وكيل الحكم الاتحادى يشيد بتجربةمحلية بحرى في خدمة المواطنين    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    مليشيا التمرد تواجه نقصاً حاداً في الوقود في مواقعها حول مدينة الفاشر    ضربة موجعة لمليشيا التمرد داخل معسكر كشلنقو جنوب مدينة نيالا    مدير مستشفي الشرطة دنقلا يلتقي وزير الصحة المكلف بالولاية الشمالية    شاهد بالفيديو.. شاعرة سودانية ترد على فتيات الدعم السريع وتقود "تاتشر" للجيش: (سودانا جاري في الوريد وجيشنا صامد جيش حديد دبل ليهو في يوم العيد قول ليهو نقطة سطر جديد)        ضياء الدين بلال يكتب: نحن نزرع الشوك    بالصور.. اجتماع الفريق أول ياسر العطا مساعد القائد العام للقوات المسلحة و عضو مجلس السيادة بقيادات القوة المشتركة    أقرع: مزايدات و"مطاعنات" ذكورية من نساء    وزير خارجية السودان الأسبق: علي ماذا يتفاوض الجيش والدعم السريع    شاهد بالفيديو.. خلال حفل حاشد بجوبا.. الفنانة عشة الجبل تغني لقادة الجيش (البرهان والعطا وكباشي) وتحذر الجمهور الكبير الحاضر: (مافي زول يقول لي أرفعي بلاغ دعم سريع)    شاهد بالفيديو.. سودانيون في فرنسا يحاصرون مريم الصادق المهدي ويهتفون في وجهها بعد خروجها من مؤتمر باريس والقيادية بحزب الأمة ترد عليهم: (والله ما بعتكم)    غوتيريش: الشرق الأوسط على شفير الانزلاق إلى نزاع إقليمي شامل    أنشيلوتي: ريال مدريد لا يموت أبدا.. وهذا ما قاله لي جوارديولا    سوداني أضرم النار بمسلمين في بريطانيا يحتجز لأجل غير مسمى بمستشفى    محاصرة مليوني هاتف في السوق السوداء وخلق 5 آلاف منصب عمل    غوارديولا يعلّق بعد الإقصاء أمام ريال مدريد    امين حكومة غرب كردفان يتفقد سير العمل بديوان الزكاة    نوير يبصم على إنجاز أوروبي غير مسبوق    تسلا تطالب المساهمين بالموافقة على صرف 56 مليار دولار لرئيسها التنفيذي    محافظ بنك إنجلترا : المملكة المتحدة تواجه خطر تضخم أقل من الولايات المتحدة    منتخبنا يواصل تدريباته بنجاح..أسامة والشاعر الى الإمارات ..الأولمبي يبدأ تحضيراته بقوة..باشري يتجاوز الأحزان ويعود للتدريبات    بايرن ميونخ يطيح بآرسنال من الأبطال    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    العين يهزم الهلال في قمة ركلات الجزاء بدوري أبطال آسيا    مباحث المستهلك تضبط 110 الف كرتونة شاي مخالفة للمواصفات    قرار عاجل من النيابة بشأن حريق مول تجاري بأسوان    العليقي وماادراك ماالعليقي!!؟؟    الرئيس الإيراني: القوات المسلحة جاهزة ومستعدة لأي خطوة للدفاع عن حماية أمن البلاد    بعد سحق برشلونة..مبابي يغرق في السعادة    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    خلال ساعات.. الشرطة المغربية توقع بسارقي مجوهرات    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    وزير الخارجية السعودي: المنطقة لا تحتمل مزيداً من الصراعات    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    أحمد داش: ««محمد رمضان تلقائي وكلامه في المشاهد واقعي»    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    ما بين أهلا ووداعا رمضان    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



امدرمان
نشر في الراكوبة يوم 19 - 05 - 2011


[email protected]
دبسني الفنان خضر (طارق ابوعبيدة) مع انجليزي يتكلم بلهجة امدرمان.. عرفت انهم يعدون كتابا عن العاصمة السودانية الخرطوم. فافهمت الانجليزي بأنني ككثير من اهل امدرمان, عندما اذهب للخرطوم اعتبر نفسي من المغتربين. ولم اقضي في كل حياتي سوى ليلتين في الخرطوم. الليلة الاولى قضيتها في يناير 1964 في محطة السكة حديد في انتظار العمة حليمة الحاج احمد ود ادريس التي كانت في طريقها الى امدرمان من الجنينة. وتأخر القطار 24 ساعة. اللية الثانية كانت في ليلة راس السنة 1985 بسبب انعدام البنزين و اسباب اخرى. وعلى تلك الجريمة وجدت التقريع والكلمات القاسية . وبالرغم من اعتذاري. واجهت قرار من اختي نضيفة (من الليلة دي تنوم جوة بيتك هني في امدرمان. ومن الساعة عشرة مافي ليك مرقة). انا اورد هذه الحادثة لكي اؤكد ان امدرمان هي مدينة النساء. امدرمان معروفة حسب الحفريات والآثار منذ الاف السنين. ولهذا وعدت ان اكتب على امدرمان فقط .
