زائر لا تملك إلا أن تفتح له الباب! بقلم/ بدور عبدالمنعم عبداللطيف [email protected] (فلان مات)، رسالة قد تتلقاها عبر الهاتف المحمول، وقد تحدسها من خلال وجهٍ يصارع في وسط لجٍّ من الكلمات لينتقي أخفها وقعاً على نفسك وهو موقن بعدم جدوى ذلك كله، وربما تخترق طبلة أذنك كقنبلة شديدة الوقع عبر الهاتف. وفي لحظة جليلة ينتفض منك البدن ويهتز وتختلط المرئيات وتظل معلقاً بين السماء والأرض لفترة تطول أو تقصر، قبل أن يستوعب عقلك الأمر، ويبتلع وجدانك الحقيقة بكل مرارتها وعلقمها، لتجد نفسك غارقاً في بحر من الملوحة، وقد تقرحت منك العينان. ثم ما تلبث سماؤك أن تصفو من جديد وتواصل الحياة مسيرتها. فالموت هو الحقيقة الوحيدة الثابتة في حياتنا، ومع ذلك ترانا نفزع لمرآه ويخوننا الجلد في حضرته، هل لأنه يتسلل خفية ونحن في غفلة عنه لاهون بمشاغل الحياة؟ أم لأنه يمارس معنا لعبة الكراسي التي طالما لعبناها في طفولتنا وضحكنا فيها على بعضنا البعض ساخرين من كل من لم يحالفه الحظ ويفقد كرسيه؟ إنها الآن أكثر من مجرد لعبة، فالذي يفقد كرسيه قد يكون قريباً منك كل القرب، بل قد يكون محور حياتك كلها، وما أشق الأمر حينئذ! وما أحوجنا إلى قدر كبير من القوة والإيمان لحظتها، وما أوسع رحمة الخالق وما أعظم حنانه وهو يقدم لعبده الضعيف البلسم الشافي في صورة النسيان! والحزن في حد ذاته إحساس خاص يعتري المرء والتعبير عنه يختلف من شخص لآخر ومن شعب لشعب. ومن أجمل ما قرأت في هذا الشأن ما أورده الدكتور السوداني الراحل أحمد الطيب أحمد -العميد الأسبق لمعهد بخت الرضا- في كتاب «أصوات وحناجر»، والكتاب مجموعة مقالات تعد بحق قطعاً أدبية بالغة الروعة، وقد جمعها في كتاب «أصوات وحناجر» تلميذه المرحوم الأديب المعروف عثمان حسن أحمد، فليرحم الله الأستاذ وتلميذه وليجزهما بقدر ما أثريا الساحة الأدبية بفكرهما. المقالة بعنوان «أمي» كتبها الدكتور أحمد الطيب أحمد إثر تلقيه نبأ وفاة والدته وهو في إنجلترا في بداية الخمسينيات يعد لرسالة دكتوراه عن المسرح العربي، يذكر في جانب منها أنه لدى سماعه النبأ الأليم ارتاد إحدى دور السينما حيث شاهد فيلم «عربة اسمها الرغبة» عن قصة للروائي الأميركي تينسي ويليامز، ثم مضى ليقول في ما معناه: لقد استمتعت بالفيلم كثيراً وبكيت على أمي كثيراً. يستطرد بعد ذلك ليحكي لنا كيف أنه غادر دار السينما بعد نهاية العرض لا يلوي على شيء، حيث طفق يجوب شوارع لندن المظلمة الباردة على غير هدى، لا يحس برودة الصقيع وقسوة الزمهرير على وجهه. وهو هنا يضيف إلى خصوصية الحزن عدم ارتباطه بمكان معين. والشعوب الشرقية بوجه عام تعبر عن حزنها بأسلوب هستيري يفوق كل تصور، فيغيب العقل والمنطق ليفسحا المجال للعاطفة بكل عنفوانها وجنونها، والتي تقوم بدورها بتفجير مخزونها من الصراخ والعويل والتشنج. ونلمس هذا بوضوح عند فقد أحد القادة الكبار أو المشاهير (مثلما حدث عند إعلان وفاة جمال عبدالناصر وعبد الحليم حافظ حيث سجلت بعض حالات الانتحار وسط الشباب). بينما يكون الحال على النقيض تماماً في الغرب، حيث تلمح الحزن الوقور الهادئ والنابع من أن الموت حقيقة واقعة ومتوقعة في نفس الوقت، وبالتالي لا جدوى من التباكي وإهدار الوقت في ما لا طائل من ورائه، ومن هذا المنطلق ينشأ التفكير العملي المدروس لرأب الصدع الذي ترتب على هذا الحدث المتوقع سواء على الصعيد القومي أو الأسري. ولعل المرة الأولى التي تخلى فيها الغرب عن بعض تحفظه، ولا أقول