التحية لعبدالقادر كرف ... ملكة الدار ... و .. حجاز مدثر بدور عبدالمنعم عبداللطيف [email protected] عاد إبني الصغير- وكان وقتها في العاشرة من عمره- ذات يوم من المدرسة على غير العادة ساهماً قليل الكلام، وعندما حاورته لأعرف منه إن كان قد حدث خلال اليوم الدراسي ما ضايقه انفجر بمرارة، وخيبة الأمل ترتسم على وجهه قائلاً: ((كنت أريد أن أسهب في كتابة موضوع الإنشاء ولكن المعلمة قالت لي لا تكتب كثيراً حتى لا تخطئ، كما طلبت مني ألا أتعدى النقاط التي تمليها علينا وقد كنت في العام الماضي أكتب بحرية وكانت المعلمة الأخرى تشجعني وتقرأ موضوعى على الصف وتقدم لي هدية قطعة حلوى أو قلماً أو..)) واختنق صوته وانهمرت الدموعٍٍ من عينيه لتلسعني وأنا أشهد بأم عيني بذرة تبشر بعظيم العطاء يُهال عليها التراب ويُصادر عنها الماء فتلفظ أنفاسها- واحسرتاه – قبل أن ترى النور. وعلى طريقة ((الفلاش باك)) في السينما وجدتني أطالع طفلة صغيرة في مثل عمر ابني تقرأ بنهم شديد كل ما يقع تحت يدها بدءاً من مجلات الأطفال وكتبهم وانتهاءً بالصحف اليومية ، كما يفعل ذلك الصغير بالضبط، وتتطور تلك الهواية حتى تغدو ضرباً من الاسترخاء والسكينة والمتعة للنفس، في الوقت الذي يقوم فيه العقل الصغير بفهم واختزان ما تسمح به طاقته.وفي حصة الإنشاء أو التعبير الحر كانت العبارات والكلمات تتدفق كالنيل العظيم في أوج عطائه حتى لتعجز اليد الصغيرة عن مجاراة سيل الكلمات المنهمر. وتُجمع الدفاتر وقد حوت صفحاتها عُصارة وجدان وعقول التلميذات الصغيرات دون هيمنة أو قمع أو تحديد قوالب معينة للكتابة، ففي ذلك الوقت ما كان يدور بخلد المعلم أن يفعل ذلك تهرباً من عناء التصحيح أو كثرة الخطأ، وذلك لأنه – أي المعلم – عندما اختار مجال تدريس اللغة العربية كان دافعه الحب والعشق لهذه اللغة، فهو أديب بطبعه يتذوق الشعر والنثر ويكتبه. ويوم توزيع الدفاتركان يوماً مشهوداً حيث تلتهب الأكف الصغيرة بالتصفيق وتُقرأ الموضوعات الجيدة، ولا يقف الأمر عند هذا الحد فكثيراً ما كانت الطفلة الصغيرة تُستَدعى لمكتب مدير المدرسة لتُفاجأ بوالدها وقد أمسك بدفترها باسماً والمعلم يهنئه حاثاً إياه على رعاية الموهبة المبشرة. ورغماً عني تقفز إلى الخاطر صورة لوجه داكن السمرة رُسمت على جانبيه بعناية بالغة خطوط طولية (شلوخ) .. وجه تُطل منه عينان ما أن تنظر إليهما بُرهة حتى يعتريك إحساس غريب هو مزيج من الشفافية ورهافة الحس والطمأنينة. إنها المعلمة الأولى ((ملكة الدار محمد)) التي أرضعتني ورفيقاتي عشق اللغة العربية، حببت إلينا اللغة شعرها ونثرها، لأن ((ملكة الدار)) قبل أن تكون معلمة كانت قاصة بارعة وروائية عظيمة في زمن اُعتبِر فيه تعليم المرأة، ناهيك عن طرقها مجال الكتابة، ضرباً من الخروج على التقاليد. نالت جائزة القصة القصيرة في أواخر الأربعينيات، وغادرت دنيانا قبل أن تشهد مولد الضجة التي أحدثتها روايتها ((الفراغ العريض)) والتي صدرت بعد استقلال السودان عام 1956، فقد أحدثت الرواية في أوساط النقاد في السبعينيات والثمانينيات ضجة باعتبارها في مقدمة أهم الروايات التي صدرت في ذلك الوقت. ويجرفني سيل الذكريات إلى المرحلة الثانوية فأجدني وزميلاتي مشدودات بقوة سحرية عجيبة إلى ذلك الصوت المعبِّر يحملنا على صهوة جواد أبي الطيب المتنبي ويجوس بنا عبر دهاليز نفسية ذلك الشاعر الخالد، نتحسس آلامه وآماله وطموحاته، يأسر نفوسنا إباؤه وشممه واعتزازه بنفسه. تلهب خيالنا شخصية سيف الدولة الحمداني كرمز للشجاعة والشهامة والكرم وقد صاغها المتنبي من أروع الدرر. ذلكم هو صوت المعلم (( محمد حجاز مدثر)) الذي ما اقتصر عطاؤه على تلامذته فحسب، بل تعداه إلى شعب السودان بأسره حيث كان وجهه يطل عبر شاشة التليفزيون مساء كل يوم جمعة في عرض ودراسة شيقة لكل المدائح النبوية التي تعرضت لخصال الرسول الكريم، كما كان المذياع يبث له أيضاً برنامجاً أدبياً يقدم فيه قصائد منتقاة من عيون الأدب العربي متناولاً إياها بالتحليل والشرح والدراسة المستفيضة. وفي يوم حزين من أيام عام 1985 وقعت عيناي على أسطر قليلة في صحيفة ((الاتحاد)) تنعي الأستاذ الجليل كواحد من أدباء السودان فترحمت عليه في غربتي، وحبست دمعة كادت تطفر من مقلتي معزية النفس بأن أمثال هؤلاء لا يموتون. ثم وأنا أمضي العطلة الصيفية بالسودان في عام 1989 توقف الإرسال التلفزيوني لينعي وزير الإعلام للشعب السوداني فقيد العلم والأدب الشاعر السوداني ((محمد عبد القادر كرف)) والمعلم الفذ الذي تتلمذ على يديه الآلاف، فأجدني أترحم عليه وأتذكر تلك الأيام الخوالي التي وقف فيها ذلك العملاق يفك لنا بأناة وصبر طلاسم المعلقات السبع ويطوّع كلماتها في سهولة ويسر فتعيش معه المجد العربي بكل عظمته وشموخه. أمثال اولئك الخالدين غادرونا في هدوء وهم على يقين من أنهم قد تركوا بصماتهم في عقول و نفوس تلاميذهم العديدين، فقد حفظوا شرف المهنة وحملوا راية العلم بكل الصدق والتجرد وإنكار الذات.