أمّة السودان التي وُلدت ..2.. عبد الجبار محمود دوسه [email protected] في الحلقة الأولى من هذه السلسلة التي أشرنا فيها إلى ميلاد السودان كأمة، وبعد أن طفنا مع القراء منقّبين ببصيرة غير مُنقّبة لعلنا نستهدي ببعضٍ من الإسترشاد حول السؤال الذي طرحناه قائلين ثم ماذا بعد ولادة السودان، كما بسطنا أمنيتنا وجعلناها حصرية في الدولة التي نرتضي عوضاً عن الدولة التي ينبغي وإلى قدر معتبر نُدرك بأن الأزمة في الإنسان السوداني، وأن مكمن الداء هو كيفية إستخدامنا لعقولنا كسودانيين وحجم ما ننتجه من قيم ونظم نتوهم بأنها هي موجّهة لمعالجة تحديات وطننا ولكن سرعان ما تكشف لنا الأيام بأنها إنما صممناها لتعالج وتُحقق لنا رغباتنا الذاتية خصماً على حساب الوطن ولكن ليس بمعيار ما ينبغي أن نستحق وإنما بمعيار ما نتمكن من إختزانه تحت سطوة ما نسخّر من سلطات فُوِّضت لنا أو استحوذنا عليها في غفلة من الآخر أو بقهر له، أو من خلال مجاملات وعلاقات إجتماعية أسأنا توجيهها أومكايدات نصبناها. نواصل إستشرافنا لطرح المزيد من بؤر الحيرة، وهي بؤر ما زالت فطيرة في فكرنا وضبابية في رؤيتنا لكنها تنجلي رويداً رويداً كلما اقتربنا من فك طلاسمها بالمزيد من الإنكفاء الهادف في مختبرات عقولنا بشكل جمعي ومتجرّد، واستطعنا أن ننثر المعادلات على بساط البحث الفكري بيننا دون وجل و توجّس فنلتقط منها الأشواق ونعزل عنها الأشواك فلا تشوب البذرة الفكرية التي ننتقيها شوائب تنبت فيما بعد ضمن ما نستزرع جذوعاً لها أعواد في شكل دوحة بلا ظلال ولا صفق ولا ثمار، كلما فعلنا ذلك، كلما كنا قاب قوسين أو أدنى من أن نبتديء خطوتنا ونضع أقدامنا على أرض ثابتة تعيننا على أن نعقد العروة الوثقى التي ننتشل بها بلادنا إلى بر الأمان في يوم نأمل أن يكون قريباً. إذا نادينا ما استدبر من أمر الأمم وبدأنا قراءة بعض الحقب بما اختزنت من قيم وأيدلوجيات وصياغات مجتمعية تركت تأثيرها على مسيرة الإنسانية، ووضعت أطراً سياسية ودولوية أصبحت منارات للإقتباس والإستنساخ خلال العصر، لجاز لنا أن نمثّل لذلك بحضور داخل قاعة فسيحة تم تقسيم المجالس فيها إلى مجالس متحدثين ومجالس معقبين وآخرين مداخلين ثم مدونين وكذلك مستمعين وفي ركن قصي متلقين وفي أقصى القاعة متفرجين. وإذا حاولنا أن نتحسس المقعد الذي كنا نجلس عليه كأمة، لوجدنا أننا ربما كنا ضمن مقاعد المتفرجين، وهي بالطبع أدنى درجات التواجد في مثل تلك التظاهرة كما هي أبعدها، بل أن أكثر المعايير التي ترسّخ استنتاجنا ينعكس من خلال ما ظللنا نطبّقه من تخبط في تصميم دولتنا عبر الحقب، ذلك أننا كنا نتأرجح من أيدلوجية إلى أخرى، ثم ننفصم تارة بين دكتاتورية وأخرى ونتخبط داخل حقب ديموقراطية لم تجد حظّها من النضوج وننغلق بين شموليات ليست سوى تأسين