حادثت محمد محمد خير!!    هل محمد خير جدل التعين واحقاد الطامعين!!    دقلو أبو بريص    أكثر من 80 "مرتزقا" كولومبيا قاتلوا مع مليشيا الدعم السريع خلال هجومها على الفاشر    كامل إدريس يلتقي الناظر ترك ويدعو القيادات الأهلية بشرق السودان للمساهمة في الاستشفاء الوطني    شاهد بالفيديو.. بلة جابر: (ضحيتي بنفسي في ود مدني وتعرضت للإنذار من أجل المحترف الضجة وارغو والرئيس جمال الوالي)    حملة في السودان على تجار العملة    اتحاد جدة يحسم قضية التعاقد مع فينيسيوس    إيه الدنيا غير لمّة ناس في خير .. أو ساعة حُزُن ..!    من اختار صقور الجديان في الشان... رؤية فنية أم موازنات إدارية؟    المنتخب المدرسي السوداني يخسر من نظيره العاجي وينافس علي المركز الثالث    الاتحاد السوداني يصدر خريطة الموسم الرياضي 2025م – 2026م    إعلان خارطة الموسم الرياضي في السودان    غنوا للصحافة… وانصتوا لندائها    ترتيبات في السودان بشأن خطوة تّجاه جوبا    توضيح من نادي المريخ    حرام شرعًا.. حملة ضد جبّادات الكهرباء في كسلا    تحديث جديد من أبل لهواتف iPhone يتضمن 29 إصلاحاً أمنياً    شاهد بالفيديو.. بأزياء مثيرة وعلى أنغام "ولا يا ولا".. الفنانة عشة الجبل تظهر حافية القدمين في "كليب" جديد من شاطئ البحر وساخرون: (جواهر برو ماكس)    امرأة على رأس قيادة بنك الخرطوم..!!    ميسي يستعد لحسم مستقبله مع إنتر ميامي    تقرير يكشف كواليس انهيار الرباعية وفشل اجتماع "إنقاذ" السودان؟    محمد عبدالقادر يكتب: بالتفصيل.. أسرار طريقة اختيار وزراء "حكومة الأمل"..    وحدة الانقاذ البري بالدفاع المدني تنجح في إنتشال طفل حديث الولادة من داخل مرحاض في بالإسكان الثورة 75 بولاية الخرطوم    "تشات جي بي تي" يتلاعب بالبشر .. اجتاز اختبار "أنا لست روبوتا" بنجاح !    "الحبيبة الافتراضية".. دراسة تكشف مخاطر اعتماد المراهقين على الذكاء الاصطناعي    الخرطوم تحت رحمة السلاح.. فوضى أمنية تهدد حياة المدنيين    المصرف المركزي في الإمارات يلغي ترخيص "النهدي للصرافة"    أول أزمة بين ريال مدريد ورابطة الدوري الإسباني    أنقذ المئات.. تفاصيل "الوفاة البطولية" لضحية حفل محمد رمضان    بزشكيان يحذِّر من أزمة مياه وشيكة في إيران    لجنة أمن ولاية الخرطوم تقرر حصر وتصنيف المضبوطات تمهيداً لإعادتها لأصحابها    انتظام النوم أهم من عدد ساعاته.. دراسة تكشف المخاطر    مصانع أدوية تبدأ العمل في الخرطوم    خبر صادم في أمدرمان    اقتسام السلطة واحتساب الشعب    شاهد بالصورة والفيديو.. ماذا قالت السلطانة هدى عربي عن "الدولة"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنان والممثل أحمد الجقر "يعوس" القراصة ويجهز "الملوحة" ببورتسودان وساخرون: (موهبة جديدة تضاف لقائمة مواهبك الغير موجودة)    شاهد بالفيديو.. منها صور زواجه وأخرى مع رئيس أركان الجيش.. العثور على إلبوم صور تذكارية لقائد الدعم السريع "حميدتي" داخل منزله بالخرطوم    إلى بُرمة المهدية ودقلو التيجانية وابراهيم الختمية    رحيل "رجل الظلّ" في الدراما المصرية... لطفي لبيب يودّع