وفاة بايدن وحرب نووية.. ما صحة تنبؤات منسوبة لمسلسل سيمبسون؟    الخارجيةترد على انكار وزير خارجية تشاد دعم بلاده للمليشيا الارهابية    الأحمر يعود للتدريبات    ريال مدريد يسحق قادش.. وينتظر تعثر برشلونة    شاهد بالفيديو.. محامي مصري يقدم نصيحة وطريقة سهلة للسودانيين في مصر للحصول على إقامة متعددة (خروج وعودة) بمبلغ بسيط ومسترد دون الحوجة لشهادة مدرسية وشراء عقار    الأمعاء ب2.5 مليون جنيه والرئة ب3″.. تفاصيل اعترافات المتهم بقتل طفل شبرا بمصر    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة لها مع زوجها وهما يتسامران في لحظة صفاء وساخرون: (دي محادثات جدة ولا شنو)    شاهد بالصور والفيديو.. رحلة سيدة سودانية من خبيرة تجميل في الخرطوم إلى صاحبة مقهى بلدي بالقاهرة والجمهور المصري يتعاطف معها    غوارديولا يكشف عن "مرشحه" للفوز ببطولة أوروبا 2024    الخارجية السودانية تستوضح السفير السعودي بشأن فيديو تهديد أفراد من المليشيا المتمردة    كباشي والحلو يتفقان على إيصال المساعدات لمستحقيها بشكل فوري وتوقيع وثيقة    شاهد بالفيديو.. في مشهد مؤثر البرهان يقف على مراسم "دفن" نجله ويتلقى التعازي من أمام قبره بتركيا    المسؤولون الإسرائيليون يدرسون تقاسم السلطة مع دول عربية في غزة بعد الحرب    الحرس الثوري الإيراني "يخترق" خط الاستواء    ريال مدريد ثالثا في تصنيف يويفا.. وبرشلونة خارج ال10 الأوائل    تمندل المليشيا بطلبة العلم    اتصال حميدتي (الافتراضى) بالوزير السعودي أثبت لي مجددا وفاته أو (عجزه التام الغامض)    الربيع الامريكى .. الشعب العربى وين؟    الإتحاد السوداني لكرة القدم يشاطر رئيس مجلس السيادة القائد العام للقوات المسلحة الأحزان برحيل نجله محمد    ((كل تأخيرة فيها خير))    هيفاء وهبي تثير الجدل بسبب إطلالتها الجريئة في حفل البحرين    وصف ب"الخطير"..معارضة في السودان للقرار المثير    دراسة تكشف ما كان يأكله المغاربة قبل 15 ألف عام    مستشار سلفاكير يكشف تفاصيل بشأن زيارة" كباشي"    نانسي فكرت في المكسب المادي وإختارت تحقق أرباحها ولا يهمها الشعب السوداني    قائد السلام    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة حديثة تعلن بها تفويضها للجيش في إدارة شؤون البلاد: (سوف أسخر كل طاقتي وإمكانياتي وكل ما أملك في خدمة القوات المسلحة)    الأمن يُداهم أوكار تجار المخدرات في العصافرة بالإسكندرية    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الخميس    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الخميس    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الخميس    العقاد والمسيح والحب    شاهد بالفيديو.. حسناء السوشيال ميديا السودانية "لوشي" تغني أغنية الفنان محمد حماقي و "اللوايشة" يتغزلون فيها ويشبهونها بالممثلة المصرية ياسمين عبد العزيز    «الذكاء الاصطناعي» بصياغة أمريكية إماراتية!    مؤسس باينانس.. الملياردير «سي زي» يدخل التاريخ من بوابة السجن الأمريكي    الموارد المعدنية وحكومة سنار تبحثان استخراج المعادن بالولاية    فينيسيوس يقود ريال مدريد لتعادل ثمين أمام البايرن    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



انقلاب 17 نوفمبر 1958: ذكرى بطعم الحنظل !
