[email protected] كتب السيد سليمان فقيري نائب حاكم إقليم شرق السودان (19801985)، في صحيفة السوداني، (الجمعة 14 أكتوبر ص11) مقالا بعنوان \"حامد على شاش.. عملاق الادارة العامة\" سرد فيه معرفته التي امتدت لما يزيد عن أربعين عاما بالسيد حامد علي شاش أمد الله في أيامه ممتدحا قدرات شاش الإدارية وإسهامه الوطني ومدى ترحيب أهله في شرق السودان بتعيينه (ديسمبر 1980) حاكما للاقليم. إذ يقول في الفقرة قبل الاخيرة من مقاله \"ولقد أثلج صدور معظم القيادات في الإقليم عند التشاور معهم في اختيار حقيبته الوزارية (تشكيل حكومته) التي استطاع أن يبحر بها إلى بر الأمان خلال فترة توليه منصب حاكم الاقليم\". أعطى السيد فقيري هذه الفترة التي تولى فيها السيد حامد على شاش حكم شرق السودان وكان هو نائبه فقرتين فقط من مقاله الذي شغل نصف الصفحة. لقد امتدت لأربعة أعوام ونصف العام تقريبا، وهي بحساب الزمن قصيرة اذا قورنت بمعرفتهما من أيام الطفولة لكنها تعتبر من أخطر وأهم السنوات في حياة أبناء هذا الإقليم لسببين اثنين. الأول: إن شرق السودان تعرض في عهدهما لأسوأ مجاعة في تاريخه المعروف، كانت امتدادا للمجاعة التي ضربت منطقة القرن الإفريقي، وحصدت في شرق وغرب السودان مئات إن لم تكن آلاف الأرواح. الثاني: إن حكومة حامد علي شاش ونائبه سليمان فقيري، كانت تجربة فريدة في شمال السودان، وربما في العالم، حيث أتيحت فيها الفرصة لأبناء إقليم أن يحكموه منفردين بأنفسهم في مختلف مستويات الحكم، فتحقق لهم ما يسعى له أبناء الولايات اليوم قبل أكثر من ربع قرن. وتناوُل هذه التجربة من رجل كان المسئول الثاني فيها بالشرح والتحليل سيكون مفيدا أيما إفادة. مقال السيد سليمان فقيري اعتبرته مدخلا لموضوع سابق، كنت قد بعثت به لصحيفة السوداني يتحدث عن نفس الفترة ولم تنشره، واعتقد أن نشره سيكون مفيدا لإضاءة بعض الجوانب من أجل التوثيق والاعتبار طالما أن السيد فقيري أغفل أهم حدث شهده إقليم شرق السودان في فترة توليه والأستاذ حامد علي شاش حكمه. أضف إلى ذلك إنه كرر مرة أخرى عبارة \"الإداري الفذ\" التي أبرزتها الصحف في أخبارها وهي تغطي زيارة الأستاذ علي عثمان محمد طه نائب رئيس الجمهورية (النائب الاول لرئيس الجمهورية حاليا) للسيد حامد علي شاش في منزله مساء الاربعاء 19 اغسطس 2011 ضمن برنامج تواصل الذي تنفذه الامانة العامة لمجلس الوزراء. فقد كتبت في ذلك الموضوع وأنا أعيد تحريره هنا إن تلك الزيارة سُنة حميدة ينبغي أن تجد التقدير والتشجيع لتكريم رموزنا الوطنية في جميع المجالات. ونتمنى لها أن تستمر في مختلف المستويات حتى نصحح بعض مفاهيمنا الموروثة. فمثلنا السائر يقول\" الله لا جاب يوم شكرك\". هكذا تعودنا أن نشكر ونمدح الناس بعد موتهم. وتحفظ لنا المناحة والصحف السيارة ومجالس العزاء تراثا ثرا في هذا المجال. تلك الزيارة أعادت لي ذكريات قديمة من ثمانينيات القرن الماضي. فقد كنت بعثت برسالة الى صحيفة السياسة من الدمام نَشرتْها في باب \"رسائل الى الناشر\" على صفحتها الاخيرة اثنيتُ فيها على مبادرة، وردت في مقال للاستاذ السر حسن فضل بعد وفاة الأديب الكبير جمال محمد أحمد جاء فيها\" إن السياسة ستحرص في المستقبل على إيفاء أدبائنا ومبدعينا حقهم في حياتهم. ولن تنتظر لتؤبنهم بعد وفاتهم\" قلت في تلك الرسالة \"..