بقلم/ بدور عبدالمنعم عبداللطيف [email protected] إن ما دعاني أو بالأحرى اذكى حماسي لتحرير هذه السطور عن \"ستنا بابكر بدري\" (أول امرأة سودانية تقتحم مجال الرسم و الفن التشكيلي) هو تعرضها لتلك الوعكة الصحية الطارئة التي استدعت بقاءها في المستشفى لبضعة أيام، وقد تماثلت الآن للشفاء بفضل الله و رعايته و عما قريب إن شاء الله ستعود لممارسة فنها بروحها الشابة التي استطاعت أن تقهر بها سنوات عمرها الثمانين. في تلك الأيام اختفت صورة ستنا \"الفنانة\" من أمام ناظري، و حلت محلها صورة ستنا \"الإنسانة\" التى تمثل لي بعضاً من ذكريات طفولة قديمة قد تراكمت عليها أزمان ما تفتأ تركض بنا فلا تدع لنا فرصة لالتقاط أنفاسنا. \"ستنا بدري\" هي ابنة خالتي نفيسة كبرى بنات القاضي \"إبراهيم مدني\".هؤلاء الشقيقات الخمس زرعن فينا- أولادهن- شتلات \"محنّة\" لم تستطع رياح الزمن على قساوتها أن تقتلعها، و تركن لنا إرثاً من محبة نسال الله أن يغدق عليهن حسن ثوابه في الآخرة. في حي البوستة بأمدرمان وتحديداً في حارة \"الشيخ دفع الله\" حيث دار \"الشيخ بابكر بدري\" تلك الدار الرحيبة التي شهدت جزءاً من أيام طفولتي... أيامها الجميلة التي بقدر ما كانت تثري وجداني ذكرياتها بقدر ما كان يدفعني اجترارها إلى التحسر على سودان الأمس. في حر الظهيرة و الشارع يرقد في سكون يضاعف منه اعتكاف الناس في بيوتهم اتقاء للشمس الحارقة. تنطلق صفارة بائع \"الدندرمة\" أو الآيس كريم بلغة اليوم. أجري ل\"ستنا\" فتدس في يدي تلك \"التعريفة\"...أقبض عليها بقوة و أهرول حافية القدمين غير عابئة ب\"الرمضاء\" خوفاً من أن تفوتني عربة بائع \"الدندرمة\" وأعود و بيدي تلك \"الدندرمة\" اللذيذة اتلمظ مذاقها المثلج بلذة ومتعة شديدين ذلك المذاق المثلج الذي كثيراً ما كان يزورني مصطحباً معه تلك الذكريات الحميمة كلما مررت بمحلات الآيس كريم ونظرت إلى ألوانه المتنوعة بمذاقاتها المختلفة التي لا تشبه طعم تلك \"الدندرمة\" اللذيذة الممزوجة برائحة الطفولة. الفن التشكيلي...الغناء و الموسيقى...الأدب شعره و نثره و جانبه الروائي و القصصي...كل هذه الجماليات تاتي من رحم الموهبة، و هي منحة ربانية اختص الله بها بعض الناس. على أن هذه المنحة مثل النبات إذا لم يُتعهّد بالعناية و الرعاية فإنه يذبل و يموت. تحكي \"ستنا\" عن بداياتها في التسلل إلى ذلك العالم السحري...عالم الفن والإبداع فتقول \"اكتشفت موهبة فن الرسم في دواخلي عندما كنت أجلس مع جدي \"الصديق مدني\" الذي كان يعشق الرسم وكان يستخدم \"القشة\" ويرسم بها على الرمل وكنت أقلده، ومن هنا بدأت تتشكل في دواخلي ملامح هذا الفن الجميل\". في عام 1936 انتقلت \"ستنا\" إلى الخرطوم وواصلت تعليمها حتى المرحلة الثانوية، ومن ثمّ تم قبولها بقسم التصميم بالمعهد الفني، إلا أن والدها \"بابكر بدري\" بالرغم من أنه كان رجلاً مستنيراً وسابقاً لزمانه في نظرته للمرأة فقد أنشأ أول مدرسة لتعليم البنات في السودان في عام 1907 بمدينة \"رفاعة\" ما جعل المرأة السودانية في طليعة النساء العربيات المتعلمات. وبرغم وثوقه كذلك من موهبة ابنته الباكرة إلا أنه لم يستطع أن يتصدى أو يقف في وجه تقاليد ترى في التعليم المختلط خروجاً على العرف السوداني. على أن الشيخ \"بابكر بدري\" استطاع بحكمته و إرادته الصلبة و إيمانه العميق بموهبة ابنته الباكرة أن يجد الحل في التعاقد مع أحد المدرسين البريطانيين بالمعهد الفني فكانت \"ستنا\" تذهب برفقة أخيها \"يوسف بدري\" لتلقي دروس الفن في محل إقامة الأستاذ الإنجليزي بالفندق. في عام 1955 سافرت \"ستنا\" برفقة زوجها محمد عبد الكريم بدري (رحمه الله) إلى الولاياتالمتحدة. وهناك التحقت