عبدالله مكاوي [email protected] كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن صعود تيارات الإسلام السياسي والقبول الذي تجده من قبل الجماهير بصورة أصبحت كالظاهرة لدرجة يمكن اعتبارها أنها الوريث الأوفر حظاً للثورات العربية الحديثة و أسباب صعود هذه التيارات في اعتقادي متعددة و متداخلة و معقدة بتعقيد دوافع الأفراد الداعمين لهذه التيارات ويصعب إرجاعها لعامل واحد او عاملين ولكن يمكن إرجاعها للجانب او الزاوية التي ينظر من خلالها الدارس او المهتم او المتابع لصعود هذه التيارات وعموماً انا لدي اعتقاد ان هنالك عامل أساسي لعب دور مؤثر في هذا الصعود بالتداخل مع العوامل الأخرى الا و هو الفضاء الحضاري الذي نشأت فيه هذه التيارات خاصة و ان الدين يمثل احد الأعمدة الرئيسية المكونة لهذا الفضاء و هي استغلت هذا العامل بذكاء و نجاح منقطع النظير و مثلت شعارات الإسلام السياسي الوجه الآخر للشعور الجمعي والرغبات النفسية و الماضي المثالي و ذكريات الريادة و التفوق الغائبة آنياً. خاصة وان هذا الفضاء استغل فترات طويلة بواسطة أنظمة وحكام مستبدين كرسوا سلطاتهم لقمع الرأي الآخر و محاربة أي بوادر للخلاص بقسوة شديدة بعد ان سيطروا علي التعليم و الإعلام و وسائل كسب العيش، لتعيش اغلب قطاعات الشعب تحت رحمة نير استبدادهم وقهرهم، لتبتعد عن مراكز التنوير(جامعات،إعلام جاد،الاحزاب السياسية, منظمات مجتمع مدني او تعلم لغات اجنبية للتواصل مع الاخر او غيرها) وذلك بسبب قصر ذات اليد او عدم الرغبة او الخوف او الحرص علي السلامة الشخصية و شكلت هذه القطاعات المستودع الضخم الذي يغذي حركات الاسلام السياسي بالدعم وهي تحاصره في واقعه التعيس بتقديم الخدمات الاجتماعية واستغلال المساجد للتبشير ببرامجها و رؤاها و هي تضخم تضحياتها في ذهنه وتبشره بالخلاص علي يديها الطاهرتين و في نفس الوقت وبطريقة منهجية عملت علي تغبيش وتشويه صورة التيارات الحديثة(ليبرالية و علمانية و يسارية ونرمز لها بلعس) في أذهان هذه القطاعات خاصة بعد المسخ المشوه الذي قدمته الدكتاتوريات وهي تتبني شعارات هذه التيارات. والجانب الآخر الذي ساعد علي صعود تيارات الاسلام السياسي هو الضعف الذي تعاني منه (لعس) وذلك نتيجة لا سباب ذاتية تخص (لعس) وتشمل النخبوية التي ميزت(لعس) وعدم قدرتها علي تبسيط مفاهيمها و الوصول بها للقطاعات المذكورة سابقاً و بتعبير آخر معالجة هذه المفاهيم لتتكيّف مع البيئة و الفضاء المحلي و بالتالي قدرتها علي النمو و الإثمار لفائدة الجميع و ليشعر المواطن بأنها تمثل جزء من تكوينه وتعبر عن تطلعاته بدلاً من الشعور بأنها أجسام غريبة تستدعي حضور الأجسام المضادة المتمثلة في الرفض و الشك وعدم الاطمئنان كوسائل حماية و الهروب والارتماء في حضن الاسلام السياسي الذي ظاهره الرحمة و باطنه العذاب ، و مثلت الجماعات المتطرفة في (لعس) الصورة الاكثر قتامة و هي تحتكر تفسير المفاهيم وتعتبرها حق حصري يخصها وحدها ودلالة تميز تتفرد به غير مكترثة للدين وأهميته في الوسط الذي تعمل فيه ولتعتلي صخرة تميزها وتوزع صكوك التقدمية للتيار الفلاني و فرمانات الرجعية للجماعة العلانية لتزداد تيه في عزلتها المجيدة وابتعادها عن الجمهور المستهدف صاحب الحق الاصيل في الاختيار ليقع فريسة سهلة لفك حركات الاسلام السياسي. و هنالك جانب موضوعي حجم حركة (لعس) واعاق نموها