هناك فرق. إنَّما نحن جوقة العميان ..! منى أبو زيد هكذا خاطب نزار قباني عميد الأدب العربي طه حسين، أصالة عن نفسه، ونيابة عن كل مبصر على وجه هذه البسيطة، لا يملك عشر بصيرة فاقد البصر .. عندنا في السودان لا يوجد قانون يحمي حقوق المكفوفين الأدبية والمادية في المؤسسات المهنية والأكاديمية، فقط بضع سطور معممة في الدستور، بلا نصوص مفصلة للحقوق والواجبات .. مثال حيّ من محيطي القريب، لي زميلا دراسة شقيقان، تقدما لدراسة القانون بجامعة الخرطوم، وتعرضا لأقسى أنواع التصنيف والإقصاء، بسبب إعاقتهما البصرية، أكبرهما تم توزيعه بذات الكلية في منتصف التسعينيات، وعندما جلس لامتحان المعاينة الشخصية أخبره الأستاذ المسؤول بقرار عدم قبوله بسبب إعاقته، وعندما تظلم لعميد الكلية عاجله برأيه القاطع عن صعوبة أن يكون له مستقبل في مهنة القانون، إذ كيف لأعمى أن يصبح أحد منسوبي الجهاز القضائي أو حتى النائب العام ..؟! وأذكر أن زميلي هذا قد عاجل عميد الكلية يومها بأن مستقبله المهني ليس من شأنه، ناهيك عن ضربه عدة أمثلة لقضاة ومشرعين مكفوفين، لهم إسهاماتهم الثرة في وضع نصوص القانون الإنجليزي الذي يستند عليه القانون السوداني، وقد كان، فنجح الرجل في اجتياز جميع ابتلاءات وامتحانات مهنة القانون، وهو اليوم محام شاطر يشار إليه ببنان الفخر، يحمل جهاز لاب توب به برنامج (جوس) الناطق ويكتب مذكراته القانونية بنفسه، بل يتفوق على الكثيرين من أقرانه وزملاء مهنته المبصرين ..! أما شقيقه فقد تعرض - في ذات الكلية - لذات المشكلة، كان الرجل ترتيبه الثالث على المساق الأدبي في السودان، وتعرض لذات الرفض ولم يتم قبوله إلا بعد (ملاواة) استمرت عدة أشهر، هذا الزميل اليوم يحمل درجة البكالوريوس في طب الوخز بالإبر من إحدى الجامعات اليابانية، وشهادة بكالوريوس في العلاقات الدولية، ويستعد لنيل درجة الدكتوراة في شأن السلام وفض النزاعات من أعرق الجامعات الإنجليزية ..! ذات الأخوين لهما شقيق ثالث يحمل نفس الإعاقة تخرج في كلية الاقتصاد من جامعة الخرطوم ويعمل الآن بجد لنيل درجة الماجستير في الدراسات الإنمائية، جامعة الخرطوم نفسها بها ثلاث محاضرين ومساعدين تدريس من المكفوفين، ولسنوات عديدة كان أحد العشرة الأوائل على جمهورية السودان من المكفوفين ..! وقد حكى لي ذات الزميل أنه كان يتلقى كورس علوم حاسوب في مانشيستر عندما قابل بريطانياً مكفوفاً كان يدرس لنيل شهادة أوروبية شهيرة في مجال الحاسوب، ليس ذلك فقط، الرجل المكفوف كان أيضاً مصاباً بالصمم وعمره يناهز السبعين عاماً، لكنه يدرس لزيادة خبرته ومن ثم توسيع فرصة حصوله على عمل ..! سرد الأمثلة يكرس لتنميط المفهوم المتخلف السائد عن محدودية مقدرات المكفوفين، ولكن الذكرى تنفع المؤمنين، ديفيد بلانكيت وزير الداخلية العمالي الأسبق في حكومة طوني بلير كان أعمى، اللورد كروس أهم المشرعين لقانون الإثبات في العالم كان أعمى، أعظم مقرئي القرآن الكريم مكفوفين، وفي مصر - القريبة هذه - وفي عهد غير قريب كان طه حسين وزيراً للمعارف، ويكفي أن سيد الخلق الذي لا ينطق عن الهوى قد عوتب من فوق سبع سماوات في الحق الأدبي لرجل أعمى عبس في وجهه وتولى ..! التيار