امدرمان عندما ظهرت كأكبر مدينة في السودان في القرن التاسع عشر , كانت عبارة عن معسكر كبير للجيش. يذهب الرجال للحرب وقد يعودون او لا يعودون. ولهذا قبض نساء امدرمان على زمام الامور. وصار لهم نفوذ وسلطة على بيوتهم و رجالهم وابنائهم. تميزن بالشخصية القوية. ولهذا قد اهديت الطبعة الاخيرة من كتاب حكاوي امدرمان الى ثلاثة امدرمانيات, والدتي رحمة الله عليها و الدكتورة خالدة زاهر و المناضلة فاطمة احمد ابراهيم. واذكر ان الكاتب عصمت زلفو رحمة الله عليه. قد لفت نظري في التسعينات بأن سبب ترابط اهل امدرمان وتواصلهم الشديد, هو معركة كرري. فضحايا المعركة اكثر من خمسة وعشرين الف من جريح وقتيل وهذا قد يعني نصف الرجال. وتكفل النساء بتربية اطفالهن واطفال الآخرين. وواصلن مسيرة الحياة. ولهذا كان الكثيرون يقولون ويحذرون الآخرين من الزواج من نساء امدرمان. لأن نساء امدرمان لهم شخصيات طاغية. الى ان غادرت السودان قبل عشرين سنة لم اشاهد امدرمانيا يتغيب عن منزله بدون سبب معلن او لا يحضر الغداء.
الاسم امدرمان وجد تفسيرات كثيرة اكثرها شيوعا هو انه كان هنالك اميرة من العنج و كان لها ابن اسمه درمان. وكنت انا احد اللذين يروجون لهذه الفكرة. وكان يقال ان لها قصر من الحجر. كانت اثاره لا تزال باقية في منطقة بيت المال. ولكن لماذا يطلق اسم عربي على اميرة من العنج؟..وقبل سنة عندما قدمت محاضرة في واشنطن عن امدرمان لفت نظري الدكتور عبدالرحيم محمد صالح الا ان اسم امدرمان يأتي من شجر الدرمان. فمن العادة ان تطلق اسماء مثل امدوم وامبرمبيطة و ام سنط وابوحراز وابو ديس على البلاد السودانية. وهذا طبعا بعد انتشار اللغة العربية. ويقول السودانيون ده ما بعرف السلمة من الدرمانة. و السلم كذلك شجر.
بعد هزيمة كرري واصلت امدرمان موقعها كعاصمة للبلد . الا ان كتشنر و الذي كان يتكلم اللغة السودانية كأهلها و حارب عثمان دقنة في شرق السودان وجرح وكاد ان يموت, احس بانه لا يمكن ان يجد النظام الجديد كل التعاطف من سكان امدرمان. فنقل العاصمة الى الخرطوم مرة اخرى. و اخذت الخرطوم طابعا شبه اوروبي. وعندما كنا صغار كان هنالك منطقة الخرطوم عموم. ويقول الانسان ماشين عموم. وهذه تعني منطقة المحطة الوسطى ومواقف الترام والمصالح والوزارات. ثم هنالك نمرة 1 ونمرة الخرطوم 2 و كان يسكنها الارمن والشوام والاغاريغ والايطال وهنالك الخرطوم 3. ثم انشئ حي السجانة و الاسم يدل على من كان يسكنونه. ثم كانت الديوم ثم عشش فلاته كحي هامشي على اطراف الخرطوم..وهؤلاء, سكان الخرطوم و الذين كان 52 % منهم من اصول اوروبية حاولوا الإحتفاظ بهويتهم واغانيهم وطعامهم. وطريقتهم في الاحتفالات و المآتم وكانت لهم مدارسهم مثل ال يونيتي سكوول ومدرسة الارمن وكمبوني المدرسة الايطالية. وحتى الهنود كانت لهم مدارسهم. ولكن في امدرمان صار الاوروبيون والهنود و الارمن واليونانيين والايطال جزءا من المجتمع الامدرماني وعاشوا كأمدرمانيين صميميمن.