نشر في الراكوبة يوم 17 - 11 - 2011


غرس الوطن
انقلاب 17 نوفمبر 1958: ذكرى بطعم الحنظل !
أم سلمة الصادق المهدي
يوافق اليوم الخميس 17 نوفمبر ذكرى إنقلاب 17 نوفمبر 1958 على الديمقراطية السودانية الأولى (54-58)، وسيرة ذلك الإنقلاب الأول ستكون محور حديثنا هذا الأسبوع .لكننا لن نفعل قبل القيام بواجبين، الأول: العزاء في فقدنا الأنصاري الجلل في ولاية سنار باستشهاد الحبيب الضي أحمد شلعي الأمين العام لهئية شؤون الأنصار وعضو المكتب السياسي بولاية النيل الأزرق والحبيب أسامة الريح إبراهيم عضو الحزب بولاية سنار، ثم التوجه الى الشافي الكافي أن يشفي الحبيب كمال محمد التوم إبراهيم القيادي بالولاية وممثل الحزب بدائرة الدمازين بانتخابات 86م الذي أصيب مع الشهداء برصاص منهمر لم تتكشف بعد حقائقه ولا أبعاده .. ولأن الأمر جد خطير، على جميع الأطراف الحرص على تحقيق نزيه ثم محاسبة الفاعلين على رؤوس الأشهاد .حمى الله السودان من فتنة لا تبق ولا تذر ولا تصيبن الذين أجرموا منا خاصة، ونعوذ بوجهه الكريم من يوم نضطر فيه إلى فرز الكيمان على أسس أثنية والإصطفاف متقابلين بحسب الهوية نقتل بعضنا بعضا .اللهم احم السودان من يوم مثل هذا وشاحدك يا كريم لا تحصل خراب ولا أرجى يوم وديرا(طواقي الخوف،القدال).
والواجب الثاني: التحية والإجلال لحدث تاريخي معاكس لاتجاه الانقلاب النوفمبري تماما من حيث الأثر على مسيرة الأمة والرفد في مَصاب جلائل الإنجاز- فنوفمبر في التاريخ السوداني الحديث لم يكن شهرا لتلطيخ سيرتنا الوطنية وندب الحظوظ فقط بمثال السيرة التي سنقلب دفاترها معا اليوم . ذلك أن نوفمبر هو الشهر الذي شهد اسبوعه الأول وتحديدا في الخامس منه من عام 1883 ملحمة عظيمة، كان لها ما بعدها في التاريخ السوداني الحديث وأكبر الأثر في رسم المصير الوطني وإعلاء شأن الوطن ونعني معركة شيكان .وعن شيكان كنت قد كتبت بمناسبة ذكراها ال 114 في العام الماضي مقالا عنوانه:(الى من يريدون التغيير :أنصحكم بشيكان فيها مأربكم!) فلا حاجة بنا الى استزادة هنا وإن كان لي رجاء من قرائنا الكرام فهو طلب ذلك المقال من ارشيف الصحافة 11/11/2010 على الشبكة العنكبوتية لكي تظل تلك الذكرى حاضرة نستلهم من نجاحها الأمل والثقة بالنفس وهي أسلحة نحتاجها اليوم .
