تقف حناجرنا على كعوبها العالية تشابي بالصوت أن يكون جهورا يصل ببصمته الخاصة التي تميزنا تماما عن كل شخص آخر، للست المعلمة؛ برائحتها العطرة ولون ثوبها الأبيض نموذج الملائكة في ذاكرتنا الطفلة، نعلن لها عقب ابتسامتها عبر تحيتها (صباح الخير)، بنشيدنا المميز (صباح النور انتي الوردة وانحنا الزهور، يا صباح النور) ونجلس ما تزال حلوقنا مشدودة وكذا أسماعنا لجديد الدرس، يارب ألا يكون اختباراً ! لكنه اختبار يومي لمدى نشاطنا الصباحي وحبنا للمعلمة بالذات - حيث أننا أحيانا نتثاقل بالصوت لمن تبرع في أخذ حقها ناشفاً بسوطها! - وبلا شك اختبار لخاصية كرمنا بأن نتنازل عن حقنا بأن نكون نحن الوردة وهي الزهور، فقد عرفنا لاحقا لما نقصت حلوقنا وجفت مياه العطور وشحبت ألوان الثياب والتعليم، أن الورود هي صاحبة العطر واللون، أما الزهور فهي لا تحمل عطرا وتكتفي بخدعة جمال اللون للنظر! - انظروا كيف كانت الإشارات البسيطة بليغة وبالغة الثناء للمعلم - والزهور والورد المشتولة على جوانب الطرق المؤدية إلى البيوت والعمل والمدارس والمشاتل تبين لك لوهلة أننا نحفل به وبرومانسيته وهدوئه الناعم وعطره اللذيذ وخواصه التي تبدأ بالمنظر وتنتهي بالأكل كما اكتشفها اليابنيون! وتجعلك تعتقد جازماً أنها في صميم الثقافة الاجتماعية بالإهداءات أوان الفرح وأعياد الميلاد والحب والزواج أو حتى الشفاء من المرض. ووجودها الكثيف في الأغنيات والإشارات الرمزية للحبيبة بها وبرقتها وشذاها وما إلى كل تلك الغواية البريئة (الزهور والورد الشتلوها جوة قلبي عشان حبيبي تذكارو ديمة عندي للراحل عوض الكريم القرشي).. (أديتو وردة بيضا أداني وردة زادت عليّ الريدة عشرة قلوبنا ما بتنتهي ياصيدة ولو افترقنا في الجنة تاني نعيدها أغنية بنات مجهولة الشاعر).. (صباح النور عليك يا زهور صباحك يوم يقاس بدهور من الحقيبة ).. يجعلك تجزم أننا نستيقظ على ورود القرنفل وننام على ورد الفل مسائي الفوح والشذى! وأن كل بيت سوداني مسقوف بالنحل من كثر الورود والزهور بساحاته وحيشانه. أما حقائق الإيمان بزراعة الورود والزهور فإننا لا نعترف بها كضرورة تشجيرية أو بيئية تحسن من منظر المنزل أو الشارع أو حتى تصبح ملهماً داخلياً لانصلاح حال المشاعر برؤيتها ومشاهدتها الغالية على النفس والروح. لذلك نسعى بشكل هستيري إلى زراعة النيم كشجرة تغطي بظلها وهوائها البارد كما الأمهات تكبر بمهابة عجيبة وإصرار عنيد مهما بلغت ظروف الجو من صعوبة وإهمال بالسقاية والرعاية، وهو ما أهلها لتكون شجرة سودانية رغم أصولها الهندية! بجانب نبتة (صباح الخير) وهي تحمل زهرة تتنوع ألوانها بين الأحمر الغامق والأبيض الناصع والأبيض المصفر، وهي سبحان ربها تنبت في أي مكان وتحت أي زير، فما عليك إلا أن تقطع طرفاً منها و( تغزّه) في تربة سطحية وتنتظر صباح خيره. أما خير الأشجار فهي (الفايكس) التي تمكنك من تشكيلها كما تريد وتمنحك اللون الأخضر الغامق، خادع الناظرين بأن زارعها يهتم بها تمام الاهتمام. وحيث أن اللبخ كشجرة كبيرة ومتمددة تجرح جذورها كل نبتة تقترب منها بأمتار حتى أنها لا تجد الاستلطاف الزراعي العادي فتقبع قرب النيل مهددة بقرار جمهوري بالقطع لذلكم التمدد! والنبتات مفقودة التسميات التي تتلون زهورها معدومة الرائحة بين البنفسجي والوردي والأحمر والأصفر والخ، والتي جاءت بها ولاية الخرطوم ذات نهار لتحسين منظر الجمال المديني والمدني فيها، ورشت المياه عليها مندلقة حتى الزلط القريب، عكف المواطنون المحرومون من الزهور المنزلية والعاشقون الممنوعون من المباح في العشق والورد الرومانسي، على قطفها تباعا مثنى ورباع لتشكيل باقة ورد تهدى للحبيبة القريبة من الوردة المقطوفة! أو سلة نبت تزرع في حديقة خارجية لشارع ممتلئ بالنفايات والأطفال الذين لم ينشدوا صباح الوردة والزهور. وظهر بعد حين التمدد الشتلي في الخرطوم بكثرة المشاتل التي تصدقها المحليات على جوانب المنتزهات والميادين بلا هوادة، فنشاهد شتلات شجر ظل وزينة وورود وزهور جميلة تحيط بها (زرائب) قبيحة من كل الأخشاب والحصائر وطبعاً الطفيليات وطحالب المياه الراكدة من سقاية الورود والزهور؛ والمشترون يبحثون عن ذات النباتات رخيصة السعر المقاومة للعطش وحرارة الجو وبالضرورة للقطع الجائر! أما البائعون فإنهم بح صوتهم من توصيل أسماء ونبتات أخر غير التي يألفها الناس في بيوت الجيران ويأتون باحثين عنها بذاتها، وخفتت ألوانهم وروائحهم من جراء الضريبة المتوقفة على مكان وجود المشتل كموقع استثماري على (الزلط)، وجفت منابعهم من توصيل حقيقة أن الزهور والورود ليست بكامل الجمال الذي نتوقعه منها، ففيها السام ومنها المسبب للحساسية الجلدية والتنفسية ومنها الضار ببعض الشتلات الأخرى! لكن مع ذلك تستمر جذوة الأمل الوردي في نفوسنا مشتعلة بطفولتها التي تتوقع صباح كل يوم أن يغافلها صوت بأنها الوردة والبقية زهور عديمة اللون والطعم والرائحة ! وما زالت قلوبنا تشابي بعنقها خلف الظهور المخبئة لهدية هي باقة من ورد.. يارب الا تكون خناجر!.