حتى لا يسبقنا القدر وهو ناجز، فيتخطف تلك النخب في غفلة منا اقترح على السياسة، أن تبدأ في تنفيذ مشروع وفاء وتواصل نسدد عبره ما لهم علينا من دين بإجراء مقابلات صحفية مع الذين كان لهم أو ما زالوا يقومون بدور فاعل في الحياة العامة دون اعتبار لاتجاهاتهم أو ولاءاتهم السياسية.\" ووعدت بأن أتولى هذه المهمة في المملكة العربية السعودية حيث كنت أعمل ويوجد عدد كبير من العلماء والخبراء السودانيين لا يعرفهم أحد خارج مجالهم ويزهدون كعادة كل سوداني في التعريف بأنفسهم وبما يقدمونه لبلادهم وللعالم. واقترحت أن يُطلب إلى الزملاء الصحفيين في الداخل والخارج التضافر لإنجاز الفكرة. فرحبت بها السياسة ودعتني لأن أبدأ، فبدأت بإعداد أول توثيق عن العالم الجليل البروفيسور أحمد محمد الحسن متعه الله بالصح والعافية الذي كان يعمل أستاذا في جامعة الملك فيصل بالدمام. وعندما بعثت بالمادة كانت الصحيفة قد أُغلقت وغُبرت معها الفكرة. فحاولت إحياءها في أول زيارة لي إلى السودان بعد انتفاضة ابريل (1985) بتسليم المادة لرئيس تحرير صحيفة الأسبوع الأستاذ محيي الدين تيتاوي لكنه أهملها؛ لأن البروفيسور \"من سدنة مايو \" على حد قوله. فاحتفظت بها حتى تفضل الأستاذ أبو العزائم مشكورا بنشرها بعد أكثر من ربع قرن في صحيفة آخر لحظة(19،20،21 سبتمبر2010م) هذه المقدمة لا بد منها، فتكريم رموز المجتمع في حياتهم يحقق بعض ما تمنيته قبل اكثر من عشرين عاما. والسيد حامد علي شاش من هؤلاء الرموز. وتكريم السيد نائب رئيس الجمهورية له تكريم للإداري المخضرم الذي يعرفه، فلا يضيره ما أورده هنا عن حامد علي شاش حاكم إقليم شرق السودان الذي اعتقد أن الفرصة لم تتح لنائب الرئيس معرفته، كما عرفته أنا عن قرب عام 84/1985م عندما أرسلتني صحيفة اليوم السعودية لتقصي أخبار المجاعة التي ضربت ذلك الإقليم، وعبرت أخبارها البحر الأحمر، وأصرت الحكومة على تصنيفها على أنها حالة جفاف لا ترقى لمستوى المجاعة. فكانت الاغاثة العالمية تتدفق على مخيمات ضحايا المجاعة الذين عبروا الحدود من اثيوبيا واريتريا. السيد حامد علي شاش كان ضمن الدفعة الاولى من الضباط الاداريين الجامعيين (1949م). جال بقاع السودان المتنوعة وهو أول من سودن هذه الوظيفة في شرق السودان وتجربته تستحق التدوين والتوثيق. فمن حقه علينا أن نكرمه ومن حقنا أيضا وحق أبناء شرق السودان محاسبته على الاسلوب الذي تعامل به مع المجاعة إن كان هناك ما يستحق المحاسبة. فعندما وصلت بورتسودان(ديسمبر84/يناير85) والمجاعة في ذروتها وجدت الناس يموتون على الطرقات وحول بورتسودان وفي الخيران ووراء الجبال، ولم أجد حامد علي شاش الذي علمت انه غادر الى ود مدني لحضور مباراة