إن كان الفضل هو ما شهد به الأعداء ،فقد فعل لورد فتز مورس في مجلس اللوردات البريطاني بقوله عن تلك المعركة العجيبة:(لعل التاريخ لم يشهد-منذ لاقى جيش فرعون نحبه في البحر الأحمر كارثة مثل تلك التي حلت بجيش هكس في صحارى كردفان حيث أفني عن آخره وقضي عليه قضاء مبرما). وإن التمسنا شهادة وطنية فنجد أن زلفو العسكري القدير (رحمه الله) لم يخف إعجابه بتلك العبقرية الفذة التي حققت النصر في شيكان فيقول في كتابه الموسوم(شيكان):(على مدار تاريخ الصراع البشري المسلح وحتى يومنا هذا ، لا زال الصدام الهائل الذي احتدم على سهول كردفان ضحوة الإثنين من أواخر عام 1883م يبرز مثلا رائعا لإبداع الفن العسكري في مزج الخيال والتخطيط بواقع التنفيذ والتطبيق ، فاختيار مسرح الإلتحام المثالي الذي فجر فيه المهدي طاقات جيشه ، والسرعة الخاطفة التي أزاح بها آلافا من الجنود المسلحين والمدربين تحت صيحات التهليل والتكبير من حيز الوجود، وذلك الختام الخرافي الشبيه بأساطير الأولين حين تبتلع الأرض جيوشا بأكملها مما يدلل على مخطط فذ...).وقد صدق قول الإمام المهدي لأحبابه قبل الالتحام : (لو تأخر أحدكم ليصلح نعاله لما لحق بالمعركة) فقد قُدر الزمن الفعلي الذي دار فيه القتال بخمسة عشرة دقيقة تنقص ولا تزيد!
لكن كل هذا الفلاح والنصر المؤزر الذي تحقق بجهد سوداني خالص وتمكن من تخليص سودان القرن التاسع عشر من التسلط الأجنبي ومن شرور التشتت والتعصب القبلي والإثني حتى أقام دولة أرّخت لبداية الدولة السودانية الحديثة بحدودها المعروفة (قبل الإنفصال)، وجعلت قلوب أهله على قلب رجل واحد –كل تلك المكاسب ضٌيّعت بفعلين:
- فعل خارجي: فعندما لم يقو من يسيرون دفة العالم في ذلك الزمان على احتمال سودان بتلك المواصفات ، بل وحتى اليوم تخبرنا الصحائف الاسفيرية كيف يخاف هؤلاء الاستعماريون من السودان الموحد القوي وكيف يسعون لتفتيته(حديث لافي ريختر وزير الأمن الاسرائيلي السابق 2008) فكان أن أعيد السودان الى حظيرة الاستعمار مرة أخرى في 2 سبتمبر 1889 بعد معركة للشرف الوطني في كرري ووقفة للعزة السودانية في 24 نوفمبر 1899 في ام دبيكرات المعركة التي ألهمت السودانيين درسا مهما :فإما حياة تسر الصديق وإما ممات يغيظ العدا.
ونعتقد من سويداء قلبنا أن محطات نوفمبر في القرن التاسع عشر سواء بذلك النصر الماجد في شيكان أو باختيار الموت استشهادا عوضا عن الاستسلام انتصارا للمبدأ، في ام دبيكرات ، كانت محطات مهمة ومفصلية في تاريخ أمة السودان رفدت الخصوصية السودانية فيما بعد بخصائص وميزات خاصة.
- فعل داخلي: حيث لم يقف الاستعمار الأجنبي وحده في طريق الحلم السوداني لكن للأسف عاونه شموليون سودانيون أمدوه بالخطايا والرزايا بنسق تصاعدي بدأ هينا : بالانقلاب الأول على الشرعية الانتخابية في نوفمبر 1958 مرورا بانقلاب 25 مايو 1969 وبلغ ذلك المد الخبيث ذروة قبحه بانقلاب يونيو 1989- الانقلاب الذي شل الوطن تماما وأمات كل الأخضر لولا أن تدركنا العناية وألطاف ربنا ....
فإن حنقنا ،على الاستعمار الخارجي لقطعه مسيرتنا القاصدة لكن لا شك إن حنقنا على استعمار بني جلدتنا –الداخلي هو الأكبر لأن أذى القريب أشد وأمضى .
وفي ذلك السياق نلقي بأكبر اللوم على الانقلاب الأول (انقلاب 17 نوفمبر) الذي استن تلك السنة السيئة فعليه وزرها ووزر من اتبعه حتى قيام الساعة .