للحريات والفكر، ومثل هذه الحالة لا تقبل إلا تشخيصاً واحداً وهو أننا كنا في مقاعد المتفرجين، ذلك أن الذي يلي الفرجة هو التلقين، ولعل الذي يتم تلقينه ينحصر عقله في استيعاب نموذج بعينه، وهو ما لم يكن مفسّراً لحالة العشوائية التي ظللنا عليها. نحن في الواقع كنا حالة من استذكار ما كنا نتفرجه ببصرنا وليس ما كنا نسمعه أو نستعويه ببصيرتنا، وما أبأس مَنْ تستعبده مثل تلك الحالة وتأسره داخل وكرها وقد فعلت بأمّتنا. لقد مضت حقبة الخمسينات وحتى نهاية الثمانينيات من القرن الماضي حيث تصادمت الأيدلوجية الرأسمالية الليبرالية مع الشيوعية على معترك بساطه أمم وشعوب لم تستدرك أن تتجاوز الإنعتاق من ذلك البساط إلا قليل ولسنا من بين القلّة. وإذا جاز لي أن أختزل الفكرتين في بضعة كلمات وهو أمر كما أعلم وتعلمون من المستحيل ولست من الضالعين في أروقته، إلا أنني أسعى إلى تبسيط ما آمل أن يكون معيناً لي في طرح بؤر الحوار التي نسعى إلى خلخلتها أملاً في الخروج منها بما هو أدعى للإسترشاد به نحو الغد الذي نتوق. فالشيوعية بتفسيري المبتسر والمتواضع ومع الأخذ في الإعتبار الإحتفاظ بكل العوامل الأخرى والبحوث المتخصصة، أستطيع أن أقول أنها أيدلوجية ضخ الجهد الجماعي للمجتمع في وعاء واحد ثم إعطاء كل فرد منه بقدر متساوي، ولعله هنا كان مكمن الحلقة الضعيفة فيها لأنها استغفلت فطرة الرغبة الجامحة للفرد في الملكية قياساً بالجهد الفردي المبذول الذي هو الآخر متفاوت فألغتها بدلاً من تحجيمها، ونتاج ذلك هو بداية تآكل وتضاؤل الجهد الفردي في متوالية إنحدار صامتة لكنها مؤثّرة قادت إلى إنهيار قدرة الأيدلوجية على البقاء كطرف فاعل ومنافس بقوة في الساحة الإستقطابية، وما دور الأفراد القائمين على حقبة ذلك الإنهيار سوى ما جنوه من تَقارُن إعتلائهم مراقي القرار مع الزمان، وما كان لكائن غيرهم غير أن يبلغ التمام نفسه حيث استوت العوامل. أما الرأسمالية الليبرالية وأيضاً مع إدراكي بعمق مضمونها الفكري وطغيانها المادي، أجد أنها عبارة عن إستثارة دائمة للجهد الفردي المتنامي واستحلاب خلاصته في وعاء واحد يمنح الجهد الفردي المتضائل ما يعينه على دعم جهود الإستثارة الدائمة للجهد الفردي المتنامي، وهو نظام يكمن ضعفه في حد الإجهاد الذي يمكن أن يصيب يوماً الجهد الفردي المتنامي من فرط إستحلابه، لأن الإستحلاب يُضعف النواة الباعثة للجهد الفردي فيؤدّي إلى إنهياره، وما نوبات الضمور الفجائية التي أصابت الرأسمالية في مراحل متفاوتة من مسيرتها سوى مؤشّرات ناتحة لآهات سبقت مصيرها في نسختها التي مضت ولكن تم استبدالها بمستنسخ حمل كثيراً من ملامحها مع تغيّر جذري في مضمونها، لكن ثمة حقيقة تستوجب الإشارة إليها وهي أن النسخة الجديدة غير محصّنة بحقوق ملكية فكرية وليس لها علامة