شئ من حتي أزمة تلد أزمة د.صديق تاور كافي ٭ خرجت انتخابات جنوب كردفان التكميلية من رحم أزمة الإحصاء السكاني في 8002م، وما تبعه من عمليات مرتبطة بالانتخابات، مثل الدوائر الجغرافية والمفوضية والتسجيل الانتخابي وغيرها، وسريعاً ما تحولت الانتخابات نفسها الى أزمة جديدة قائمة بذاتها لا تختلف كثيراً عن سابقاتها من حيث تهديد العلاقة الهشة بين الشريكين اللدودين، والتهديد بالعودة لمربع الحرب. فقبل أن تبدأ عملية الاقتراع بدأ الاصطراع على النتيجة والاعتراف بها من عدمه، وسوف لن تكون هذه آخر الازمات لأن الانتخابات مرتبطة بالمجلس التشريعي المناط به إدارة عملية المشورة الشعبية في الولاية، بمغالطاتها الدائرة منذ أكثر من عام. وأطراف هذه الازمة الرئيسية هي الحركة الشعبية، المؤتمر الوطني ومفوضية الانتخابات. وعلى صعيد الحركة الشعبية فهى تعيش أزمة حقيقية منذ مجيئها عبر اتفاق نيفاشا بوصفها طرفا شريكا في السلطة. وهى أزمة شديدة التعقيد جعلت من الحركة الشعبية نفسها عنصر تأزم للأوضاع ومصدر اضطراب مستمر. فأولاً تعيش الحركة أزمتها الداخلية على الصعيد التنظيمي وعلى صعيد المركز القيادي بالولاية، فضلاً عن الخطاب السياسي المنفر والأداء الفاشل طيلة السنوات الماضية. ومن الناحية التنظيمية ظل قطاع الجبال في الحركة مرتبطاً بشكل كامل بقطاع الجنوب بصورة افقدته استقلاليته السياسية لدرجة كبيرة، وأقعدته عن بلورة رؤية مناطقية خاصة بالولاية تستقطب الرأي العام المحلي، وتمنح القطاع مقبولية يحتاج اليها كيما يتحول من تنظيم عسكري الى تنظيم سياسي فاعل. والطرف الجنوبي في الحركة تعامل بانتهازية واضحة مع قضية جبال النوبة خاصة، ومع القضية السودانية عموماً، عندما دفع بالأمور نحو الانفصال وتأسيس دولته الخاصة على حساب شلالات الدم التي نزفها أبناء الأقاليم الاخرى في صفوف الحركة، عشماً في سودان جديد كان قد بشَّر به منفستو الحركة الشعبية. وكافأت أبناء الولاية في صفوفها بجزاء «سِنِمَّار» حيث لا تزال تحتفظ بهم ضمن قواتها الجنوبية، وتستخدمهم في العمليات التي تتعلق باستقرار الجنوب، ولم تضمن لهم أي مستقبل رسمي ضمن الدولة التي يتبعون لها والارض التي قصدوا النضال من أجلها. ويريد الطرف الجنوبي في الحركة الشعبية أن يحتفظ بأبناء الجبال في صفوف الجيش الشعبي رهائن الى حين ضمان الانفصال، ثم المساومة بهم بعد ذلك مع دولة الشمال، أو استخدامهم في حرب محتملة على طريقة قوات البشمركة، ويمكن أن تكون لدولة الحركة الشعبية في الجنوب اطماع توسعية في هذه المنطقة أيضاً، عن طريق تعلية سقوفات المشورة الشعبية الى ما يقود للتدويل وتفكيك اقاليم المشورة وتهيأتها للانضمام لدولة الحركة الشعبية في الجنوب. ويعزز هذه النظرة إصرار قيادة الحركة الشعبية في الجنوب على الاحتفاظ بسيطرتها على منسوبيها في الجيش او خارجه من أبناء الجبال تحديداً، وحرمانهم من المشاركة في الإحصاء السكاني أو التسجيل