تخبرنا أوراق التاريخ أن الفريق ابراهيم عبود لم يكن الانقلابي الأول في تاريخ السودان الحديث فقد سبقه الرائد عبد الرحمن كبيدة في 1957 بعد سنة واحدة من الاستقلال لكن انقلاب عبود كان الانقلاب الأول الذي نجح في تسنم السلطة قسرا مما أغرى آخرون بتكرار ذلك الفعل مرات عديدة (بلغت 18 محاولة )نجح منها فيما بعد انقلاب 25 مايو ثم يونيو الأسود ولذلك نحمله كِبرها.
عند استعراضنا لتاريخ العوالم من حولنا نجد أن السودان لم يكن بدعا في هذا المضمار فقد كانت الانقلابات في البلدان الأفريقية والعربية تخلُف الحكومات التي تشكلت بعد التحرر من الاستعمار الأجنبي لكنه بالنسبة للدول التي خضعت للاستعمار البريطاني- والسودان منها كان الانقلاب ارتدادا فظيعا لأنه خّرب مؤسسة الجيش الذي أُسس على النهج البريطاني :على التراتيبية والانضباط وتلك طبعا خلاصة التجربة الأوروبية التي أبعدت الجيش عن ولوج السياسة خوفا على مهنيته وحفاظا على مهامه الأساسية في حفظ الأمن وحماية الحدود وحماية للسياسة من إخفاقات غير المؤهلين لخوضها أو اللعب في ميادينها ، وهذا هو عين ما تحدث عنه هنتجنغتون الذي أرسى نموذجا تقوم على أساسه العلاقات العسكرية المدنية وهو درجة المهنية حيث أوضح أنه كلما كانت المؤسسة العسكرية مهنية في مهمتها، ابتعدت عن التدخل المباشر في السياسة. وكلما قلت مهنيتها، ازدادت تدخلا في السلطة وتكمن مهنية القوات المسلحة في تجويد مهمتها الأساسية وهي حماية البلاد من التهديد الخارجي(من ورقة الإنقلابات العسكرية في السودان،الأسباب والدوافع،د.حسن الحاج على أحمد
جامعة الخرطوم ).هذا الإرث البريطاني -الذي ذكرناه بالنسبة لمهنية المؤسسة العسكرية كان سيكون في حد ذاته كسبا عظيما للسودان لو مضينا على أثره لأنه يمثل صفوة تجارب إنسانية راسخة أخضعت الجيش للقرار السياسي وأعطت الديمقراطيات فرصة لتصحيح أخطاءها.ولتقييم صحة ما قاله هنتجنغتون بشأن ارتباط مهنية الجيش سلبا بدرجة الولوغ في السياسة ما علينا إلا إجالة النظر من حولنا في الواقع السوداني لنرى كيف تنتهك حدودنا من أطرافها بل من وسطها (الطائرة الليبية في عهد نميري التي أوقعت قنابل في ام درمان،صاروخ مصنع الشفاء وطائرة بورتسودان في عهد الانقاذ..وغيرها من الحادثات )وكيف تسام كرامتنا خسفا غير مسبوق في كل محفل دولي أو إقليمي .
كثر الحديث عن انقلاب نوفمبر لكونه بدأ بطريق غير مألوفة بخطة تسليم وتسلم باتفاق محدد المعالم ولكنه- وحتى قبل التنفيذ اتضح لرئيس الوزراء وقتها : فداحة ما هو مقدم عليه وخيانة العسكر للعهود فقد كان متفقا مع قيادة الجيش في اليوم السابق للانقلاب ليلتقي بقادة القوات المسلحة ويتحدث اليهم عن أهداف الانقلاب وحدوده باعتباره رئيسا للوزراء ووزيرا للدفاع ولكنه في الموعد المحدد لم يجد بانتظاره سوى الفريق عبود واللواء حسن بشير الذين أبلغاه أن قادة الوحدات في حالة تأهب وليس من الميسور استدعاؤهم فعاد الى منزله وهو يعلم أن تلك كانت بداية الخدعة(أمين التوم،ذكريات ومواقف في طريق الحركة الوطنية السودانية) ويبدو أن عبود (وصحبه الميامين)كما كانوا يطلقون على أنفسهم، رأوا أن يتحول الاتفاق بالتسليم والتسلم الى انقلاب بدسم كامل، وهذا ما قد كان. فقد أعقب البيان الأول حل جميع الأحزاب، تعطيل الصحف، تكميم الأفواه وكل ما يصف إنقلابا تقليديا على الشرعية.
