% من أطباء الامتياز يتعاطون التمباك !! * بدور عبدالمنعم عبداللطيف [email protected] قبل أن نستمطر اللعنات على هذا الإنسان البائس [طبيب الامتياز]، وقبل أن نتقزز ونحن نراه \"يبصق\" بقايا \"السفة\" على الأرصفة والشوارع وساحات المستشفى، وقبل أن نستنكر فعله كطبيب حريّ به قبل غيره أن يعرف أن التمباك من بين الأسباب الرئيسية للإصابة بسرطان اللثة، ينبغي أن نقر بأننا جميعاً حكومةً ومجتمعاً قد شاركنا في الإجهاز على هذا المسكين، فقد قتلناه .. وقتلناه بسكين نافذ ...قتلنا روحه وأحلامه في الحياة الكريمة. وأكمل هو بدوره جريمة القتل هذه في حق نفسه بتعاطيه لهذا السم الأسود ولجوئه لهذه الوسيلة \"غير الحضارية\" وغير الصحية للتنفيس عن إحباطه. بالطبع هناك من متعاطيّ التمباك من قد لا يوافقونني على هذا الرأي على أساس أن تعاطي التمباك يدخل في إطار الحرية الشخصية للفرد. وأقول \"قد\" يكون هذا الكلام مقبولاً لو لم يتعلق الأمر بمن يتعامل مع المرضى. جاء هذا الإنسان إلى الدنيا ووجد من حوله مجتمعاً يبجّل مهنة الطب وينصّب الطبيب فوق قمة الهرم الاجتماعي . كل أم وكل أب يتطلعان إلى اليوم الذي يرتدي فيه ابنهما \"البالطو الأبيض\" .. أغاني البنات تحيطه بهالة من التقديس .. أغنيات على غرار \"الدكاترة ولادة الهنا\" إلخ.. والطبيب بدوره قد رسخ هذا المفهوم بلبسه المهندم، وحضوره المميز، وكفاءته التي لا يختلف عليها اثنان .. لم يكن الوصول إلى هذه المهنة – في زمان مضى - بالأمر اليسير فدونه أبواب ومتاريس، ودونه \"معايير\" صارمة لا تخضع لنظام \"القبول الخاص\" أو الواسطة. كان الطبيب يُبتعث إلى بريطانيا للحصول على زمالة الطب في أي فرع من فروع الطب يختاره سواء جراحة، أو باطنية، أو عيون إلخ. ويعود وقد حصل عليها بسهولة ويسر ودون عناء. ومع حلول عصر الاغتراب احتل الطبيب السوداني مكانة مرموقة في بريطانيا وفي جامعات ومستشفيات الخليج العربي بما يتمتع به من أمانة علمية وكفاءة واحترام للذات. ثم جاءت ثورة التعليم العالي .. خرجت ثورة التعليم العالي من رحم سياسة السلم التعليمي جنيناً مشوهاً مقعداً ... كان التعليم قبل ثورة مايو طفلاً سليماً معافىَ يمشى على ساقين قويتين [اللغة العربية واللغة الإنجليزية] فيواصل طريقه حتى التعليم الجامعي متسلحاً بهاتين اللغتين .. لغته الأم واللغة الإنجليزية والتي شئنا ام ابينا هي اللغة الأولى في العالم فيما يتصل بكافة ضروب العلم والمعرفة ومجالات التخاطب والتجارة والاقتصاد وتسلم بها دول أبعد شأواً في المنجزات العلمية مثل ألمانيا وفرنسا واليابان في حين نجد أن هناك انعداماً ملحوظاً في المراجع والدوريات العربية في مجال الطب .. هذه حقيقة لا ينكرها إلا مكابر أو من بنى حكمه على العاطفة المجردة ونظر للتعريب فقط من زاوية كونه يعبر عن الاستقلالية والخروج من عباءة دول \"الاستكبار\". أقول أن ثورة التعليم العالي قد فتحت الباب على مصراعيه لتحقيق \"أمنيات\" الكل حيث انتشرت كليات الطب في طول البلاد وعرضها ... أكثر من عشرين كلية طب [لا يشمل هذا العدد الجامعات الخاصة في العاصمة والتي تقتصر على أبناء القادرين فقط] .. أكثر من عشرين كلية طب تنعدم فيها المقومات الأساسية المفروض توفرها في كلية الطب \"بمعناها المتعارف عليه\" من مختبرات ومستشفيات تعليمية ومكتبات و ...أساتذة متفرغين، هذا إذا علمنا أن الأساتذة يغادرون الخرطوم لأقاليم السودان المختلفة لتدريس مقرراتهم في غضون ثلاثة أسابيع يعودون بعدها لمواصلة \"مسيرتهم\" في التدريس في عدة جامعات اخرى ، ولا لوم عليهم ولا تثريب في هذا مع تدني مرتباتهم قياساً إلى ارتفاع مستوى المعيشة والغلاء الطاحن. والآن حق لكل أم ولكل أب أن يبكيا ابناً قد أضاعا سنوات عمره هدراً فلا هو حصّل مرتباً مجزياً يقيل عثرتهما ويضمن له عيشاً كريماً ولا هو نال مؤهلاً يعينه على الاغتراب .. ولا يحمل بين يديه شهادة يُعتد بها تساعده على التخصص و ... لا عزاء للأمهات و .. لا عزاء للآباء .. و ...لا عزاء لشاب جعلوا منه فأر تجارب لسياسة تعليمية خرقاء. * ملاحظة: ورد في تقرير من وزارة الصحة السودانية أن 51% من أطباء الامتياز يتعاطون التمباك. قد لا تكون هذه النسبة دقيقة ولكنها كانت الدافع لكتابة هذا المقال وفتح ملف هذه القضية الخطيرة المتمثلة في تدني مستوى التعليم الجامعي عموماً .