اذكر في الخمسينات ان خالتي شقيقة والدتي نفيسة خليل ابتر كان لها حوش ضخم في المسالمة. وكان هنالك منزل صغير في الحوش يفيض عن حاجتهم. فاستأجره اثنان من النقادية. ونقادة مدينة في صعد مصر سكانها مسيحيون. و النقادة في امدرمان كانوا مشهورين بنسج الفراد التي كانت تلبسها المراة السودانية. وكان عندهم مناسج صغيرة يديرها رجل واحد ويجلس ورجليه داخل حفرة. وبعد فترة اتت الخالة سلمى, وهي شقيقة احد الصديقين و زوجة الثاني. وحاولت ان تنسجم في المجتمع الامدرماني, وإن لم تتخلى عن عاداتها المصرية فلقد بنت فرنا من الطين وكانت تخبز نوع خاص من الخبز وتبيعه وكان ابي يحبه ويرسلني من حي الملازمين لإحضاره. وتبيع الفسيخ كذلك..
اذكر ان خالتي كانت تشرح لها ما استعصى عليها. فمن العادات القديمة التي تواصلت في امدرمان منذ الدولة النوبية عملية (شيل الوسخ) وهي ان لا يذهب انسان متهندما مرتديا الجميل من الثياب و ان يرتدي نفس الملابس التي ذهب بها في اليوم الاول. ويشارك الجيران و المعارف اهل الميت في شيل الوسخ.
قديما كان عندما يرحل الجار الى دار جديدة يصير من العيب او نوع من الفضيحة ان يشعل الضيف نارا . ويتكفل الجيران بإطعام الجار الجديد, بغض النظر عن ثرائه او فقره . وكل ما طالت المدة كلما كان هذا جيدا. وطبعا لا يشعل اهل الميت نارا في اليوم الاول. وتتحول عدة منازل في الحي لمكان مأتم. و المأتم يأخذ سبعة ايام. ولكنه يمتد الى اربعين يوما بطريقة غير مكثفة. وهذا امتداد للعادات النوبية القديمة لأن عملية تحنيط المومياء كانت تأخذ اربعين يوما. يعقبها احتفال. ولا تزال عادة كسر التربة في امدرمان تمارس و هي اصلاح القبر بعد مرور سنة على الموت.
امدرمان التي صار سكانها يعدو بالملايين لا يوجد فيها حانوتي ولن يوجد فيها حانوتي. وهنالك رجال في امدرمان يتكفلون بعملية دفن الموتى ويحتفظون بالحنوط والكفن في منازلهم. ويتواجدون في منزل المتوفي قبل الاقارب و الاصدقاء. وفي المأتم في امدرمان يتساوى الصغير و الكبير. ويحمل الحاكم و المحكوم نفس النعش على اكتافهم الى مثواه الاخير.
وعندما توفيت والدة بثينة زوجة جعفر نميري لام جعفر نميري العم عوض سالم وبعض معاونيه لأنهم اتوا متأخرين على غير عادتهم ولم يقوموا بعملية تجهيز الجنازة. قال العم عوض سالم ( و الله يا جعفر يا ولدي انت فكيتنا من السجن اسي دي لو كنت فكيتنا بدري كنا جينا مع الوفاة).
ففي امدرمان كان الناس يذهبون لمواساة الطاغية الذي وضعهم في السجن قبل ذهابهم الى منازلهم.