في كرة القدم يلعب فيها أهلي بورتسودان، وأمضي هناك أكثر من أسبوع يستمتع بالمباراة، ويشارك في تكريم اللاعبين، فيما يحصد الجوع أهله من أبناء شرق السودان في أطراف حي ديم النور وحي المطار وفي درديب وتهاميم وفي دلتا طوكر واوسر وجبال ووديان البحر الأحمر. بل يذهب وهو الإداري الفذ لأبعد من ذلك، فيحول أموال إغاثة تبرع بها محسنون لضحايا المجاعة، فيوجهها لبناء مدرسة ومستوصف ومخزن في مدينة القضارف حسب صحيفة الأيام (19 نوفمبر 1984م). لقد أتيح لي أن أكون شاهدا ضمن آخرين لم تتح لهم الفرصة لتوثيق ونشر ما شاهدوه من مجاعة ضربت إقليم البحر الأحمر، وظلت طي الكتمان، ولم تكن الإغاثة بالمستوى المطلوب بسبب تكتم حكومة السيد حامد علي شاش والحكومة المركزية ووسائل الاعلام في ذلك الوقت عليها. مجاعة حصدت مئات الأرواح وخلفت عشرات المعاقين واليتامى والأرامل وفاقدي البصر. الدكتور رولف اسميث ممثل المجموعة الاوروبية الذي التقيته في مخيم تهاميم 28/12/1984 قال لي إن\" الحالة التي نراها هنا نتيجة تراكمات عدد من السنين ووصلت مرحلة لا تجدي معها المساعدات\". هذا القول أكده أحد خبراء اليونيسيف تحدثت إليه في نفس المخيم حيث قال \" شاهدت أكثر من عشرين مجاعة في مناطق متفرقة من العالم بينها مجاعة بيافرا في نيجيريا (1967م) ومجاعة فيتنام أثناء الحرب العالمية الثانية لكنني لم أر مثلما يحدث هنا في السودان\".. في ذلك الوقت طبعا. إن ما شاهدته وما قاله الدكتور اسميث وخبير اليونيسيف يجعلنا نتساءل أين كان حاكم الإقليم الفذ كما يصفه من يكتبون عنه، وما مدى مسئوليته عن ما حدث؟. تجولت على مدى 15 يوما في هذا الإقليم وشاهدت رجالا ونساءا وأطفالا وشيوخا يموتون من الجوع.. وليس بالإمكان رواية كل ما شاهدت هنا. فقد وثقت ذلك في كتاب بعنوان \"الجوع والموت في جبال ووديان البحر الاحمر(2009م)\" حيث كنت الصحفي الوحيد الذي أتيح له أن يشاهد ويكتب وينشر بالصور عن تلك المجاعة لكن خارج البلاد؛ لأن النشر في السودان بتلك التفاصيل كان محظورا. وقد أجريت لقاء مع السيد فقيري في مكتبه بكسلا وأوضحت في الكتاب وأنا أقدم للحوار \"إن الرجل تكرم مشكورا بالرد عن جميع الأسئلة وشعرت أنه كان صادقا إلى حد كبير معنا ومع نفسه\". ما زالت صور قرية ميس في جبال اوسر على بعد 70 كيلومترا تقريبا من طوكر تتراءى بعد ربع قرن أمام عيني. هناك رأيت شابا يموت أمامي بسبب الجوع وشيخا فوق السبعين يرقد في حفرة تحت ظل شجرة طلب من أبنائه أن يضعوه فيها ليهيلوا عليه التراب عندما يموت؛ لأنهم لن يستطيعوا نقل جثته خارج \"العِشَّة\" التي كان يتجمع فيها كل أفراد الأسرة. وكيف رفض شيوخ تلك القرية في حزم وإباء اقترابنا من عدد من القطاطي في أطراف القرية؛ لأن فيها نساءا عراة وجوعى أرادوا سترهن حتى الموت. لم يسبق لي أن التقيت السيد حامد علي شاش، وقد قرأت عن قدراته وإسهاماته الإدارية، ولكني لم أجد شيئا مكتوبا عن تلك المجاعة أثناء حكمة لإقليم شرق السودان. ولماذا تعامل معها بتكل الطريقة. اللهم