أشد ما يؤسفنا أن بعض الناس يذكر انقلاب نوفمبر بالخير إما لطبع شمولي سمته التخليط ويحضرني هنا من النماذج :كتابات باشمهندس عثمان ميرغني بالخصوص أو لفهم ملتبس سببه مقارنة عهد عبود بعهود الانقلابات التي تلته : مايو ثم يونيو إذ تذهب المقارنة لصالح نظام عبود إضافة لاستبطاء الناس لانجازات الديمقراطية الوليدة في بلد ظروفه بالغة التعقيد ،فكان العامة بعد اكتوبر حينما يلقون عبودا في الأسواق يهتفون له:ضيعناك وضعنا معاك!
وربما التبس على الناس إدراك مدى سوء وسوءة نظام عبود بسبب عدم إثارة شبهات فساد واضحة وإن تناسى هؤلاء أن ذلك ربما يعود الى قصر فترة حكم نظام عبود نسبيا فغياب الشفافية والمحاسبية من أي نظام يقود حتما الى موبقات الحكم الشمولي والأهم من ذلك أن الخدمة المدنية ونظمها كانت بعافية حينها ولم تسمح بتجاوزات كبيرة وبرغم ذلك ماذا نسمي التفريط في حقوق أهالي حلفا والرضى بالمبلغ الأقل الذي رأته الحكومة المصرية تعويضا لهم عن إغراق أرضهم بسبب السد العالي؟ ثم كان تنازل الفريق عبود السريع نسبيا عن السلطة مما حقن المزيد من الدماء لكنه غبّش على الناس وأنساهم المساويء وبينما يجب أن نثبت ذلك التنازل -السريع نسبيا، في ميزان حسنات ناس عبود نُذكّر مرة أخرى بأن مهنية الجيش في ذلكم الحين كانت ما زالت بعافية أكبر و لكن لا يجب المبالغة في الرضا عن ذلك الموقف لدرجة تجعلنا (نبلع كل الظلط ) لأن عدم تسمية الأشياء بأسمائها تمنع الإستفادة من الأخطاء وبالتالي تكرارها ...
وفي السياق نذكر ما كتبه أ. مصطفى البطل عن أن السودانيين يقفون مبهوتين أمام حرمة الموت مثلا ، مما يجعلهم يلصقون بالأموات صفات ربما لم تكن لهم في حيواتهم. وبذات المنحى نحن شعب يتعاطف أحيانا بغير موضوعية مع من هم في موقف الضعف غض النظر عن فعلهم الماضي، والمثال الصارخ على ذلك أننا خرجنا منتفضين على نظام النميري في 1985 لكن عندما عاد النميري فيما بعد سكن في بيته بودنوباوي التي كان قد ضرب مسجدها بالدبابات والمدافع الرشاشة في مارس 1970 مما تسبب في موت وإصابة كثير من سكان المسجد وسكان الحي وكذلك المارة وقد نزل النميري في بيته في ودنوباوي آمنا مطمئنا بعد ذلك دون أن يفكر أحد في مقاضاته على جرمه أو رميه بحجر. وتُرك في حاله حتى مات ميتة طبيعية وحتى آخر مقابلة صحفية معه لم يبد شيئا من ندم على ما اقترفت يداه !