عندما حاولت الخرطوم, بتشجيع من الانجليز و المصريين؟, ان تنفض عنها العادات السودانية القديمة, تشبث اهل امدرمان بالعادات السودانية بشكل عقائدي. اذكر ان جدتي والدة امي كانت تلبس شبشب نعله من اطارات السيارات بالرغم من ان زوجها كان سر تجار وابنها اسماعيل تاجر كبير في اعلي النيل . وكانت تلبس الدمورية وزن 10 وتلبس الفردة الخشنة وتغسل ملابسها بالشاي المغلي حتى لا تكون لامعة. و لا تستعمل الدهن او العطور و لا تأكل اي شيء حلو المذاق. و هذا الى ان انتقلت الى جوار ربها .
في امدرمان كانت الحياة الزوجية شيئا مقدسا ولا اذكر حالة طلاق واحدة سوى طلاق صديقة لأمي.. وكانت امينة صندوق او الخته. و هي ان يدفع النساء مبلغا من المال كل شهر ويعطونه لإحداهن. وتأخذ كل واحدة. نفس المبلغ لفترة سنة. وكنا نتوقع ان تشتري لنا والدتي دراجات من المبلغ. و لكن السيدة كانت قد فقددت المبلغ لأن زوجها كان مدمنا على القمار. و عندما كان بعض الزائرات يشرن الى الموضوع كانت والدتي تقول بحسن نية القروش فائدتها شنو؟. اختي طلقوها.
وقديما كان ناس امدرمان لا يذهبون ابدا الى البوليس. ويقولون ان البوليس و المحاكم للغريب. وبعد فترة تزوجت صديقة والدتي مرة اخرى ونعمت بحياة هادئة وكانت تبدو سعيدة وارجعت المبلغ الى والدتي.
اذكر ان الضابط ظعوط قد وجد مطعونا و بالرغم من اصرار بمطالبة البوليس رفض الكشف عنمن طعنه. اذا حييت, حا اخد حقي . واذا ما حييت خلاص..
كان و لا يزال هنالك تكاتف كبير في امدرمان. من الاشياء المميزة في امدرمان و التي اشارت اليها الاستاذة عازة الريح العيدروس في كتابها امدرمان عبر الحقب و القرون. وهذا كتاب رائع لا افهم لماذا يحظى كتاب حكاوي امدرمان بإهتمام كبيرولا يجد هذا الكتاب الاكاديمي الرائع كل الاهتمام..
الموضوع هو (الحضن) الحضن هو ان زوجة المتوفي لا تقابل شروق الشمس او غروبها فتدخل في هذه الفترة الى غرفة مظلمة وترقد,و وجهها في مواجهة الحائط..وكنت اشاهد والدتي رحمة الله عليها تقوم بهذه العملية..وتزيد عليها بأن لا تنظر الى نفسها في المرآة. وفي احد الايام كان الباب مفتوحا في غرفة والدتي و لاحظت ان المرآة الكبيرة مغطاة . ومدفوعا برعونة الشباب اردت ان انزع الغطاء قائلا... بلاش كلام فاضي...فهاجمتني مجموعة النساء الذين يتناوبن ملازمة الارملة لفترة قد تمتد لشهور...ولو لم افر بجلدي, كان من الممكن انني قد تعرضت لبعض الاذى..
كما اوردت الاستاذة عازة الريح العيدروس في كتابها فإنه بعد نهاية فترة العدة فإن النساء كن يأخذن الارملة الى النيل فتبكي لآخر مرة وكأنها تودع البكاء والحزن ويغسلون وجهها بماء النيل..وقد يحملون معهم بعض الماء فإذا عاودت الارملة البكاء في الطريق بغسلون وجهها مرة اخرى وكانهم يطهرونها بماء النيل.
شهر مايو كان شهر الزيجات في امدرمان ولهذا اتت الاغنية حريقه يا مايو. فمايو هو الشهر الذي تكون فيه الاجازات. وكنا عندما نكون بالقرب من النيل ان تأتي كميات كبيرة من الباصات. عبارة عن سيرة العريس. ويغنون عريسنا سار البحر وقطع جرائد النخل. وتأتي النساء بعد يوم الاربعين في النفاس. ويغسلن اقدامهن وجههن في النيل. وقديما كان النساء يقمن بعملية استحمام كامل في النيل بعد النفاس. ومن العادة ان يؤتى بالمولود الجديد لغسل وجهه في النيل وهذا إمتداد لعملية التعميد المسيحية القديمة ولم تتخلص امدرمان من هذه العادة..
وكنت اشاهد بعض نساء امدرمان يقفن واقدامهم في النيل وهم يواجهن الهلال وتقوم إمرأة بفصد سيقانهم من الخلف بالموس حتى تسيل دماءهم. وكن يواجهن العملية بشجاعة. وعرفت فيما بعد ان القصد منها...الإسراع بعملية الحمل...
العادات الامدرمانية اثرت على كل السودان..وصارت الزيجات تعقد في جوبا و الجنينة وبورتسودان بنفس الطريقة, من قيدومات وفتح خشم وحرارات وعقد و بخ اللبن ورقص العروس وحق البنات ولمس القصة والشعقيبة.. والسبب ليس هو فرض الافكار الامدرمانية لأن امدرمان هي بلد الجميع. فلقد اتى الكل بأنواع اكلهم ورقصاتهم واسلحتهم وتراثهم. وانصهر كل هذا في بوتقة واحدة وتكونت الثقافة الامدرمانية واللهجة الامدرمانية. و اصدقاء طفولتنا الذين اتوا من اماكن نائية تخلصوا بسرعة من مفرداتهم المحلية ولكنتهم والتقطوا المفردات و اللهجة الامدرمانية..الاالعجائز. فجدتي الرباطابية الرسالة بت احمد كانت تقول للكبريته الكسفريته..وتقول للشمام القاوون. واكتشفن انا في تركيا ان الكلمة تركية وتقول للغرفة العوضة وتقول للملاءة الليانة وتأتي من كلمة لينين الاوربية .
الجيش الغازي الذي هزم جيوش المهدية في امدرمان..وجد بعض السيوف اللتي شاركت في الحرب الصليبية..وكان مكتوبا عليها باللاتيني...لا تجردني بغضب ولا ترجعني الا بشرف..و السيف السوداني لا يزال يمثل السيف الصليبي و الذي هو في شكل صليب..على عكس السيوف العربية الموجودة في المنطقة..امدرمان كانت تؤثر و لا تزال تؤثر على محيطها..امدرمان لا تال اقرب الى قلب المواطن السوداني..والمهدي عندما انتقل الى امدرمان كان لا يريد ان يجعل بينه و بين مؤيديه في غرب السودان بحرا..وعندما فتح عمرو بان العاص مصر طلب منه عمر ابن الخطاب رضي الله عنه . ان لا يجعل بينه و بين المسلمين بحرا ولهذا بنيت عاصمته الفسطاط في شرق النيل..وبما ان اغلب اهل السودان هم (ناس ضهاري) فلم يكن العوم معروفا للجميع ....
امدرمان كانت برمنجهام , منطقة كبيرة جدا تمتد الى ود داي و تشاد و النيجر...ففي امدرمان كانت تصنع الاسلحة من سيوف وحراب ومزاريق. وطرمباش وفؤوس وسكاكين ومدي. وطواري ومجارف ونجامات وملودات وجرايات والسلوكة..و الكجامة لإصطياد الحيوانات او لقلع سيقان القطن و الشجيرات...وفي امدرمان كانت تصنع الاثاثات المنزلية والقدور الكبيرة والسحارات وهي الصندوق المزركش للزواج...وعناقريب الساج الكبيرة التي هي فراش الزوجية..والبنابر والصاج و الدوكة والمرحاكة و الفندق والجبنات. والمصنوعات الجلدية و الملابس والشمال..و السروج بأنواعها للحصين والحمير والجمال..واشتهرت صناعة اجود انواع السياط من جلد فرس البحر, سيطان العنج التي تصدر لكل افريقيا. واشتهر بها الحلنقة. واظن ان اسم الحلنقة يعود لسوط العنج لالذي كانوا يحملونه...كما اثرت امدرمان على الزوق في السودان وخارج السودان فالثوب الذي يظهر في امدرمان و تجده في انجمينا او دوالا في الكاميرون بنفس الاسم. واشتهر اهل امدرمان بصياغة الذهب. ونقلوا هذه الحرفة الى غرب افريقيا. وكان سوق الذهب في امدرمان اكبر سوق في المنطقة يقصده الاثيوبيون واهل غرب افريقيا. ويتعلمون منهم صياغة الذهب...
والاغاني التي تذيعها هنا امدرمان منذ الاربعينات تظهر في اثيوبيا و اريتريا و الصومال وتمتد حتى الى السنغال عن طريق الاسطوانات القديمة....ويحملها سائقي اللواري ويتغنون بها وهم في طريقم الى نيجيريا من امدرمان..وكان الناس في تشاد ونيجيرا في الثلاثينات يوقفون السواقين السودانيين ويطالبونهم بأن يغنوا لهم أخر الاغاني السودانية. و الحقيبة هي الاغنية الامدرمانية التي انتشرت وعمت كل السودان...و ان كان اصلها يرجع الى المديح..الذي كان ترجمة وامتداد للترانيم الكنسية قديما..و الآن عاد المديح الى اخذ اللحن الغنائي..
كما ذكرت قديما اننا نفتخر بأمدرمان ونحبها و لا نبدلها بشيء . لأنها البلد الوحيد الماعندو سيد ويكفي ان تأتي لأمدرمان و تتقبل قوانينها وتتبع ايقاعها, حتى تصير جزءا منها بدون ان تجد من يقول لك دي ما بلدك..
ولقد اثبتت الحفريات ان الموتى كانوا يدفنون جوسا في الشمال والجنوب كذلك..وللجنوبيين تأثير كبير في الحياة السودنية..وكان من اعرق الاسر امدرمان و الجديرة باإلاحترام و التبجيل, من اصول جنوبية. والحرف نون المخلوط بالجيم الذى يستعمله اهل امدرمان كثيرا هذا الحرف جنوبي..وكلمة (نجل) مثلا وتعي زول او انسان تستعمل في امدرمان ويقولون للزول للمفلس او العاري (جاي نجل). وقديما كان الشلك يمشون عراة ..او يقولون اعضيك (نجننققق) ونجنق تعني تمساح بلغة الدينكا او الشلك او النوير. وهذا فقط لتأكيد وجود كل القبائل السودانية في امدرمان..
وكل اهل السودان ممثلين في امدرمان. وليس هنالك سوداني وليس عنده حبيب او قريب في امدرمان.. فأكبر حي في امدرمان قديما هو العباسية. ويعود الى العباسية تقلي في جبال النوبة. وهنالك حي تقلي وهو الحي جنوب السينما الوطنية..وآل التقلاوي اسرة كبيرة ومعروفة في امدرمان..وفريق تاما يعود الى اهل تاما في جبال النوبة. وحي ابوكدوك يعود الى ابو كدوك البرتاوي. وحي ود نوباوي يعود الى المحارب ود نوباوي الذي قتل الجنرال غردون معارضا وصية المهدي بالإبقاء حياته.. ربما في لحظة حماس او تنفيذا لأوامر خفية كما اشاع فوزي باشا في كتابه...
وميدان الربيع يرجع الى المحارب الربيع من غرب السودان..وفي هذا الحي سكن يونس الدكيم القائد العسكري من التعايشة و زوج ام الخليفة التعايشي. الذي كان من المفروض ان يتزوج الملكة فكتوريا..وخور ابوعنجة ينسب الى حمدان ابوعنجة بطل سلاح النار و المحارب من المهدية وهو كذالك من غرب السودان..حي العمدة ينسب الى العمدة مقبول العوض وهؤلاء اهل امدرمان الاصليين..فأهل امدرمان الاصليين هم الجموعية و الجميعاب. وهؤلاء قد تنازلوا لنا عن امدرمان بكل كرم...وكانوا يتواجدون في امبدة و الفتيحاب وحي العرب.