الطبيعي ويتمثل في حكومات الاستبداد المسيطرة و الاضطهاد الذي واجهة به(لعس) و حرمتها أدوات التأثير و التغير كالإعلام والتعليم والحريات العامة ويقول المفكر والمناضل فرانز فانون ( الزعيم (الاستبداد) يغمض عينيه عن وقاحة البورجوازيين. يقيم حاجزاً بين الشعب والبورجوازية الجشعة، لأنه يحمي أعمال هذه الفئة... ان الزعيم يساهم في لجم وعي الشعب، ويصبح من أشد العاملين حماسة في تضليل الجماهير وتخديرها (إعلام حديث في خدمته)... في وسعنا ان نقول ان الزعيم يوقف سير الشعب موضوعياً ويعمل جاهداً إما على طرده من التاريخ وإما على منعه من دخول التاريخ... انه يضاعف جهوده من أجل تخدير الشعب وتنويمه) كلمة الاستبداد من عندي . ولدينا في السودان تجربة مثلت تحدي حقيقي لتيارات الاسلام السياسي وهي تجربة الاخوان الجمهوريين وهي تنطلق من نفس الفضاء وتستصحب معها الدين بما يحمله من قيم اخلاقية وطاقات روحية ومساحة تسامح خاصة في نسخته الصوفية التي ألفها اكبر قطاع من المواطنين وتعايش معها منذ فترة طويلة وشكلت جزء اساسي من مساحة التسامح وقبول الآخر التي يتمتع بها وبالتالي منافسة تيار الاسلام السياسي في نفس ملعبه وبلعيبة وخطط ومنهج افضل منهم كل ذلك شكل خطورة كبيرة علي تيار الاسلام السياسي وحرك لديها غريزة البقاء مما دفعها للتخلص من خصمها بالتصفية الجسدية لزعيمها الشهيد محمود محمد طه في واحدة من اسوأ جرائم التاريخ الانساني وتهديد وتشتيت بقية اتباعه واتهامهم بالخروج من الملة وتشويه صورتهم ورمي الفكرة الجمهورية بكل منكر ونعتها بأسوأ الالفاظ والنعوت بالاضافة لاشتراكهم مع (لعس) في نفس ظروف الاستبداد بكل ما يحمله ذلك من قفل قنوات ومنافذ الابداع وانعدام مساحات حرية الفكر والقدرة علي تحويل الافكار لواقع والاستفادة من الاخطاء، ولكن هنالك جانب آخر خاص بالجمهوريين أنفسهم حد من انطلاقتهم وجعل الفكرة الجمهورية معلقة في سماء خدرها وحيائها ولم تتعرض عذريتها لانتهاك الواقع الشرس واصبحت تتغذي علي اخطاء الاسلام السياسي وتمثل هذا الجانب في ارتباط الفكرة الجمهورية بالاستاذ محمود وبما يملكه من ذكاء وقاد وقدرة فذة علي إستيلاد الأفكار وذاكرة موسوعية وإلمام بالتراث والحداثة والانتاج الغذير والاحاطة والرؤية الشاملة والكاريزمة الطاغية لذلك مثل موته الفاجع نكبة للجمهوريين والفكرة وجعل تراث الاستاذ محمود كالمعبد الذي يجب عليهم حمايته واعتبار الفكرة مشروع متكامل وتم التعامل معها بحساسية عالية وحذر شديد ولذلك لم يخضع تراث الأستاذ محمود للنقد من قبل الجمهوريين واعتباره الاساس الذي يجب البناء عليه ومن ثم الانطلاق وتجاوزه اذا استدعت الضرورة والاستفادة من منجزات الحداثة في الفكر والنقد وغيرها من المجالات ونقصد بذلك تنزيل الفكرة الجمهورية لبرامج سياسية وأضحت القسمات لها رؤيتها المحددة في طريقة الحكم والاقتصاد والتعليم والعلاقات الخارجية وإدارة التنوع وتحديد الاولويات وغيرها من المجالات والاشتباك مع الواقع الفعلي والسعي لحل التناقضات التي يفرضها الواقع العنيد علي النظرية يقول الكاتب النابه بابكر فيصل بابكر(الحق يقال أنَّ الإخوة الجمهوريين يتمتعون بقدرٍ عال من الثقافة وينطلقون من فهم ديني متطوِّر, ولكن الملاحظ أنَّ فكرهم السياسي يٌعاني من نقطة ضعف رئيسية وخلل كبير يتمثل في عدم حسم عدد كبير منهم للموقف من قضية الديموقراطية بصورة