مسرح الحياة    زيادة راس المال الاسمي لبنك امدرمان الوطني الي 50 مليار جنيه سوداني    وفاة 18 مهاجرًا وفقدان 50 بعد غرق قارب شرق ليبيا    احتجاجات لمرضى الكٌلى ببورتسودان    السيسي لترامب: ضع كل جهدك لإنهاء حرب غزة    تقرير يسلّط الضوء على تفاصيل جديدة بشأن حظر واتساب في السودان    استعانت بصورة حسناء مغربية وأدعت أنها قبطية أمدرمانية.. "منيرة مجدي" قصة فتاة سودانية خدعت نشطاء بارزين وعدد كبير من الشباب ووجدت دعم غير مسبوق ونالت شهرة واسعة    مقتل شاب ب 4 رصاصات على يد فرد من الجيش بالدويم    دقة ضوابط استخراج أو تجديد رخصة القيادة مفخرة لكل سوداني    أفريقيا ومحلها في خارطة الأمن السيبراني العالمي    الشمالية ونهر النيل أوضاع إنسانية مقلقة.. جرائم وقطوعات كهرباء وطرد نازحين    شرطة البحر الأحمر توضح ملابسات حادثة إطلاق نار أمام مستشفى عثمان دقنة ببورتسودان    السودان.. مجمّع الفقه الإسلامي ينعي"العلامة"    ترامب: "كوكاكولا" وافقت .. منذ اليوم سيصنعون مشروبهم حسب "وصفتي" !    بتوجيه من وزير الدفاع.. فريق طبي سعودي يجري عملية دقيقة لطفلة سودانية    نمط حياة يقلل من خطر الوفاة المبكرة بنسبة 40%    عَودة شريف    لماذا نستغفر 3 مرات بعد التسليم من الصلاة .. احرص عليه باستمرار    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أحلام .. قمرٌ، بقرٌ، كلبٌ وغائط
نشر في الراكوبة يوم 30 - 01 - 2012


7- فوق الأحمر .. تحت البنفسج
الله يقطع اللوبا العَفِن !
قلتُ في نفسي متأفِفاً ومحرجاً من أحلام الصغيرة التى ما انفكت ، كلما حزَب أمرٌ ، أيقظتنى ، سآءلتني وزرزرتني ثمّ أنطلقت جاريةً خارج غرفة نومنا ، غرفة الجالوص الوحيدة في بيتنا ، لتعود وتقف منشحطةً أمامي كالديدبان وقبضةُ يمناها مبسوطة في وجهي ممتلئةً بالتراب مغروز فيه ثلاث قشات ، أعرف ضمناً أنّ واحدة منها مبتلٌ أسفلها المدفون في ذلك التراب ، وكنتُ دائماً ، لسوء حظي ، ما أختار القشة اللينة فأوخذ بالجرم المشهود وقد كانت تلك هي طريقتها الحاسمة لوقف بيانات الإنكار والحلائف المغلظة منّا نحن ساكنى هذا البيت الجديب ، فبواحدة من تلك القشات تقصمُ ظهر المُنكِر، فلا يجد بداً من الاستسلام لتهمة أنه ، ولا أحدٌ سواهُ ، من عكّر صفو الأجواء الحالمة في أبهاء ذلك القبو المسمى غرفة . برطمتُ ، وكفُّ أحلام الصغيرة مبسوطة أمام عيني بالتحدي أن أسحب قشة ورفٌّ من الذباب يحطُ على مخاطٍ سائلٍ من أنفها ، سحبتُه بلسانها ، منتشيةً ، وقالت : الما بشيل قشّة . من الأرِض ينقشَّه .. برطمتُ : الله يقطع اللوبا العَفِن .
أذكر أنني حين دخلتُ البيت ، بعد ظهر هذا اليوم ، مرهقاً بعد واحدة من أخيَب طلعات البحث عن عمل ،وجدتُ أحلاماً ، زوجتي ، تضربُ بالمفراكة على راحة يدها اليمنى لتتذوّق طعم المُلاح الفائر، صحتُ ممتعضاً حين شممتُ الرائحة : لوبا ! تاني .. كل يوم لوبا ! لم تُجهد ، أحلام ، نفسها في الرد علىِّ .. سحبت حمالة فستانها اليسرى لأعلى ولمّت أطراف ثوبها بين فخذيها شبه العاريين ، وانخرطت تفرك بكلتا يديها وفقاقيع اللوبيا تتطاير وتنفجرُ في الهواء ، ثمّ رفعت رأسها نحوي و قالت ببرود : لوبا ! وإنتَ بتقدر تجيب شنو غير اللوبا .. أحمد ربّك . غاص صوتها عميقاً في كبدي كنصل . هكذا دأبها مُذ تحنظل طعم زواجنا غِبَّ اصطدام مكوك رومانسيتنا بمجرّة الواقع الخرشاء ، ثمّ ما كان من أمر فصلي عن العمل لصالح الدولة العام ، والصغيرة أحلام ، بعدُ ، في الرضاع ، وما نتج عن ذلك من بطالةٍ استطالت ولم أجد لها حلاً سوى أن أبيع قوة عملي باليومية فأصيبُ يوماً وأخيبُ أيام كما خبتُ هذا اليوم . أحمِد ربّك .. قالت . غمغمتُ وسكتُّ ثمَّ طعِمتُ بربور تلك اللوبيا في وقتٍ لا هو فطور ولا هو غداء ، طعِمتُ ونمتُ مخنوقاًً . نمتُ في كتمة ما بعد الواحدة ظهراًً ،والنوم ، كما تقول جدّتي نور الشام ، يجيب اللوم ، فماذا لو كان نوماً في أعقاب وجبة لوبيا عفِن ورحلة بحثٍ خائبة عن عمل ! نمتُ حتى أيقظتني الصغيرة أحلام باسطة ، إليَّ ، كفها بحفنة التراب والقشّات فيه منتصباتٍ كرؤوس صواريخ توشك أن تنقضَّ عليَّ فرفضتُ أن أسحب أية قشة من تلك القشات خشية أن يثبت عليَّ الجرم . انقلبتُ على يميني مولياً إياهنَّ ظهري ثمّ رحتُ ، متوتّراً ومستبطناً ، أرقبُ قناتي الهضمية من أعلاها إلي أدناها أترصَّدُ حركة الهواء في مصراني الغليظ ، كبير أخوانه ، تنسابُ بزوبعةٍ مزلزلةٍ فأتحفّز وأوشك أن أدخل يدي في جوفي لأوقف ذلك العبث المغيظ.. تتوثّب خلايا جسدي كلها فيجري الهواءُ محدثاً فرقعاتٍ مكتوماتٍ ما بين طرف المصران الأعور وأبظرّاط . خالتي ستنا بت حقَّ الله حين تضحك بعد وجبة لوبا عِفن تقول متشكيةً: أحَّيْ يا أبظرّاطي . أما أنا فأُغمغِمُ ، و لا أفتأ ، متظاهراً بالنوم : الله يقطع اللوبا العِفن . أغمغِمُ وألعنُ ، حيث لا مَلعَن، كل ما يخطر بالبال وأظنه متسبباً في هذه البانوراما التعيسة : لعنتُ حالي ومآلي ، لعنتُ شهادة الجامعة واليوم الذي دخلتها فيه.. لعنتُ الدولة ، ثمّ لعنتُ الحرَّ ، بالذات ، سيما وأنّ ظل راكوبة بيتنا صار من فرط سلت القشات وذاريات الريح ضحضاحاً لا يستظلّ به في هجير السافنا القائظ ، لعنتُ لعنتُ وبقيت على حالتي تلك أتقلّب وأدافع هُوج الرياح في قناتي الهضمية : أقبض أدناها فتندفع لأعلاها حتى أُزمُّ فينطبق حجابي الحاجز ورئتاي بحلقي فأعود لأقبضُ أعلاها فتنسابُ الرياح مهتاجةً لأدناها حتى أنني استطعتُ بصعوبة من استرداد أنفاسي الضائعة جراء ذلك اللهاث وتمكّنتُ أيضاً خلل تنهيدةٍ مكروبةٍ من دس فرمالتي : الله يقطع اللوبا العَفِن !
حين لم يكن بُدٌ من المدافعة نهضتُ وحملتُ الإبريق خارجاً للخلاء ، وذلك تفادياً للإختناق ، فالمرحاضُ لا تُطاقُ رائحته في كتمة ما بعد الواحدة ظهراً حيث تخرجُ أبخرة الأمونيا وروائحٌ ككبريتيد الهيدروجين تتصاعدُ حتى تضيق الأرضُ بجنادب أم قُرمبع فتخرج مهتاجةً تتسلّقك بينما أنت على قرفصاءٍ قلقةٍ جالسٌ بين ريحين يكاد ضغطهما يهصرك ... لا ، لا ، قلتُ لنفسي ، لا بد من الخلاء فهو خيرٌ من الرفيق الفَسِل . الحرُّ شديد ، أي نعم ، وجدي جُبارة كثيراً ما كان يردد : خرية في ضُل ولا أكلة في حر. لكن المرحاض لا يطاق . خرجتُ تتبعني الصغيرة أحلام باسطة راحة كفها مترنّمة بذلك