كل تحفظه، في التعبير عن الحزن لفقد إنسان ما، كان ذلك عند مقتل أميرة (ويلز) في حادث السيارة الشهير. وحتى أكون أكثر دقة، فقد أبدى الغرب قبلها شعوراً مقارباً عند اغتيال اللورد (مونتباتن)-ابن العم الثاني للملكة إليزابيث الثانية- وأحفاده في أغسطس 1979م بواسطة الجيش الجمهوري الإيرلندي بوحشية أثارت الكثير من السخط والاستنكار العالمي. وإذا جاز لنا أن نستغرب كيف استطاع ذلك الحدث - مقتل ديانا - على تكرار حدوثه في كل بقعة في العالم، أن يجعل الغرب يخلع عباءة الوقار ويطلق العنان لمشاعر الحزن، لوجدنا أن السبب يعود بالدرجة الأولى إلى أن هذه الأميرة الأسطورية، التي وجدت طريقها إلى قلوب الناس سواء عن طريق القنوات الفضائية أو بواسطة أخبارها وصورها التي تصدرت الصحف والمجلات، قد نالت تعاطفاً لا مثيل له وهي تفتح قلبها للملايين من خلال الشاشة البلورية، مطْلعة إياهم على خبايا وأسرار حياتها الزوجية، وما أورثته لها من علل نفسية وجسدية، فيما دمعة أسى تترقرق على صفحة وجهها الجميل فتذيب قلوب ملايين المشاهدين لتنطلق ألسنتهم تلعن هذا الأمير الفج، قصير النظر، الذي لم يقدر هذا الجمال حق قدره وطفق يركض لاهثاً وراء امرأة تفتقر إلى الشباب والجمال، ناسين أو متناسين، تحت سلطان الانفعال العاطفي الوقتي، أن ليس بمقدور الجمال وحده إقامة حياة زوجية سوية. وتتمادى تلك الألسن في سخطها على الأمير فتحمّله وزر تخبط الأميرة في علاقات عاطفية متعددة ومن ثم نهايتها بتلك الطريقة المفجعة. وهكذا لم يكن أمام القصر الملكي إلا أن يمتص تلك الغضبة المضرية العالمية فيتغاضى عن بعض قواعد البروتوكول ليجاري الشعب والدولة في استحداث تلك الجنازة الأسطورية والتي خالفت كل مألوف لديهم. والمتأمل لمسلكنا، كسودانيين على وجه الخصوص، في التعبير عن حزننا عند فقد أحبائنا، لا يملك إلا أن يأخذه العجب ونحن الأمة المسلمة التي قال رسولها الكريم يوماً والموت ينتزع منه ابنه الحبيب إبراهيم: «إن العين لتدمع والقلب ليحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون». وللموت جلال وقدسية يعجز عن إدراكها العقل البشري. ويكفي أنه يخلق فينا هذه الشفافية الغريبة والتي تمتد لتشمل الموتى أنفسهم فنحس تجاههم بالحب الذي لا تشوبه شائبة من حقد أو ضغينة، وتتراءى لنا وجوههم دائماً وهي في أحسن حالاتها تفيض سماحة وطيبة وتشع ضياءً وابتساماً. ---------------------------------------------------- * عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ((كَانَ دَاوُدُ النَّبِيُّ فِيهِ غَيْرَةٌ شَدِيدَةٌ وَكَانَ إِذَا خَرَجَ أُغْلِقَتْ الْأَبْوَابُ فَلَمْ يَدْخُلْ عَلَى أَهْلِهِ أَحَدٌ حَتَّى يَرْجِعَ قَالَ: فَخَرَجَ ذَاتَ يَوْمٍ وَغُلِّقَتْ الدَّارُ فَأَقْبَلَتْ امْرَأَتُهُ تَطَّلِعُ إِلَى الدَّارِ، فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ وَسَطَ الدَّارِ. فَقَالَتْ لِمَنْ فِي الْبَيْتِ: مِنْ أَيْنَ دَخَلَ هَذَا الرَّجُلُ الدَّارَ وَالدَّارُ مُغْلَقَةٌ، وَاللَّهِ لَتُفْتَضَحُنَّ بِدَاوُدَ، فَجَاءَ دَاوُدُ فَإِذَا الرَّجُلُ قَائِمٌ وَسَطَ الدَّارِ فَقَالَ لَهُ دَاوُدُ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا الَّذِي لَا أَهَابُ الْمُلُوكَ وَلَا يَمْتَنِعُ مِنِّي شَيْءٌ. فَقَالَ دَاوُدُ: أَنْتَ وَاللَّهِ مَلَكُ الْمَوْتِ، فَمَرْحَبًا بِأَمْرِ اللَّهِ، فَرَمَلَ دَاوُدُ مَكَانَهُ حَيْثُ قُبِضَتْ رُوحُهُ ))