للانتخابات، ومن ثم حرمانهم من المشاركة في العملية السياسية في منطقتهم بشكل متعمد ومقصود، ثم تمادت أكثر بتهميش وبإقصاء القيادات المفتاحية من المنطقة مثل اللواء دانيال كودي انجلو واللواء اسماعيل خميس جلاب واللواء تلفون كوكو ابو جلحة. وعلى صعيد المركز القيادي للحركة الشعبية بالولاية، فإنه لم يوفق في معالجة أزمة القيادة المزمنة المستمرة من قبل التوقيع على نيفاشا. فقيادة خميس جلاب كانت محاصرة بالشراكة المأزومة وبتراكمات مرحلة الحرب، لذلك اضاعت الزمن ما بين الصراع مع المؤتمر الوطني وإخماد التفلتات الصادرة عن حركته. أما دانيال كودي فقد واجه معارضة داخلية من قواعد الحركة (مجلس التحرير) بسبب محاولته تطبيع العلاقة مع المؤتمر الوطني، انتهت بإقالته من قيادة الحركة في الولاية والإتيان بعبد العزيز الحلو بعد أن وصلت الأمور الى القاع، على الصعيد الداخلي وعلى صعيد الشراكة والشريك الآخر. وجاءت قيادة الحلو بدفع من المركز الجنوبي للحركة، ودعم معنوي منه، مثلما جاء هارون من المؤتمر الوطني بذات الكيفية على خلفية ما يشبه الانهيار التنظيمي والاداري داخل حزب المؤتمر الوطني أيضاً. وبالنسبة للمؤتمر الوطني وعلى خلفية مرحلة عيسى بشرى وعمر سليمان، فقد كان الوضع الداخلي لا يختلف عما يحدث داخل الحركة الشعبية، حيث توالت الوفود من الولاية الى المركز تطالب بإقالة الوالي، واخرى تطالب ببقائه، كما ظهرت مذكرات وبيانات باسم جماعات الاصلاح داخل الحزب، في الوقت الذي سيطر فيه الفساد الاداري والمالي على كل المفاصل في الولاية، ولأول مرة تتهدد ميزانية الولاية بالتجميد، وعفونة الفساد غطت المكان بأكمله. وعندما جيء بأحمد هارون كانت العين على الانتخابات، وفُرض على الولاية فوق رغبة عضوية المؤتمر الوطني أنفسهم، ولم يسلم الأخير من حرب البيانات، وتهم الفساد السلطوي، وتقريب المفسدين.. الخ. وبدأ المؤتمر الوطني مركزياً الدعاية الانتخابية لمرشحه لمنصب الوالي منذ أن جيء به الى الولاية، حيث أفرج عن الكثير من المشروعات التي كانت معطلة عن قصد، واصبح مجلس الوزراء يجتمع في الولاية، وسُمح بتقديم بعض الخدمات الهامشية تحت لافتة التنمية، حتى إذا ما وصل قطار الشراكة إلى محطة الانتخابات اصبح الحديث عن ضرورة فوز هارون لضمان استمرار عمليات التنمية، علماً بأن الطرق الترابية لا تعني اللتنمية بأية حال، فالأخيرة هى مشروعات صناعية وزراعية كبرى تحدث تحولاً تلقائياً في حياة الناس وفي ملامح المنطقة. والآن وعلى الرغم توجيه المفوضية بتجنب ما يستبطن الدعاية الانتخابية والابتعاد عن الخلط بين عمل الدولة الرسمي والدعاية الانتخابية، إلا أن المؤتمر الوطني وعلى مستوى قيادته العليا لا يهتم بما تقوله المفوضية، ويستخف بها بشكل غير لائق. فالرئيس ونائبه ومساعده والمتعافي وعبد الوهاب عثمان وأسامة عبد الماجد، كل هؤلاء يشاركون في الحملة الدعائية لمرشح حزب المؤتمر الوطني بإمكانات الدولة