الثورات وتوطين الفشل!! دكتور هاشم حسين بابكر [email protected] الثورات التي تطالب برفع مستوى المعيشة في أمريكا وأوربا مع إبقاء الأنظمة الحاكمة في دول الغرب تجعل أسئلة كثيرة تقفز إلى الذهن.. من أهم هذه الأسئلة أين تلك الموارد التي تحقق الرفاهية للمواطنين في أمريكا وأروبا؟! تحقيق الرفاهية للمواطن في الغرب سيكون على حساب المواطن في الشرق وفي إفريقيا حيث الموارد التي يطلبها الغرب لإسكات مواطنيه.. ما كانت أمريكا لتخسر أكثر من تريليون دولار في العراق وحدها لولا أن العراق يحوي من الموارد الطبيعية ما يعوض هذه الخسارة أضعافاً مضاعفة.. تخرج أمريكا من العراق آخر هذا العام كما هو معلَن حيث يتم سحب قواتها من ذلك البلد والجيش العراقي لم يتم تأهيله أو تدريبه وتسليحه بعد، وهذا الأمر مقصود من قِبل أمريكا فالمليشيات الطائفية ستكون لها الكلمة الأمر الذي يخلق عدم الاستقرار في البلد المنهار.. تنسحب الجيوش الأمريكية ولكن يبقى ستة آلاف أمريكي ما بين دبلوماسيين وجواسيس وحراس أمنيين من بلاك ووتر وغيرها يتمتعون بالحصانة. ولا ترغب أمريكا في جيش عراقي قوي فالجيش القوي في العراق أو غيرها من الدول العربية يمثل خطراً على مصالح أمريكا الداخلية في العراق إذا استولى على مقاليد السلطة وكذلك يمثل خطراً على إسرائيل!! الثورات العربية، أو كما يحلو لأمريكا تسميتها بالربيع العربي، تمثل لأمريكا والغرب فرصة ذهبية، فالاقتصاد المصري والتونسي وخاصة الليبي، في حالة أقرب إلى الانهيار منها إلى نظرية اقتصادية متفائلة، وإذا أخذنا ليبيا كمثال نجد أن تكاليف حربها مع القذافي قد بلغت ما يزيد على نصف تريليون دولار، هذا بالإضافة إلى الدمار الذي حدث بالبنيات الأساسية الهشّة أصلاً، إضافة إلى إنتاج من النفط انخفض إلى أكثر من سبعين في المائة من الإنتاج اليومي، حيث بلغ الإنتاج اليومي نصف مليون برميل، وكان قبل السابع عشر من فبراير الماضي مليون وثمانمائة ألف برميل.. وقد بدأ تقسيم هذا المورد بين الشركات الأوربية والأمريكية والتي ساعدت في التخلص من نظام القذافي، وسيفوز الغرب بما سرق القذافي وعائلته من أموال يضاف عليها الموارد التي ستدفعها ليبيا لحلف الأطلسي ثمناً لتحريرها.. احتلال ليبيا اقتصادياً والسيطرة على مواردها الطبيعية يجعل من الصعوبة بمكان تكوين جيش قوي بها، جيش يستطيع السيطرة على الأمن، في بلد الكلمة العليا فيها للقبائل والعشائر والتي يمكن السيطرة عليها وتوجيهها في الاتجاه الذي يريده المحرِّرون وهذا لا يمكن إلا في غياب جيش قوي يحفظ أمن البلاد واستقرارها ووحدتها. ثم إن الأسلحة التي كانت موجودة في ليبيا يمكن تهريب معظمها أو كلها إلى جنوب الصحراء لتشاد والنيجير والسنغال وخاصة السودان الذي يزخر بالموارد الطبيعية وهو سياسياً في حالة اضطراب، تجعل من قادته فاقدين للقدرة حتى على تشكيل حكومة يقبل بها الشعب، ناهيك عن المسؤولية الكبرى وهي الحفاظ على ما تبقى من وحدة السودان. الحرب اليوم اتخذت طابعاً جديداً فهي حرب على الموارد، فالثمن الباهظ الذي دفعته أمريكا في أفغانستان والعراق، لن تستطيع الاستمرار في مواصلة دفعه لأن الشعب الأمريكي عانى من ذلك كثيراً، لذا على شعوب أخرى دفع الفاتورة نيابة عن الشعب الأمريكي وهذه الشعوب لو لاحظ القارئ الكريم أنها شعوب عربية وإسلامية!! والثورات العربية رغم أهميتها بالنسبة للشعوب العربية، إلا أن ملاحظة هامة يجب أن يضعها المحلل في الحسبان وهي تتمثل في ضعف القيادات السياسية في العالم العربي والإسلامي، فالعقود التي عاشتها الدول العربية والإسلامية تحت الضغط والطغيان أفقدت المعارضة في كل العالم العربي والإسلامي القدرة على المواجهة وقيادة هذه الثورات، فالمعارضون إما احتواهم الغرب كلاجئين وقضاء زمن طويل في المهجر له تأثيره على المعارض، الذي عاش عدة عقود في مجتمع تقوده المادة، الأمر الذي يؤثر لا شك في قناعاته ومبادئه التي من أجلها غادر بلاده، وكثيرون ممن قضوا فترات طويلة في المهجر أخذوا في التفكير بعد عودتهم الى أوطانهم بطريقة التفكير الغربي وهم في بلاد الشرق.. ثم إن الإحساس العربي بالجميل تجاه الغرب الذي احتواه وحماه طوال هذه السنين يجعله وكأنه مدين لذلك الغرب، سياسياً ينادي بالحرية الغربية التي نعرفها بالديمقراطية والتي تتظاهر شعوب الغرب ضد نظامها الاقتصادي الذي