ما أن وصل رتل السيارات القادمة من جاسر الجزيرة أبا متجهة صوب مسجد الكون الذي ضاقت مساحته الشاسعة بجموع الأنصار حتى اشرأبت الأعناق في فناء المسجد وعلت التكبيرات الأنصارية بدويها المعهود استبشارا ببشرى سيقول بها الحبيب فما أن صعد الإمام المنبر حتى نادى العم داؤود مؤذن مسجد الكون أمد الله في عمره نادى النداء الثاني للجمعة ولم تمض دقائق على استهلال الخطبة حتى أنشد الإمام قصيدة محمد الجزائري بعد الايتعاذة والحمد والثناء والصلاة على خير البشر و التي تجسد عمق المحبة لنبي الرحمة صلى الله عليه وسلم وشدة وله الخلق بهدية السماء إلى الأرض رجالا ونساء وشجرا وحجرا حتى البهائم العجماء تحبه عليه الصلاة والسلام مختتما إياها بقوله:- يحبه تحبه نحبه لأننا نستشق الهواء من أنفاسه. حينها شهق كل المصلين وأدمعت أعين بعضهم لشدة محبتهم لقائل هذه الكلمات حبا على حب النبي صلى الله عليه وسلم لأجل وجه الله عز وجل، كيف لا وقد خلد لهم مهدي الأنام عليه السلام قوله: \" فأنقذني ومن صحبني ومن أحبني على حب نبيك صلى الله عليه وسلم لأجلك يا من بيده الأكوان\" . وبعد هذا الإبحار بعمق في محبة الحبيب الأعظم صلى الله عليه وسلم تصاعدت الأنفاس استنظارا للبشرى التي ظلوا يرجون سماعها من حبيبهم الإمام، وكأنه قد علم ما يريدون فقال لهم: \" قال الإمام المهدي عليه السلام: في مقبل الأيام تكون لنا كرامة أكبر مما نحن فيه\" وعدد لهم الكرامات المادية الملموسة و التي حدثت عيانا بيانا من طرد المستعمر بعد أن دفن المهدي وراتب المهدي وخليفة المهدي على ونالت البلاد استقلالاها أيدي المهدويين الذين ساروا مع الإمام عبد الرحمن المهدي طيب الله ثراه، مرورا بانتفاضهم على الدكتاتورية الأولى \"على الفريق عبود\" في أكتوبر في مشهد جسد قوة هذا الكيان، ووصولا إلى انتفاضة رجب إبريل المجيدة التي أعقبت بطش المشير جعفر نميري الذي أفنى الأنصار في أبا وود نوباوي وقتل شهيدهم الإمام الهادي في الكرمك، كل هذه الكرامات خطها قلم الحبيب الإمام انتهاء بانفراد حزب الأمة القومي بالإجتهاد والجهاد رغم الصلف -الديكتونقاذي – الذي كال البذاءات والشتائم والتضيق كيلا على هذا الكيان وقيادته ولكن حال هذا الكيان يبشر بأنه كطائر العنقاء:- كم قتلت وكم مت عندكم *** ثم انتفضت فزال القبر والكفن وهو حال حزب الأمة القومي وكيان الأنصار وقادتهما فبقدر المنايا التي ألمت بهما جاءتهم المزايا درءا للرزايا وبقدر المحن التي أحدقت بهما وكادت أن تشتت شمل الأنصار وأعضاء حزب الأمة القومي تنهال المنن منة تلو أخرى على الكيان الديني والوطني، فتجد النكبة في موت القيادات الفاعلة يأتي عوضا عنها من يعين الإمام ورئيس الحزب في قيادة المؤسسات دون ضن أو من، وتجد عجائب قد تصل حد الكرامات التي يبشر بها الإمام في خطاباته في كل اللقاءات الجماهيرية وهي من مدهشات الطبيعة أن تجد الأم والإبنة والجدة بجانب الجد والإبن والحفيد يتتدافعون في استقبال الإمام وقادة الكيانين بذات الحماسة وذات الهمة مما يعطي مشاهد الأنصار والعمل السياسي لحزب الأمة القومي قيمة مضافة، وهي أن هذين الكيانين يستحيل أن تحدث بهما عوامل التعرية شروخا أو إنهيارات أو انزلاقات تقطع الأصل التليد من الحاضر الجديد، فقد أثبتت الأيام أن هذين الكيانين يتجددان ولا يتبددان. والبشرى الأكبر هي ما ذهب إليه الإمام في الاستدلال بهذه الكلمات الحسينية، والتي تؤكد دون أدنى شك أن إرادة الله وأن كلمته ونور برهانه وحجته ستملأ الأرض ولن يستطيع إنكارها إلا جاحد وظالم أو خفاش ينكر ظهور ضوء النهار، والأبيات هي:- لنور الله برهان عظيم تضيء به القلوب المطمئنة يريد الظالمون ليطفئوه ويأبى الله إلا أن يتمه ودون أدنى شك أن لهذا النور الراضي المرضي إشراقات ومقدمات تطل بنورها