بمعهد \"فينسكي\" بولاية \"كاليفورنيا\" فتعلمت فنون النحت على الحجارة و الزجاج المدروش و النحاس الممطوط. تقول \"ستنا\" عن المعهد أنه \"أكسبني كل هذه الفنون الراقية، و يُعَد نقطة تحول كبيرة في حياتي لأنني بعد تخرجي أقمت معرضين تم عرضهما في التلفزيون الأمريكي فعرفني بعدد كبير من الأمريكان الذين كانوا يأتون لمنزلي لشراء لوحاتي\". وعلى ذكر علاقة \"ستنا\" بالأمريكان، اذكر موقفاً طريفاً قد مر بيّ في سياق حزين عندما توفيّ والدي في عام 1998. فقد كانت والدتي (رحمها الله) آنذاك تلح في السفر إلى أمريكا لتلتقي بأخي الذي لم يتمكن من الحضور. وفي ذلك الوقت كان الحصول على تأشيرة زيارة لأمريكا متعذراً لأبعد الحدود، ولكن \"ستنا\" قد تمكنت عن طريق علاقتها ب\"باتريشيا\" - الدبلوماسية في السفارة الأمريكيةبالخرطوم - تمكنت من الحصول على موافقة السفارة على منح أمي التاشيرة. ومن ثم رأت \"ستنا\" أن ندعو \"باتريشيا\" لتشرب معنا الشاي كنوع من العرفان بالجميل. ولما قلت لها أن الظرف غير مناسب مع تواتر زيارات النسوة لمعاودة \"الفراش\" (المأتم)، لم تكترث لملاحظتي ما يُفهم منه أن تلك عادات بالية ينبغي تجاوزها. ولكنني برغم الفارق العمري الكبير الذي يفصل بيننا ما يجعلها اقرب إلى الأم منها إلى الأخت بالنسبة لي، لم أستطع أن أتقبل الفكرة. على أنني اضطررت في النهاية إلى النزول عند رغبتها واحساس بالخطأ يطوقني مع إدراكي بأننا سنتناول الشاي في غرفة الجلوس المنفصلة عن باقي أجزاء المنزل. الدفع الثاني الذي سقته في اعتراضي على تلك الدعوة هو أن كل المتعلقات التي تتطلبها دعوة شاي \"محترمة\" تليق بالزائرة \"الدبلوماسية\" قد أودعت في المخزن المكتظ بالأمتعة، وليس هناك من وسيلة لإخراجها، قالت لي: (( ما مهم \"باتريشيا\" تتناول الشاي في عدة البيت العادية و كفاية \"بسكويت من الدكان\" و ما حيكون معانا غير \"قاسم بدري\" و نفرين تلاتة)) .هذه الطريقة البسيطة التي \"لخصت\" بها \"ستنا\" الدعوة لم تكن تتفق مع عقليتي \"التقليدية\" وإن تظاهرت بالموافقة. في الليل عند ما رقدت على سريري في الحوش كانت عيناي تنظران إلى النجوم المتناثرة و لا تراها فقد كان ذهني مشغولاً تماماً بطقم الشاي \"الفخيم\" الذي سأستعيره من الجيران. وفي نفس الوقت الذي شرع فيه فكري في القيام بمهمة تجهيز قائمة باصناف الكيك و الفطائر و الشطائر إذ سُمِع دوي هائل ارتجت له أركان العاصمة المثلثة . جاءت ضربة \"مصنع الشفاء\" (الغارة الأمريكية) لتحسم موضوع طقم الشاي \"الفخيم\" والشطائر و الفطائر بعد أن غادرت \"باتريشيا\" الخرطوم في نفس تلك الليلة. عندما عادت \"ستنا بدري\" من أمريكا، التحقت بكلية الفنون الجميلة لدراسة المنسوجات و تلوينها و زخرفتها وهي المادة التي تقوم بتدريسها الآن في جامعة الأحفاد للبنات. جعلت \"ستنا بدري\" من صالون بيتها متحفاً صغيراً يحوي مختلف الأناتيك التي تؤسس للتراث السوداني إلى جانب الأزياء التي تميز كل منطقة من مناطق السودان المتعددة السمات، كما أن ل\"ستنا\" بصمتها الواضحة في تصميم رسومات وأشكال للثوب السوداني. حالياً تعكف \"ستنا\" على سلسلة إصداراتها التوثيقية عن تعليم المرأة في السودان فهي فنانة مثقفة لم ترتضي لنفسها التقوقع والاكتفاء بعالم الفن وحده فتسعى دائماً وفي كل الأوقات للتزود بكافة ضروب العلم والمعرفة. تتميز \"ستنا\" بالتلقائية و العفوية و البساطة و ليس لها شاغل ب\"القطيعة\" فلا تهدر طاقاتها في الحقد أو إسقاط الآراء السلبية على من حولها ما أبعد عنها شبح الشيخوخة و أضفى عليها نضارة الشباب، كما أكسبها ذلك الحس المرح و قبلاً أكسبها حب الناس. نسأل الله أن يديم عليها نعمة الصحة و العافية.