أفقر تلك الشعوب، وهذا الإحساس يدفع المعارض حين يتسلم مقاليد الحكم لفتح الابواب للدولة التي احتوته خلال عهد الطغيان في بلده للتحكم في موارد بلده.. بعد حرب العراق حولت أمريكا إستراتيجيتها العسكرية، وفي ذات الوقت أخذت تبدل حلفاءها بالتخلي عنهم، فاتخذت سياسة مغايرة وهي مساندة الشعوب وفي جميع الثورات التي نعيشها الآن تتطلع الشعوب الثائرة إلى الموقف الأمريكي، حدث هذا في تونس ومصر ثم ليبيا وسوريا مع موقف بين بين في اليمن، ورأي أمريكا في ما يدورفي الشارع العربي يجد التقدير عند الشعوب العربية، فالضغط السياسي الأمريكي مع مصر لعب دوراً في تخلي مبارك وبن علي عن السلطة، كما أن الضغط العسكري على القذافي لعب دوراً أساسياً في إسقاط حكمه. أمريكا لم تتبين بعد من سيتولى السلطة في سوريا واليمن كذلك ستدع الفوضى الخلاقة في هذين البلدين تأتي أكلها وتُضعف كلاً من نظام الحكم ومعارضته وحينها يسهل التحكم في مصير هذين البلدين والسيطرة على مواردهما، وقد ساعد ضعف المعارضة في البلدين كذلك وفقدان نظام الحكم في البلدين القدرة على البقاء، واستفادت أمريكا من هذا الوضع الذي يفرز في نهاية الأمر شعباً منهكاً وقيادة جديدة ضعيفة يسهل التحكم فيهما واستغلال مواردهما دون الحاجة إلى الاحتلال العسكري!! فالتحكم في اليمن من ناحية انهيار الدولة أو بوجود نظام حكم منهك مع انهيار الدولة في الصومال يمكِّن أمريكا من التحكم في البحر الأحمر والقرن الإفريقي وهو يمثل مدخلاً جيداً لإفريقيا ذات الموارد الغنية بجانب الموارد المائية الضخمة في الهضبة الإثيوبية ومنطقة البحيرات مع وجود الأراضي الزراعية الخصبة الواسعة في السودان الذي يمثل نسبة اثنين وستين في المائة من مساحة حوض النيل!! وحتى تكتمل رحلة الاستيلاء على الموارد، قامت أمريكا بإشعال فتنة بين إيران والسعودية بمحاولة اغتيال السفير السعودي في أمريكا.. وكل ما في الأمر أن العائلة المالكة في السعودية قد بلغت من العمر عتياً فإذا توفي ولي العهد السعودي عن عمر ستة وثمانين عاماً فإن هذه دلالة كافية أن ذلك البلد يعاني أزمة قيادة شابة، تنظر إلى المستقبل نظرة تفاؤل، ففي مثل هذا العمر لا يجد المستقبل حيزاً في العقل الذي ينشغل تماماً باللحظة التي يعيش وعادة ما يشغله حاضره الذي يعيش عن مستقبل غيره!! وعادة ما تسهل القيادة في مثل هذه الأعمار ودفع السعودية إلى مثل هذه الأزمة مع إيران وهي دولة قوية،. وذات جيش قوي وقيادة شابة وسلاح بحرية وجوي ومشاة الأقوى في المنطقة يجعل من السعودية في وضع لا تملك فيه من أمرها شيئاً سوى إطلاق يد أمريكا في موارد ذلك البلد بغرض الحماية..رغم أن احتمال قيام حرب بين إيران والسعودية مستبعد إلا أن قيام حرب من نوع آخر وهي أصلاً موجودة ولكن بطريقة أشرس وارد جداً وهي الحرب المذهبية بين المسلمين السنة والشيعة، وهذه الحرب التي تريد أمريكا أن يشتد أوارها وهي تقف تارة كمتفرج وأخرى كموجه، تماماً كما حدث في الحرب بين العراق وإيران.. وإلى الآن ليست هناك موجة لربيع عربي في السعودية، فالبديل غير مضمون أو ربما لم يتم إعداده بعد وقيادة حالية تفوق أعمار ورثة عهدها الثمانين هي المطلوبة حالياً.. ذات الوضع نجده في السودان، وقد بدأت الولاياتالمتحدة بالتلويح برفع العقوبات الأمر الذي يزيد النظام استكانة وضعفاً، وتشكيل الحكومة القادمة الوزاري قد يضم ركام الأحزاب التقليدية التي يعيش أحد زعمائها في الخارج بينما يستعد الآخر للسفر للولايات المتحدة لوضع الترتيبات النهائية لمشاركته في الحكم.. ماذا ستقدم مثل هذه الحكومة لبلد يتفكك؟ وماذا ستقدم لدارفور التي تقول أجهزة الإعلام إن جزءاً كبيراً من الترسانة الليبية قد عبر الحدود إليها؟ وماذا ستقدم للشرق الذي زاره الرئيس الإريتري ومن هناك غادر براً إلى اريتريا بسيارة إلى اريتريا؟ مهددات كبرى تواجه الحكومة المقبلة، الأمر الذي سيقود إلى الفشل ففي تكوينها المرتقب توطين لذلك الفشل!! أما دولة جنوب السودان فتكون نموذجاً لما كان يُعرف بروديسيا الشمالية والجنوبية اللتين تحكم الغربيون في مواردهما وتركوا أهل البلاد الأصليين في فقر مدقع، وهذا ما نخشاه ويخشاه كل حادب على أرض السودان، سواء كان ذلك السودان أو دولة جنوب السودان وكل ما يحيط بهما من أقاليم!! والصورة أمامنا لا تبشر فهي صورة قيادة بلا سيادة وحكم بلا اقتصاد!