على وجه الكون وتجلت في جامع الكون في الجزيرة أبا، وتبين لنا كيف ومتى وأين ومن سيتمم بإرادة الله هذا النور الذي يعمل الجاحدون على إخماده وإطفائه، فهذا النور عقد منضود من الأنوار والإشراقات الإنسانية التي يجريها الله على أيدي وألسنة الخلق إحقاقا للحق وتبايانا للعدل وإبطالا للباطل وتغطيسا للخلق في الرحمة التي أعرض عن ذكرها الجاحدون وأرادوا أن يلهوا الناس عنها بمفاسد الأعمال ويغمسوهم في ملذات الدنيا الفانية وزخارفها البالية وتسييرهم في خطى الظلم – الذي هو صنو الشرك العظيم-وإيصال الأمة إلى نقطة الفراغ الروحي والخواء الفكري أو إدخال الأمة في نفق التطرف والغلو والتشدد، الذي يجر عليها وبال الغزو والدمار والاستبداد، فبالرجوع إلى هذه البشرى ومقارنتها بواقع الحال تجد أن الأنوار المشرقة (الناسوتية و اللاهوتية) من ديمقراطية وكرامة وعدالة اجتماعية ومساواة وشورى وحرية وأخرى لا تعلمونها الهق يعلمها، ارتفعت شدة إشراقها في عوالمنا العربية وبدأت البشريات تتوالى بسقوط أنظمة الإستبداد والإنفراد والعناد والفساد واحدا تلو الآخر وإحلال الديمقراطية والعدل والحكم الراشد بديلا لها. ومن نعم الله التي لا يستطيع كل أهل السودان شكر الله عليه ثناء وحمدا أنه أكرمهم بقائد هذه الإشراقات، مُحقا قوله تعالى أنها :\" (ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)، فلم يكن هناك استغراب أن أعظم مفكر وقائد في القرن العشرين هو حفيد المهدي في السودان، ولم تكن أسطورة من أساطير الأولين أن ينتخب مسلموا الأمة في منتدى الوسطية الإسلامية العالمية الإمام الصادق نجل الأجلاء حفيد الإمام المهدي رئيسا لمنتداهم العالمي، ولم يكن قادة العالم في غفلة أو سُكارى حينما اختاروه من ضمن قادة حوار الغرب والإسلام، ولم ولم ولن يجد أهل السودان مفرا من الإيمان والإذعان بأن هذا الرجل الأمة ليس لحزب الأمة القومي أو كيان الأنصار أو حكرا على شعب السودان وإنما هو رحمة للناس كافة مسلمهم وكافرهم وأنه رحمة لكل أهل القبلة سنييهم وشيعتهم وأهل التصوف، وأنه الأول بلا منازع في كونه على منبر جامع الكون، ويسأل الكاتب رب الأكوان حفظ هذا الأمل الحكيم الصادق للسودان، لأنه متخلق بخلق قدوته ويسير على أحسن القدم الذي هو قدم النبي صلى الهم عليه وسلم. وآخر البشريات التي هي بشرى حتمية لا مناص منها، وتًقَوَّل البعض من أهل السياسة أن الإمام الصادق المهدي سيترك العمل السياسي طال الزمن أو قصر وسيتنحى من قيادة المسيرة الوطنية ويترجل من سنام الجهاد والإجتهاد إلا أن الرجل قال قولته الفصل التي ليست بالهزل، رغم كيد أعدائه كيدا، فقد قال في ختام خطبته المشهودة والتي لا زال أهل أبا والقارئون في ما وراء البحار يكررون قراءتها يوما بعد يوما ليجدوا نفائسا ودررا مكنونة عظيمة فيها، في الكلمات، والآيات، والأشعار، والأقوال المأثورة، حتى الذين شاهدوها ظلوا يرقبون أنفاس الرجل بم تبشر؟؟، فتلقفوا ثباته إلى أن يلقى الله على مبادئ الآباء والأجداد، فقد قال قولته:- \"رحم الله شهداء هذه المسيرة المباركة ووفقنا للسير في دربهم حراسة لمشارع الحق حتى نلحق بهم في رحاب الله حيث (َإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)\". بشرى الحبيب الإمام ليست نثرا يكتب وفق الهوى، وليست فصاحة شعر يستدل به، وإنما هي بشريات للعالمين- بكسر اللام والميم- وليست للجاهلين المتنطعين الذين لا يرون من الأنوار إلا أشعتها ولا يتعمقون في النظر إلى كنهها وحقيقتها أنها عقيق مهدوي نوراني مصطفوي قرآني وقد قال صلى الله عليه وسلم: (اتقوا فراسة المؤمن فإنه يرى بنور الله) و اعلموا أن الله قد أمرنا بذلك وأرشدنا لإعمال البصائر قبل الأبصار بقوله جل وعلا:- (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ).