شئ من حتي رُفعت الأقلام ولم تجف الصحف د.صديق تاور كافي ٭ انتهت العملية الفنية المرتبطة بالانتخابات التكميلية في ولاية جنوب كردفان، دون أن يتغير شيء في المشهد السياسي المأزوم هناك. فالعملية من حيث هى لم تكن بأية حال ممارسة مدنية ديمقراطية في مناخ سلمي وطبيعي، بقدرما كانت نزاعاً وتنازعاً للسيطرة على المنطقة سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، وهذا ما يمكن ملاحظته من خلال حمى الحملة الانتخابية الخشنة، وتقاطع حركة قطبي الشراكة المركزيين في الولاية. وقد كانت النتيجة عزوف المواطنين وزهدهم في العملية، وايضاً إقصاء لكل القوى السياسية وحتى الشخصيات المستقلة عن مسرح المنافسة الذي انحصر بين الشريكين فقط. فمجموع الذين تحق لهم المشاركة في الانتخابات من مواطني الولاية يتجاوز المليون وربع المليون مواطن، سجل 65% منهم فقط في السجل الانتخابي، وشارك منهم 54%، واذا غضضنا الطرف عن أية تجاوزات مصاحبة للعملية، واذا اخضعنا الاصوات التي تحصل عليها الوالي فإنها لن تزيد عن 51% فقط ممن يستحقون المشاركة، وبالتالي لا يمكن لمثل هذه النسبة الضئيلة أن تمنح صاحبها حق الزعم بحصوله على رغبة المواطنين واختيارهم له. ونفس الشيء ينطبق على المنافس الثاني لذات المنصب، فالفرق ضئيل بينهما. أما على صعيد الدوائر الجغرافية الخاصة بالمجلس التشريعي، فإنها قد اخذت بعداً ديمغرافيا ينطوي على مدلولات خطيرة سياسياً وأمنياً، فضلاً عن دحضها للعملية الانتخابية برمتها كعملية منافسة شريفة قائمة على البرامج والافكار والشفافية. فقد توزعت الخارطة على مناطق النفوذ القبلي- العنصري والعسكري لكل من الحركة الشعبية والمؤتمر الوطني، حتى على نطاق الدائرة الواحدة. فجغرافياً أصوات ممثلي المؤتمر الوطني قد تركزت في أوساط قبائل البقارة من حوازمة أو مسيرية في شرق الولاية وشمالها وغربها، أما جغرافيا فأصوات الحركة الشعبية انحصرت في مناطق سيطرتها العسكرية على خلفية ما عُرف بالمناطق المحررة. والمفارقة الوحيدة هى العزوف شبه التام لمواطن القطاع الغربي عن المشاركة في الانتخابات، والتي كانت تُحسب لصالح المؤتمر الوطني وفق تقديرات العديد من المتابعين للاصوات. ودلالة هذه المفارقة هى حالة العزلة الكبيرة التي يعيشها حزب المؤتمر الوطني وسط مواطني جنوب كردفان عموماً، لأنه ظل لفترات طويلة يوهم نفسه والآخرين بأن منطقة غرب كردفان هى رصيده ومعينه الذي لا ينضب. ودلالتها الأهم هي أن الجماهير مهما قيل عن تفشي الأمية وشراء الذمم وتخريب النفوس، إلا أنها تعرف مصلحتها جيداً ولا تنخدع فيها. فعلى الرغم من خطاب الرئيس في هذه المنطقة ومعه نافع ومعه هارون والحديث عن شمالية أبيي وعدم التفريط في حق المسيرية فيها، وعن إعادة ولاية غرب كردفان، والحديث القائم على الإثارة ذات الدلالات العنصرية (جبل جبل) وما إلى ذلك، كل ذلك قابله المواطنون في القطاع الغربي بالابتعاد أكثر عن المؤتمر الوطني، على عكس ما توقع كثيرون. لقد عبرت العملية الانتخابية مرحلة السجل الانتخابي بصعوبة، وأيضاً عملية الحملة الانتخابية، ثم الاقتراع. وبالتالي فهى من الناحية الاجرائية تعتبر أقل أخطاءً وأكثر سلامة من انتخابات أبريل 2010م بكثير، وأفضل منها من حيث الشكل فقط. وعلى الرغم من ذلك فقد وجدت النتيجة رفضاً من طرف الحركة الشعبية التي طعنت في العملية كلها، ولكن في مرحلة متأخرة جداً، هي مرحلة رصد النتائج ومطابقة الأرقام بعد إعلانها في المراكز. وهو أمر أشبه بالطعن في نزاهة التحكيم بعد صافرة النهاية بعد الموافقة كل شيء في البداية. ومن الوارد أن تكون الحيثيات التي استندت إليها الحركة الشعبية صحيحة كوقائع، ولكن العملية الانتخابية تحكمها قوانين واجراءات ذات طبيعة فنية بحتة يمكن ان يستفيد منها الخصم إذا لم تتابع بدقة عالية، اضافة الى أن الحركة الشعبية نفسها ليست مبرأة من كثير مما ترمي به غريمها المؤتمر الوطني من ممارسات مخالفة ومن تجاوزات وفساد انتخابي. لذلك فعدم الاعتراف بالنتيجة جاء من الحركة الشعبية فقط دون سائر الأطراف، وجاء في غير سياقه الصحيح، لينطرح عليها السؤال التالي ماذا ترى الحركة الشعبية في نتيجة الدوائر الجغرافية والقوائم التي فاز فيها منسوبوها؟ هل تقبل بها أم ترفضها على أساس عدم نزاهة الانتخابات وعدم حيادية المفوضية؟ والأمر الثاني هو أن الحركة الشعبية قد قبلت بنتيجة انتخابات أبريل 0102م على مستوى رئاسة الجمهورية والدوائر الجغرافية المركزية، واعتبرتها مضروبة ولكنها عللت قبولها بأنها سوف تقبلها من باب القبول بالأمر الواقع. فاذا كان القبول بما هو أكثر تشويها وقبحاً من باب الأمر الواقع وفي كل السودان، فما الحكمة من عدم القبول بالأمر الواقع في حالة جزئية مثل حالة الانتخابات التكميلية في جنوب كردفان. وواضح أن الرفض هو من باب الضغط على الشريك اللدود بحثاً عن تقوية الموقف في مفاوضات المحاصصة الجديدة، وليس التهديد برفض النتيجة وعدم المشاركة على كافة المستويات في أية تشكيلة قادمة في الولاية، وإنما أيضاً هناك ردود أفعال كثيرة تفيد بأن الضغوط تأخذ أبعاداً ذات علاقة بتهديد استقرار الولاية، مثل ما نسب إلى أحد قيادات الحركة بعدم ضمان سلامة منسوبي المؤتمر الوطني بمن فيهم الوالي. هذه كلها يمكن أن تؤخذ من باب الضغوط السياسية فقط، ولكن من جهة ثانية يمكن ملاحظة احداث غالبا ما تحركها أيادٍ خفية ربما لا تكون جزءاً صميمياً من الحركة الشعبية، وتريد بهذه الأحداث جرَّ المنطقة إلى منزلقات الفتنة والاحتراب والفوضى. وأهم هذه الأحداث هو اختطاف ثمانية من منسوبي المؤتمر الوطني من قبيلة الرواوقة واخذهم بسيارة «لاندكروزر» الى ارياف المدينة لثلاثة ايام، وقد حرَّك هذا الحادث المشبوه الاتهام ضد الحركة، ولكن الأخيرة هي من قامت بإرجاع هؤلاء والتحفظ على منفذي الحادث. والحادث الثاني هو الحريق الذي طال مسجد مدينة كادقلي الكبير قبيل فجر يوم أمس وهو فعل غريب تماماً على المجتمع هناك، ولا ينطوي إلا على الفتنة. ويمكن الربط بين محركي حادث الاختطاف وحادث حرق الجامع الكبير، باعتبار أنهما ينطلقان من مخطط أكبر من المنطقة ومواطنيها، فالمقصود هو فتنة بأي شكل قبلية عنصرية أو دينية تشعل المنطقة. وبما أن الخطاب المعلن لرئيس الحركة في الولاية ظل باستمرار يؤكد على السلام والاستقرار، وبما أنه ظل يلعب دوراً في نزع الفتيل كما هو الحال في حادثة مقتل أحد المواطنين في الدلنج يوم الاثنين الماضي، وحادثة اختطاف أبناء الرواوقة، فإنه يقع عليه العبء الأكبر في كشف وملاحقة الأطراف التي تسعى لإثارة الفتنة الدينية أو القبلية العنصرية، لأنها تريد أن تضع الحركة في هذا لمأزق، وبالتالي عليه أن يقدم خطاباً علنياً لمنسوبي الحركة ولأبناء الولاية عموماً يتبرأ فيه ويبرئ الحركة الشعبية من أية علاقة بهذا النوع من الأفعال. ويبقى على الحكومة أن تفعِّل القانون ومؤسساته، بدلاً من المعالجات التي تحافظ على حالة الاحتقان في المجتمع. الصحافة