدها في ليل بهيم , قد رسخوا عكسها و كرسوا للعقل العسكري و الأمني الذي لا يفهم كثيرا في السياسة و الثقافة إلا استراتيجيات المعركة و هذا دوره المناط به. فالقائد الديمقراطي ممكن أن تعرفه في بيت أهله , فان كان لين الجانب مع القوة , سهل الفهم مع الشدة , عريض البسمة مع الحزم و الجد , عطوف مع إعمال العقل فهو القائد المرتجى. غزير العلم فقيه يعرف كيف الخروج من المشاكل. متوازن النزعات ما بين الكبير و الصغير. يتفهم نزعات من حوله و يفسرها بذكاء. يتسع ماعون فكره للاختلاف , فان ضل ضلت الدولة والناس. فيعم من بعد ذلك الظلم و الجهل و المرض و الفقر. قال مالك بن دينار : يقولون مالك زاهد ، أي زهد عندي؟ إنما الزاهد عمر بن عبد العزيز ، أتته الدنيا فاغرة فاها فتركها جملة. في هذا المقام لا يجدر بنا تشبيه حكامنا بالسلف الصالح و لا خامس الخلفاء الراشدين , لكن نذكرهم بالدين الذي يلتفون به كذبا ً , و نذكرهم بالاعتبار بالتاريخ الإسلامي , و ليجعلوا السلف الصالح قدوتهم. ألا ترون معي من تكاسل أو قصّر في استلهام التاريخ الناصح من الحكم الراشد يعتبر جاهلا جملة و تفصيلا؟ السبب الأساسي في الترف الذي يعيشه المعدمون قبل الإنقاذ هو أن الحكومة فرقت أهل البلاد بدعاوى الحزبية على أساس بغيض و قربت منها ضعاف النفوس و المنتفعين و الانتهازيين. فعمقت بذلك الفعل النفاق السياسي و الديني و بنت دولة مهزوزة منذ ميلادها. دولة ذاكرتها ضعيفة تنسى ما تقوله قبل يوم و تتناقض مع مبادئها ألف مرة في السنة الواحدة. قالوا : دخل عمر بن عبد العزيز علي امرأته يوما فسألها أن تقرضه درهما أو فلوسا يشتري بها عنبا ، فلم يجد عندها شيئا ، فقالت له : أنت أمير المؤمنين وليس في خزانتك ما تشتري به عنبا ؟ فقال هذا أيسر من معالجة الأغلال والأنكال غدا في نار جهنم. فهل يا ترى يخشى المترفون الله بهذه الطريقة؟ أم إن الدين فقط شعارات؟ فالصدق صدق في أي زمان و مكان و الكذب كذب كذلك. فالذين يتبعون حكومة الخرطوم اقصر قامة في مقامات الصالحين فأعمالهم تدل على ذلك فلا نرجمهم بالغيب. إن كان رئيسهم الذي يرقص بعد إعلان الشريعة يعي ما معنى الشريعة لما كان متورطا الآن في سحق الفقراء من شعب بلادي. و لو أنه يذكر نفسه بالصلاح لما فسد بيت أبيه و إخوانه قبل وزرائه و ولاته. و لكننا في خلاصة القول نستدرك و نقول هذه الحكومة إلى زوال , و هذا الحزب قد انتهى منذ إن طفق يأكل أموال الشعب بالباطل ليبني افكار بنيه بالباطل فهي هشة و لا ينفعهم ذلك عند الحاجة. فأتباع الحكومة ينفرون من مجالس العلم و المعرفة و الحوارات الصحفية و النقاشات لأن عقولهم فارغة لا تستوعب إلا الخبث و التفنن في خداع الناس و إيجاد السبل الملتوية للغنى الفاحش. فهل يا ترى من بعد ذلك تقوم دولة الدين؟ ..... و نواصل. أحمد يوسف حمد النيل - الرياض