.. محمد عبد الله برقاوي.. [email protected] والخرطوم التي كانت تتدثر بفخار ثوريتها وتزين شوارعها النظيفة في تلك الأيام الزاهية وقد اضاءتها أنوار الفرح وزهور العيد الأول سنة 1965 لثورة أكتوبر العظمى ..فيما توافدت عليها البعثات من كل الضروب والدروب وأمتلأت ساحاتها الخضراء بالوان البشر والزهور والفرق الفنية .. فزحفنا مع الألوف اليها من الأقليم .. وكنت مع رفاقي ونحن في السنة الأولى الوسطى.. تتشكل في دواخلنا بذرة العزة بسودان جديد و تتقد في عقولنا اشعة الوعى المبكر بمعنى كلمة الوطن..جلسنا في الصفوف الخلفية للمسرح القومي حيث ضاقت مساحات شارع النيل بالذين لم يجدوا مؤطيء قدم فيه ..فيما اختلطت أنفاس الذين سعدوا بمجرد الصعود على اعمدة الكهرباء و أفرع الأشجار واسطح البنايات المجاورة ..مع عبق النشيد الثوري الصادح بالغد الأتي.. غنى وردى فأبكي الناس .. وشدا محمد الأمين بصوته الأكتوبري فكادت القلوب أن تقفز خارج الصدور زهوا بامجادنا..، وفجأة وقف شاب نحيل على خشبة المسرح يحتضن العود أمام الفرقة الكبيرة .. وظن البعض لضآلة جسده أن العود هو الذي يحتضنه..! لم يصدق الناس أن ذلك الصوت القوي ينطلق من حنجرة هذا العصفور الشفيف ..! وران الصمت في ردهات المسرح حتي حفيف الشجر ارخي السمع..وانطلق الفتي ينشد كالمدفع.. وينثر طلقات محي الدين فارس.. مرحبا أكتوبر الأخضر مرحا.. قد ترقبناك أعواما عجافا نحن لقيناك وجرحا.. مثلما يلتمس الغرقى الضفافا. ياأخي من هاهنا نحن بدأنا وتحدينا الطغاة الغاصبينا لست منا ان تكن تمشي الهوينا فظلام الليل يطوي الخائفينا.. وأنفجرت ارجاء المسرح بلهب الهتاف مثلما تطاير من الأكف الشرار..ووقف الناس لذلك العنليب الصغير .. الذي حجز من يومها لنفسه سحابة للتحليق لم تنحدر من علوها عن فضاءات الطرب الأصيل.. وثبتت أقدامه على خشبة المسرح التاريخي عملاقا مع الكبار.. وتربع في قلوب كل الذين أحبوا فنه .. ولن يخونوا ذكراه..ما صدح مذياع بنغمه الآسر .. وما لاحت صورة قامته الفارعة على شاشات الزمن في الخيال دائمة والعيون الدامعة لفراق بسمته التي تسبق صفاء دواخله البارة بأم لم يطق فراقها عنه كثيرا .. حين ودعها.. بدمعة الحزن التي سالت فوق ذراعه .. وهو يبثها.. أشعارالوداع.. وتهمس في أذنه بايات العفو..وقد عاشت له أما وحبيبة وابنة.. وهي تنشد.. قف تأمل مغرب العمر .. واخفاق الشعاع.. وها نحن اليوم نبكي ..جبار الليالي الذي هده طول الصراع.. في غيابها وقد هزمه احتمال فراقها.. فهرول اليها بجسد ضئيل كالاهة وصوت ترك اصداؤه في كل المسامع .. وهو يناجي أمه .. في بعدك ياغالي أضناني الألم .. ليلتقيلها باذن الغفور التواب في قصر الشوق السرمدي عنده المليك المقتدر..وهو الرحيم الرحمن يا زيدان .. وفي جرح غيابك أنه لنا المستعان.. حتى نلقاك .. متى ما آن الآوان.. والله من وراء القصد..