نحن نعلم أن نظام عبود قد أفسد المؤسسة العسكرية واستن وأد الديمقراطية في السودان وعالج مشكلة الجنوب بمنظار أمني ضيق مما عقدها بينما كان يمكن حلها ببساطة أكبر في أول أمرها حينما كانت مجرد حركة مطلبية ثم أنه تنازل عن حقوق سودانية لمصر في مياه النيل ورضي بمقدار ضئيل من التعويضات لأهالي حلفا بعد بناء السد العالي (15 مليون جنيه بدلا عن 30 مليون جنيه مثلما نصت مسودة المعاهدة العسكرية التي سعى لعقدها الامام عبدالرحمن المهدي مع المصريين كما أوضح السيد عبدالفتاح المغربي في جريدة الأيام رقم 5013 بتاريخ 7 ابريل 1967 ) ونعرف كذلك أن نظام عبود لم يكن أكثر رحمة بالعباد من غيره صحيح مع اختلاف في الدرجة: فقد قتل الأنصار بدم بارد في خيمة المولد في أغسطس1961ولم يتوان عن اقتحام حرم الجامعة واستخدام الرصاص الحي في اكتوبر 1964 حتى سقط القرشي وغيره شهداء، ولم يتوان قبل ذلك، عندما اعتبر أن في ذلك حماية للنظام من اعتقال الساسة(عبد الله خليل ،الأزهري ،الأمير نقد الله،عمي أمين التوم وغيرهم) وارسالهم الى جوبا في ظروف بالغة السوء وقد صادر الحريات وحل الأحزاب منذ يومه الأول وفي لقاء عبود مع الصحفيين في 18 نوفمبر حظر كل شيء(لا تكتبوا أي شئ ضد سياسة الحكومة ولا تنتقدوا أعمالها في الأمور الداخلية والخارجية ولا تعلقوا على هذه الأعمال بشيء . لا تكتبوا عن الأحزاب السابقة أو الطوائف. لا تكتبوا معلقين أو منتقدين سياسة البلدان الأخرى)\"وقد كان ذلك المنع يتم بصورة راتبة لدرجة المنع من تناول ما يختص بالأندية الرياضية .بل نحن نعلم أن فعلة عبود في خيمة الأنصار في المولد أودت بحياة الإمام الصديق زعيم المعارضة العليه الرك، مما أربك صف المعارضة زمنا .
الأمر الآخر الذي يسوءنا هو أن بعض الناس يزعمون مسئولية حزب الأمة عن انقلاب نوفمبر بالرغم من الشرح الوافي والوقائع التاريخية التي تثبت أن أغلبية مجلس الحزب(13 من 15) بمن فيهم رئيس الحزب كانوا ضد الانقلاب لذلك تجد أن أنصار حزب الأمة هم الصوت الأعلى في المطالبة بفتح ملفات التاريخ والاحتكام الى محكمة سودانية عادلة تمتحن كل الأفعال والأقوال منذ الاستقلال وتتمدد الى الفترات التاريخية السابقة لتنصف من تجده بريئا وتلوم من تجد مذنبا وليكتب التاريخ بالبصر والبصيرة .لكن براءة حزب الأمة كمؤسسة من الانقلاب لا تعني أبدا التنصل من المسئولية و الشجاعة والمسئولية تقتضيان الإعتراف بأن الأميرلاي عبدالله خليل (رئيس الوزراء عن حزب الأمة آنذاك ) هو من رأى فردا تسليم الحكم للعساكر في ذلك الوقت في عملية محدودة وباتفاق محدد وأن الإمام عبد الرحمن المهدي من جانبه وهو راعي الحزب وبرغم عدم علمه المسبق بالانقلاب قد أيده ببيان بحسب تفسير محدد قدم له في ذلك الوقت ورأى أن المعارضة وقد وقع الانقلاب قد تضيع الاستقلال الوليد كما أن من قاموا بالانقلاب هم وطنيون يمكن التفاهم معهم وارجاعهم عن الخطأ بحسب المفاهيم الأبوية السائدة في ذلك الوقت.