وامبدة وابو روف وود البصير ووداللدر ترجع الى زعماء وقواد. ومثلا فريق اسحف المحصور بين بيت المال وددرو يرجع الى مدينة اسحف في كردفان. وحي الامراء سكنه كثير من التعايشة..والحي الملاصق لحي العرب هو حي الحلب. والحلب هم الغجر او النور ويعرفون بسيقان في شرق اوروبا او تنكرش في انجلترا..ويتكلمون لغة تعرف ب روم. وتشابه اللغة الاردية. وهم قد فروا غربا من باكستان امام الغزو المغولي. و الذين اتوا الى السودان كانوا اسر غجرية اتت من حلب في سوريا..وكانوا يتكلمون بلهجة شامية بلمسة مصرية لأنهم اتوا عن طريق مصر لكنهم احتفظوا بالطابع الشامي..وكانت لهم قوانينهم و محاكمهم الخاصة وطريقة حياتهم..وكان لهم زعيمان هما ابوقلمان و ابو زعمان..و هذا الاسم غريب على المجتمع السوداني الا انه شامي..وكانت لهم زعيمة تقودهم وتحدد لهم الاماكن التي ينطلقون اليها للتسول..وكانت فتياتهم يرقصن على انغام الطبل والمزمار..والدربكة او الطبلة جديدة على السودان. فالنوبيون كانوا و لا زالوا يستعملون الطار الكبير للايقاع حتى في الاغاني الى اليوم.. و الدلوكة هي كلمة هندية ادخلها الهنود.
وكان رجال الحلب يتسولون عن طريق القرود التي يعلمونها الرقص و الحركات. وكان العجائز في امدرمان ينادونهم ب جعيدي بدل حلبي. والمثل للإنسان المفلس (جعيدي بلا قرد). وكان الحلب في امدرمان يبيضون حلل النحاس ويصلحون القدور المقدودة. ويربون و يبيعون الحمير..
و للاثيوبيين كذلك طريقة حياتهم الخاصة بهم و اثروا كذلك على المجتمع الامدرماني بأغانيهم وطعامهم وحتى مشروباتهم مثل الانشة و الكلوميت. هذه الاقليات قديما لم يكن في استطاعتها ان يجدوا موضع قدم في الخرطوم نسبة لأرتفاع اسعار الاراضي..والايادي العاملة و اسعار مواد البناء. وترفع وارتقراطية بعض اهل الخرطوم..وعدم المرونة في تقبل الآخرين..
ولكن امدرمان كانت اقرب الى القرية الكبيرة..يجد فيها اي غريب موضع قدم. وكثير من الاسر الخرطومية من اصول اجنبية بدأت حياتها في امدرمان. ثم انطلقوا الى الخرطوم عندما اصابوا بعض المال..مثل عائلة بيطار..و عائلة قصبجي مثلا , الذين كانوا يمتلكون مقهى البان جديد ثم امتلكوا فندق الشرق في شارع الجمهورية..
.اذكر ابن عمتي ابراهيم مجدوب مالك يلوم صديق عمره الارمني ليو, لأنه فسخ خطبته من شقيقة صديقه الارمني لأن اسرة اخرى قد اعطته مبلغ اكبر من المال..ولم يكن يشفع لليو قوله ان من عاداتهم مثل الهنود و اليونانيين ان تأتي المرأة بدوطه او بعض المال او المتاع لزوجها. وهذا طبعا مرفوض حشب شرع امدرمان ومن يقوم به يعتبر خارج الملة السودانية..و ابراهيم كان يقول لصديقه ليو ارمني شنو انت ما سوداني زينا.
مثلا المسالمة, هي من اكبر احياء امدرمان واكثرها كثافة وتوجد فيها اكبر كاتدرائية واهلنا لااقبط اكثر امدرمانية منا. و لا يبدلون المسالمة بأي مكان آخر وكما ذكرت في حكاوي امدرمان فإنني شاهدت سيدة قبطية في منزل خالتنا وحبيبتنا مدام اوجين الارمنية بعد ان انتقلت الى لندن..و السيدة القبطية تقول لإبنتها المضيفة يا بتي خليني ارجع معاك. و الابنة المضيفة تقول لها يا امي ارتاحي مع خالتي اوجين الاسبوع الجاي انا بجي اسوقك معاي. ارتاحي من التعب و الضيوف..في زول يخلي لندن الجميلة دي ويرجع امدرمان. و السيدة تقول... يا بتي امدرمان مافي زيها. نحنا هناك معروفين. ومافي زول زينا و امرنا بيهم كل الناس وانحنا يا بتي كان ما المطرة دي جات ودقت البيوت وشمينا ريحة الزبالة..ما بنرتاح...ما بنرتاح..و رجعت السيدة.
التحية ...
شوقي بدري ...
ع.س


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.