[email protected] في كتابه "أصوات وحناجر" أورد الأديب الراحل أحمد الطيب أحمد – العميد الأسبق لمعهد بخت الرضا – مقالاً بعنوان "أمي" وصف فيه حاله إثر تلقيه نبأ وفاة والدته في إنجلترا – في بداية خمسينيات القرن الماضي – وهو يعد لرسالة دكتوراه عن المسرح العربي، إذ يذكر في جانب من المقالة أنه لدى سماعه النبأ ارتاد إحدى دور السينما حيث شاهد فيلم "عربة اسمها الرغبة" عن قصة للروائي الأمريكي "تينسي وليامز" .. ثم مضى ليقول ما معناه : "لقد استمتعت بالفيلم كثيراً وبكيت على أمي كثيراً". يستطرد بعد ذلك ليحكي لنا كيف أنه غادر دار السينما بعد نهاية العرض لا يلوي على شيء حيث طفق يجوب شوارع لندن المظلمة الباردة على غير هدىً، لا يحس برودة الصقيع وقسوة الزمهرير على وجهه. ذلك الإحساس بالحزن المُمعِن في الخصوصية الذي مارسه الكاتب في دار السينما ولم ينس أن يصطحبه معه في شوارع لندن المظلمة الباردة يضيف إلى تلك الخصوصية في الحزن عدم ارتباطه بالمكان. وإذا كان الكثيرون يرفضون الكيفية التي تعامل بها الكاتب مع ذلك "الحدث المؤلم"، وإذا كانوا يرون في التعبير عن الحزن بتلك الطريقة ضرباً من الشذوذ والخروج عن المألوف ، فذلك لأننا قد تعودنا أن التعبير عن الحزن عند فقد الأحبة لا يتأتّى و"لا يُعتَرف به" إلا إذا صاحبه بكاء وعويل وتشنج وصراخ. وكل تلك المراسم الهستيرية تُمارَس في ساحات تعج بالمعزّين وبعدها ينتهي كل شيء إلا من غلالة حزن تلف أصحاب الشأن، وتواصل الحياة مسيرتها. أعود إلى موضوع الخصوصية في الحزن فأجدني ذات ليلة في بقعة ما من ذلك العالم الفسيح وأمامي صينية عشاء، ولسببٍ غير معروف حولت جهاز "الريموت" إلى قناة "النيل الأزرق" ... كانت القناة تبث الاحتفال بإعلان أسماء الفائزين بالدورة الثانية ل"جائزة غادة للكتّاب المبدعين من الشباب" . كانت "غادة" - صاحبة الصورة المعلقة على الجدار- تفرض حضوراً طاغياً وكثيفاً وسط جمهور الحضور .. حضوراً مبعثه تلك الابتسامة الملائكية التي اكسبت عينيها بريقاً ولمعاناً .. وأضفت على صفحة وجهها توهجاً وألقاً.. وملأت القاعة ضياءً ونوراً. وفي لحظة شديدة الخصوصية علِقت تلك "اللقمة " في حلقي .. حاصرتها تلك الغصة لبرهة خلتها دهراً قبل أن تفك إسارها وتغرقني في بحر من الملوحة وقد تقرحت مني العينان. إن فراق الأبناء قطعة من نار .. وتعامل الوالدين مع ذلك الامتحان يتباين تبايناً ملحوظاً فهناك من يورثه ذلك "الامتحان" حالةً من السلبية فيتقوقع على نفسه ويهجر الحياة والناس، ومنهم من يضع نظارةً سوداء فلا يرى من خلالها سوى ليلٍ مدلهِم لا يعقبه صبح .. ومنهم من أسبغ على حزنه تلك الخصوصية فأودعه مكنونه وحفر له عميقاً في بواطنه . ولعل والدي تلك الطفلة من النوع الثالث .. ولعل معايشتهما اللصيقة بها قد أتاحت لهما أكثر من غيرهم – مع التسليم بأن الكل قد أجمع على تفرد تلك "الغادة" – ملامسة تلك الخاصية التي تتمتع بها طفلتهما والتي لا تقتصر على النبوغ الأكاديمي والمعرفي والفكري ما مكّنها من التوغل في كتابات وأفكار تخطت بها سنوات عمرها القصير، بل وقفزت بها من فوق أسوار كتابات الناضجين من الكُتّاب .. ولعلهما أيضاً قد أيقنا قبلاً أن "غادتهما" بنقائها وصفاء روحها ونفسها النزّاعة إلى الخير لن يطول بها المقام في عالمٍ متخمٍ بالشرور والآثام، فرأيا أن يرقيا إلى مقام تلك الطفلة غير العادية، ويحفظا لحزنهما خصوصيته .. ومنذ تلك اللحظة بدأت أولى خطوات مشروع "جائزة غادة للكتّاب المبدعين من الشباب".