ونجد في دراسة آيات محمد عبد الوهاب التي حصلت بها على درجة الماجستير في العلوم السياسية صك براءة حزب الأمة من التآمر على الديمقراطية فقد وجدت هذه الباحثة أن حكومة السودان من عام ( 1958 - 1964 ) من نوع الحكومات العسكرية الخالصة التي تقوم نتيجة استيلاء العسكريين على السلطة من خلال عمل عسكري انقلابي)-دراسة منشورة على الشبكة العنكبوتية.
مما يعني أن ذلك الانقلاب لم يتم حتى على أساس الطريق الذي رآه رئيس الوزراء ولم يكن لحزب الأمة أدنى ارتباط بنظام عبود فقد كان مجلس عبود عسكريا خالصا لا يرخي مجرد السمع لنصح حزب الأمة ومذكرات الإمام الصديق للنظام العسكري توالت تترى وجهده الرائد في قيادة المعارضة مما لا يمكن المغالطة فيه أبدا وبالمقارنة نجد أن توجه مايو السياسي ومجلس انقلابها كانا بحمرة تفضح شيوعيتها أما انقلاب يونيو فقد كشف السودانيون جبهته الإسلامية منذ وقت مبكر من عمر الانقلاب حتى قبل أن يظهر كل المسروق بعد المفاصلة .وفي الحقيقة وحتى بعيدا عن المباديء نرى أن منطق الأشياء يبريء حزب الأمة وكذلك الحزب الاتحادي الديمقراطي من التورط في الانقلابات عموما ،بمنطق أن الحزبين الكبيرين يجدان طريقهما إلى السلطة عن طريق صناديق الانتخابات ويحتلان قلوب السودانيين دون حاجة لاكراه أو مسالك معوجة.
بالرغم من مرور 53 عاما على انقلاب نوفمبر لكن خفاياه و أسراره ما زالت في طي الكتمان فما زلنا نفتقر إلى الوثائق الثبوتية التي تقرر بشكل قاطع ما هي الأسباب الكامنة من وراء فكرة التسليم والتسلم من الأساس. وبينما نرى أنه من الظلم الحكم على أحداث التاريخ أوقراءتها دون التفات للظروف الموضوعية التي وقعت فيها لكننا مع ذلك نقرر مع الإمام الصديق المهدي :إن الديمقراطية إنما تعالج بالمزيد من الديمقراطية وأن الإستعانة بالعساكر في الخيارات السياسية لا تورثنا سوى البوار.
ذكر الفريق إبراهيم عبود للجنة التحقيق التي شكلت للتقصي في وقوع انفلاب 17 نوفمبر أنه: \" قبل أيام من استئناف البرلمان لأعماله، اتصل بي رئيس الوزراء عبد الله خليل، وأخبرني أن الوضع السياسي يسير من سئ إلى أسوأ، وأن أحداثا خطيرة ومهمة قد تنشأ نتيجة لهذا الوضع، ولا يوجد مخرج غير استلام الجيش للسلطة .\" لكن أقوال الفريق عبود تتناول العموميات ولا تحدد شيئا .
ومع خفاء الأسباب التي دفعت رئيس الوزراء لتلك الخطوة لكن هناك العديد من التخمينات التي تروى بهذا الشأن فقد قيل مثلا أن الأميرلاي أراد بتلك الخطوة أن يقطع الطريق أمام المساعي التي كان يقودها السيد الصديق المهدي (رئيس الحزب) والتي ترمي لاستبدال الائتلاف القائم مع حزب الشعب الديمقراطي بقيادة شيخ علي عبدالرحمن بائتلاف جديد بين حزب الأمة والحزب الوطني الاتحادي بزعامة الأزهري .
وقيل إن الأوضاع السياسية تشير إلى أن مساعي التقريب بين الحزب الوطني الإتحادي وحزب الشعب الديموقراطي على وشك أن تنجح في تشكيل حكومة جديدة تقصي حزب الأمة وتمكن من حكومة اتحادية
برعاية مصرية تكون رهنا للرغبات والمصالح المصرية مما يعيدنا للمربع الأول وتكون (يا أب زيد كأنك ما غزيت).