تجارية دائمة، فهي مشاعة في مسرح تنافس مفتوح لكل من يتمكن من الأمم إمتلاك ناصيتها بقدر ما تننتج من إبداع مادي متّسق مع حاجات البشرية المتسارعة والمتنوعة باضطراد، وهو إمتلاك لا تتوفر له صفة الديمومة، إذ تحكم معاييره عوامل متغيّرة حيث لا وجود لأي عوامل ثابتة. لا ينبغي أن يؤخذ هذا الإختزال بأنه مبلغ التفسير للأيدلوجيتين، ذلك أننا جميعاً ندرك عمق الفكر الذي انطلقت منه كل أيدلوجية وبأننا لم نبلغ من فهم كل ذلك إلا بقدر ما قلنا بأننا كنا منهما في مقاعد المتفرجين. لكن فاليكن ما ذهبتُ إليه من إختزال هو محاولة تقمّص ما كان يمكن أن يكون عليه الجالسون في مقاعد المستمعين، بيد أنه وطوال حقبة التسعينيات والألفية بدأت تلك الأمم في التحلل من أسْر نُسَخِها الأيدلوجية السابقة بعد غربلتها وإدراك مقتضيات القرن الحادي والعشرين الذي دخل على العالم وفرض أرضية مغايرة لكنها واضحة ينبغي على كل أمّة أرادت أن تأخذ متكأً فيه أن تستلهم إبداعاتها وفقاً له وأن تنهل من بئره بقدرما تتّسع دلاؤها. إذاً نحن اليوم في مرحلة أخرى من عراك أيدلوجية القرن مع نفسها، وإذ هي كذلك تقذف بملفوظات منظومية وفكرية تتلقفها الأمم وهي تّدرك بأنها خامدة ومتسامدة وجاهزة للإستزراع تماماً كما تكون عليه الحمم البركانية بعد خمودها وتحولها إلى تربة خصبة لتفلحها وفق ما يتوافق مع هوى أمّتها، ولعله من الحيرة أن نقول كيف يمكن لمفرد لم نتمكن نحن بعد من أن نتحسس ملامحه أن يتعارك مع نفسه. لكي نعزز حصيدنا من استيعاب أبعاد ذلك العراك يستوجب علينا أن نجيد قراءة الإبداع الذي أنتجته الألفية من مخزون الفكر المادي وحجم ما استلهمته كل أمّة منها وطوّعته وأطّرته في سياقٍ يناسب شعبها بشكل قادر على تفجير طاقاته واستغلال إمكاناته. نحن إذاً نتحدث عن ذلك النظام المادي الذي أصبح الوريث لمكنوزات الأيدلوجيات المتقاعدة والمنحسرة والفانية والذي بدأ يفرض هيمنة ساحقة على ساحة التفاعل المادي في عالم مغاير ومتغّير بتسارع، الأمر الذي ينتج بإضطراد حالة من التسابق نحو شِباك محكمة النسج تستخدمها الأمم جميعها للتصيد في بحر إقتصادي يعجّ بصيد مادي وفير، وبقدرما تُتقن كل أمّة من النهل من تلك الشِباك، بقدرما تمكّنت من حبس الصيد بكل أطيافه وأحجامه بداخلها. نحن ما زلنا نؤثر إستخدام الصِنارة أو قل إن شئت (السنّارة) لذلك ليس من بلاغ ينبغي أن نتحيّن سماعه عن حجم صيد يفاجئنا قدره، وهو على أي حال يوازي قدر ما نبثّه من إبداع في إستنباط وسائلنا المستخدمة للصيد في ساحة قصيّة اخترناها لنتعارك فيها مع أنفسنا بعيداً عن بقية الأمم، ولعمري لهي حالة هذيان فكري متقدّم أصابت أمّتنا ما فتئت تستغيث فينا ما بقيت من نخوة لانتشالها منها. ونتواصل في الحلقة...3... عبد الجبار محمود دوسه 22/6/2011