إلا بعض المتفرقات في الانترنت. وأنا أعذر إعلاميينا وصحفيينا الشباب، فلن يجدوا شيئا مكتوبا في صحف الخرطوم عن تلك المجاعة، فقد كانت تتحدث عن وفرة الغذاء والانتاجية العالية لمشاريع شرق السودان. ويمنع حاكم الإقليم معاونيه التحدث لوسائل الاعلام، ويقصره عليه وعلى نائبه والمتحدث الرسمي . إنني أدعو السيد النائب الأول لرئيس الجمهورية والسيد والي ولاية البحر الاحمر لتكريم رجال كانوا على قدر التحدي، عملوا في صمت بعيدا عن الأضواء يخرجون تاركين أعمالهم متطوعين، يجمعون التبرعات ويترددون على المخيمات. يقدمون الغذاء والكساء والخدمات العلاجية محاولين انقاذ ما يمكن إنقاذه. من هؤلاء الإسلامي الفاضل رجل البر محمد عبود باعبود الذي وظف علاقاته مع السعوديين وماله وآلياته وفتح مخازنه لتوفير ونقل وتوزيع الاغاثة. وجدته يقود لجنة خيرية ضمت مختلف إلوان الطيف السياسي واستقطبت الدعم من الأهالي الذين التفوا حولها، فكافأتهم حكومة حامد علي شاش ورئاستها في الخرطوم بالاعتقال بتهمة توظيف الإغاثة لعمل سياسي. وكانت النتيجة إعاقة وصول الطعام والدواء لمخيمات الإيواء وتزايد عدد الوفيات. إلى جانب باعبود كان الدكتور أبو آمنة أبومحمد طبيب الأطفال الذي شاهدته، وهو شيوعي معروف يقود عربة اسعاف بنفسه، ومعه طلاب مدرسة المساعدين الطبيين الذين كانوا يخرجون متطوعين بعد وقت العمل الرسمي لتقديم ما يستطيعون من خدمات. ومثلهم الأطباء الذين شاهدتهم في مخيمات الإيواء الدكتور علي محمد الحسن في مخيم درديب، وكان يعمل على مدى 24 ساعة يعاونه أربعة مساعدين طبيين لخدمة ما يزيد عن سبعة آلاف شخص يفقدون الإبصار مع غروب كل شمس بسبب نقص فيتامين(أ). ودكتور الطاهر محمد موسى في مستشفى طوكر والدكتور عبدالله حسين الطبيب الوحيد في مخيم تهاميم عند زيارتنا له، حيث كان يتكدس في واد على مقربة من خط السكة الحديد أكثر من ستة آلاف شخص في العراء، تحت وطاة الجوع لا يستطيعون التحرك بعد غروب الشمس بسبب مرض العشى الليلي ومعه إبراهيم أبو آمنة المساعد الطبي ومترجمنا في المخيم.هؤلاء ورجال لم تسعفن الذاكرة بأسمائهم هم الذين يستحقون التكريم. أما بالنسبة للسيد حامد على شاش والأستاذ سليمان فقيري فسيكون مفيدا لو ألقيا الضوء على تلك الفترة. وتقييم تجربة حكم أبناء شرق السودان لإقليمهم بأنفسهم للاستفادة منها في إثراء تجربة الحكم الفدرالي الحالية. وهل ولايات شرق السودان الثلاثة الحالية متجانسة بما يشكل اقليما واحدا كما كان في عهدهم. وكيف ينظرون الى عمليات تقسيم واعادة تقسيم الولايات المطروح في غرب السودان بحكم تجربتهم وخبرتهم الإدارية. صحيح أن الامطار لم تسقط بالمعدلات المطلوبة لعدة سنوات. وصحيح أيضا أن الجفاف شمل كل الإقليم. وأن السلطات اضطرت لإعلان المجاعة بعد أن حدث ما حدث ولم يعد بالامكان التكتم عليه.. ما نريد معرفته هنا الى أي مدى كان حاكم الإقليم \"إداريا فذا \"، وهل ينطبق ذلك على السلوك الإداري والأخلاقي الذي اتبعه تجاه المجاعة؟. صحيفة الأخبار