واضحة. ويبدو لي أنّ مسيرةَ مساجلاتهم و مواجهاتهم مع الأفكار الدينية المطروحة في الساحة خلقت لديهم موقفاً ضبابياً من قضية الديموقراطية, بحيث أصبح عداءهم للقوى \"الطائفية\" يشكل أولوية على مطالبتهم بذهاب الإستبداد والشمولية. وقد سألتُ الدكتور عبد الله النعيم قبل عدة أشهر عقب محاضرة ألقاها بمدينة دينفر عن هذا التناقض فأجابني أجابة واضحة : الطائفية أخطر على الناس من العساكر.) أحدث هذا الغياب فراغ عريض تم شغله بواسطة تيارات الاسلام السياسي لتمدد رجليها بكل ارتياح. ولا يعني ذلك هضم حقوق الذين اجتهدوا وقدموا الأفكار والتضحيات في حدود المتاح من(لعس) والجمهوريين وغيرهم ولكن المحصلة كانت ضعيفة وعجزت عن احداث اختراق حقيقي للعقل الجمعي للغالبية العظمي التي تدعم تيارات الاسلام السياسي لتأتي نتائج الانتخابات في الدول التي أنجزت ثوراتها بتصدر تيارات الاسلام السياسي للمشهد السياسي مما يعني إعادة النظر في المشاريع المطروحة من قبل الجميع وتجديد الوسائل ومحاولة الاقتراب من الجماهير وتلمس نبضها ومعرفة همومها واحتياجاتها الفعلية غير المتوهمة (التي يجري نقاشها داخل دوائر النخب المغلقة والمعزولة عن نبض الجماهير) وطرح افضل الحلول والبرامج التي تناسبها أي ان الانطلاق يكون منها وجعلها بوصلة للبرامج وليس العكس،والقبول بنتائج العملية الانتخابية ودعم التجربة الديمقراطية والمحافظة عليها واخذ الحيطة والحذر من استغلال تيارات الاسلام السياسي لظروف انتصاراتها الحالية والتكريس لدكتاتورية متوسدة الديمقراطية ومرتدية العباءة الاسلامية لتعيد انتاج ازمات السودان وافغانستان وايران وتقديم صورة مشوهه للإسلام اولاً وللحكم ثانياً وتعليق كل الاخطاء علي شماعات القدر والاستهداف والامبريالية وتبرير الفساد والسقوط المريع بأعذار واهية وبالرغم من التطمينات التي تبذلها تيارات الاسلام السياسي إلا ان الخوف منها امر مبرر خاصة وهي تستبطن رؤية أيديولوجية مثالية حالمة وأسطورية لحل المشاكل والعقبات (الارضية) بالإضافة لتمتعها بعقلية نفعية وانتقائية في تعاملها مع النصوص الدينية و منجزات الحضارة الحديثة و هي لا تعدم الفتاوى وأساليب لي عنق الحقائق للمحافظة علي امتيازاتها والديمومة في الحكم. يشعر الكثيرون بالقلق من وصول تيارات الاسلام السياسي للحكم وأنا أري عكس ذلك، بل وأشجع وصولها للسلطة تحت ضمانات ورقابة التيارات الاخري في المجتمع لان السلطة تمثل مأزق حقيقي لهذه التيارات وبداية نهايتها، لأنها تضعها امام خيارين اما ان تعلم طبيعة تعقيدات الحكم لتحقيق تطلعات اكبر قدر من شرائح المجتمع وفهم طبيعة العلاقات الدولية وتشابك المصالح وان تكتسب مرونة وتقدم تنازلات مذلة لشعاراتها الغير واقعية وكل ذلك يقود لانفضاض أنصارها من حولها ودخولها في أزمة مع إتباعها وسندها الذين ضللتهم بشعاراتها الحالمة و اما الخيار الآخر وهو الأسوأ وهو تمسكها بشعاراتها المثالية والبعيدة عن الواقع وبالتالي السير عكس مجري التاريخ وتعرض نفسها وشعبها لتجارب مريرة وتتخلف عن ركب العصر والتقدم وتدخل في حالة حرب مع طواحين الهواء وتبدأ اسطوانة التبريرات الفجة والمكررة للأخطاء في الدوران والتي تقع نتائجها الكارثية علي راس المواطن فقط اما الحاكم فهو معصوم من الضرر لتتراكم ألازمات وتخرج الشعوب مرة أخري مطالبة بإسقاط النظام وويل لحكومات عرفت شعوبها طريق الخلاص .