كما قيل بل كان الدافع لتصرف رئيس الوزراء استباق انقلاب تسرب إليه خبره ، تدبره الحكومة المصرية يريد إعادة السودان لقبضتها صراحة.
وسواء صحت التخمينات التي تصور عبدالله خليل منتصرا لنفسه ولو على حساب ضياع الديمقراطية أو تلك التي ترجح تخوفه على الوطن من التغول المصري(بالديمقراطية أو بالانقلاب) فالثابت أن الأميرلاي وحزبه كانا أول ضحايا الانقلاب ولم يتأخر هو أو حزبه عن القيام بهبة واحدة ضد نظام عبود منذ يومه الأول واعتبروه انقلابا موجها ضد رئيس الحزب شخصيا وضد الحزب في المقام الأول فعملوا جاهدين حتى سقط الصديق فداء لذلك الهدف في اكتوبر 1961 وواصل المعارضون الآخرون وعلى رأسهم حزب الأمة سيرهم في معارضة النظام البغيض، على هدى الطريق التي رسمها الامام الصديق حتى كلل جهدهم باكتوبر الأخضر في 1964.
ربما أفادنا استعراض تاريخ الانقلابات في السودان بالتوجه لخيار ديمقراطي ذي مواصفات خاصة تعمد إلى صيغة تشرك جميع السودانيين وأهم معالمها: الإقرار بالتداول السلمي للسلطة- خضوع الجيش للقرار السياسي- التقيد بمواصفات الحكم الراشد الأربعة(الشفافية،المشاركة،المحاسبية وسيادة حكم القانون) الاستناد الى دستور يرى فيه كل السودانيين أنفسهم بوضوح.
أما استعراضنا لتاريخ مجمل الفترة منذ الاستقلال وحتى اليوم فلا بد أن صفوة قولها ترفدنا بعدة ملاحظات:
أولا :أن التدخل المصري أو التحسب منه قد كان من وراء كل أو معظم الانقلابات في السودان أما وقد حصلت مصر على ديمقراطيتها فنرجو أن يكون ذلك عاملا مساعدا في استقرار الديمقراطية عندنا .
ثانيا : يرصد الامام الصادق في كتابه الديمقراطية راجحة وعائدة (أن الانقلابات في السودان تدرجت من سيء لأسوأ) وهي لا تنذر إلا بمزيد من ذلك ، خاصة بعد تعقيد ظروف السودان الحالية (بينما تدرجت الديمقراطيات من متواضع في الأداء إلى أداء أفضل) مما يعطي وعدا بمستقبل أفضل.
ثالثا: الديمقراطية أفضل خيار -كذلك في المجال الاقتصادي مقارنة بالنظام الاستبدادي، لأنها أكثر استقراراً وقدرة على التعامل مع عوائق النمو طويل الأمد والصدمات الاقتصادية الخارجية مثل تأرجح الأسعار العالمية، كما ذكر د.سمير مقدسي الاقتصادي والوزير الأسبق في حكومة لبنان في ندوة :(التحول الديمقراطي بين المعوقات والعوامل الدافعة) في مركز مامون بحيري للدراسات الاقتصادية والاجتماعية في أفريقيا في 31/10/2011 وقد شرح في الندوة ما توصل له مؤخراً مع شركاء سودانيين -د.إبراهيم البدوي،د.علي عبد القادر ود.عطا البطحاني- في دراسة لحالة الديمقراطية في العالم العربي الكبير تحت عنوان: (تفسير العجز الديمقراطي في العالم العربي).
رابعا :آخر الكلام في هذا المجال إضافة حديث ناصح، لأحد المعقبين على الندوة بقوله: (يكفي أن الديمقراطية تصّعد الأذكياء ) وضرب مثلا ببلقيس التي جنبت قومها ويلات الحرب لذكائها وشورتها لقومها وقال لو كان القرآن نزل بالاغريقية إذن لأمرنا بالديمقراطية - التي تقابل الشورى في نسختها العربية.
وسلمتم


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.