وبسلطة المنصب الرسمي وامتيازاته، ويقدمون الوعود ويفتتحون المنشآت ويستخدمون الطائرات والإعلام الرسمي، كل ذلك بشكل مخالف تماماً للمنافسة الانتخابية النزيهة، بما يدخل ضمن ممارسة الفساد الانتخابي. وهذا وحده يقدح في العملية برمتها. ومن جانب الحركة الشعبية فهى تطرح نفسها بطريقة لا علاقة لها بالانتخابات او الديمقراطية. فقد تعرّض أنصار ومرشحو المنافسين الآخرين الى تعديات خطيرة جداً، في المناطق التي تتركز فيها سيطرة الحركة الشعبية وفي غيرها أيضاً. وقد تم اختطاف بعض الناشطين في حملة المرشح تلفون كوكو من منطقة البرام واقتيادهم إلى معسكر الابيض حيث تعرضوا هناك للتعذيب، كما تعرضت سيارة أحد مرشحي المؤتمر الوطني بمنطقة هيبان الى اطلاق نار كثيف، ونجا آخرون من كمين في منطقة البرام. وفي أبو جبيهة تم الاعتداء على أنصار تلفون كوكو ومحاولة ترويعهم باطلاق الرصاص في الهواء، كما تعرضت الملصقات الخاصة به في الريف الجنوبي وفي مدينة كادقلي وابو جبيهة الى التمزيق والتلف. هذا فضلاً عن مظاهر السلاح المستخدمة في الحملة الانتخابية للحركة الشعبية بطريقة فوضوية. وأكثر من ذلك فإصرار الحركة الشعبية على حبس اللواء تلفون كوكو ومنع الزيارة والاتصالات الهاتفية عنه، حتى بعد أن ترشح مستقلاً، يشير إلى مستوى الاستبداد والاستخفاف بالحريات والقانون الذي تمارسه الحركة الشعبية. لقد ارتضى الشريكان في جنوب كردفان خوض الانتخابات على طريقتهما الخاصة، باعتبارهما حزبين مستبدين لا علاقة لاي منهما بالديمقراطية والحريات واحترام الآخر، لذلك فهما يتصارعان على النتيجة قبل أن تبدأ عملية الاقتراع، إذ بينما تهدد الحركة بالعودة الى المربع الاول إذا لم تفز بمنصب الوالي لأن ذلك يعني تزوير الانتخاب بحسب منطقتها، يهدد المؤتمر الوطني من جهته بأن عدم الاعتراف بنتيجة الانتخابات سوف يدفعه الى عدم الاعتراف بنتيجة الاستفتاء التي يعتبرها مزورة ولكنه سكت عليها. والمفوضية هى الأخرى رفضت الطلب الذي تقدم به المستشار القانوني للمرشح تلفون كوكو الذي فحواه تأجيل الانتخابات إلى حين زوال الظرف القاهر الذي يمر به مرشحه. وقد سببت رفضها بأن شرط الظرف القاهر لا ينطبق على المرشح تلفون كوكو، على الرغم من تعهد المفوضية بتأمين الفرصة للناخبين والمرشحين بحرية كاملة. أيضاً تتغاضى المفوضية عن استغلال جماعة المؤتمر الوطني للسلطة والنفوذ الرسمي في الحملة الانتخابية. كما تملصت المفوضية من دورها في طلب استرداد الممتلكات المصادرة الذي عرضه ممثل حزب البعث، بحجة أن ذلك ليس من اختصاصها. ولو أن لدى القائمين على أمر المفوضية أقل قدر من المصداقية المهنية، لكانوا قدموا استقالات جماعية من هذه الملهاة السيئة. وانتخابات جنوب كردفان بهذا الشكل تضع المواطنين أمام اختيار ما بين المصيبة والمأساة، لأنها في كل الأحوال سوف تنتج أزمة جديدة في الولاية، ولا ترقى الى أن يطلق عليها انتخابات حقيقية. الصحافة