اللحن المغيظ : الما بشيل قشة .. من الأرِضْ ينقشه . الما بشيل قشّة .. من الأرِضْ إنقّشَه . أسرعتُ الخطىَ مبتعداً أمشي متحفّزاً لكأنني الصاروخ يوشك أن ينقذف في الفضاء .. أمشي وصوتها يأتيني متقطّعاً : الما بشيل قشّه .. من الأرِضْ إنقْشّة .. الما بشي .. مشيتُ حتى أتيتُ الخلاء مما يلي بيوتنا : أدغالٌ متناثرة لا تستر من حر: شي كِتر ، شي سِدر ، شي طندُب وشي لعوت ، قصدتُ إحداها وهممتُ بالجلوس فسمعتُ خشخشةً .. انقبض قلبي ، نهضتُ مرعوباً ، قلتُ في نفسى : هنا تكثر سحالي الملجة الملساء الصغيرة يهيِّجها الحرُّ فتلج الدُّبر خلسة. عبد العاطي جارنا بقيت الملجة في بطنه عشرين عاماً تمخر مصرانه وهو يتلوى . ما خرجت ، مقطوعة الطاري ، ورهطها المتكاثر ، إلا بعد أن شرب سطل كيروسين حامٍ . هه .. ملجة ! جابت ليها ملجة كمان! واللهِ يا هو الفضَل ..هِي ناقصة!! غمغمتُ . نهضتُ ومشيتُ . ظللتُ أمشي ، أمشي والأرضُ تترى والبلدان وكذا الإنسان : شي زرقان ، شي بُيضان ، شي سودان ، ثمّ أفغان وتركمانستان وحمران ، أمشي وأدافع هواء بطنى فيدفعنى إلي مسيرٍ أغذُّ فيه الخطىَ وأمشي كأنني أطفو .. لو رآني أرخميدس لوجد ضالته بلا عنت ، فها أنا أمشي كمن يطفو ، كلما امتلأت بطني بفقاقيع اللوبيا خفّ وزني فأسير كمن يطير . الشجر يجري عكسي وكذا الأرض والسماء حتى انبسط أمامي ، فجأةً ، بساطٌ أحمر مهيب مشيتُ فيه بخطوٍ ليس خطوي وانتبهتُ إلي جُندٍ يصطفون على جانبيه يحملون آلات نفخٍ وسيوف وعلي صدورهم أوسمة ونياشين وعلي كتوفهم الدبابير والنجومُ تلمع.. سآءلتُ نفسي مستغرباً : الله ! دا شنو دا؟ فعُزف سلام ٌ جمهوريٌ ما . جاء أحدهم . ضربَ الأرضَ أمامي وحياني تحيةً عسكريةً ثمّ حمل عنى الإبريق بكل لطف . تبدّلت مشيتى غير مشيتي فمشيتُ مشيتُ حتى إنتهيتُ إلي منبرٍ أحمرٍ بمخمل وقطيفٍ وحريرصعدته فجاءت حاشيةُ تتوسّطها حسناءُ في بنفسجٍ غايةٍ في الجمال ، صاح آمر الجُند : قرقول سلام . فالتتقدّم صاحبة الجلالة ، الملكة أحلام . ضرب الجندُ على الأرض بإيقاع . تأبطوا أسلحتهم بأيامنهم وخطوا .. أياسرُ أيديهم تناظر أيامن أرجلهم في خطوٍ مموسقٍ تتقدمه الملكة . سلمّت عليَّ بترفّعٍ ملوكي وأخذتني لتفتيش قرقول الشرف . همستُ إليها : أحلام ! دا شنو دا .. أما كنتي تفركين اللوبيا هذا الظهر ؟ أحلام ؟ كأنها لم تفهم . ابتسمتْ . ثمّ أخذتني ومشينا، حذو القّذّةِ بالقُذّة ، مشينا على وقع خُطىَ الجُند وموسيقاهم : رَبْ رَبْ رَبْ رَبْ ، مشينا حتى انتهينا إلى مجلسٍ عامرٍ بالبنفسج وغاصِّ بالعبير : شي نمارق ، شي طنافس ، شي أرائك وبُسطٍ كعبقريٍ حِسان و..ألف ألف شمعدان . قلتُ محتاراً : أحلام .. دا شنو دا ؟ لم تجبني. وسعّت طيف إبتسامتها الغامضة وواجهتني بوجهٍ كالقمر يطلُّ فجأةً في ليلٍ ماحق. كان على أنفها الحاد زُمام وعلى شفتيها لمىً. أحلام دا شنو دا؟ عمّقت طيف الإبتسامة الغامضة ، وضعت يمناها على كتفي ويسراها على خصري فأنبعثت في الحال ، من وسط ذلك البنفسج البهيج ، موسيقى حالمة كأحدى مقدمات وردي . جذبتها لأسألها ، وأنا بين الأحمر والبنفسج أترنّح ويكادُ عقلي يذهب ، لمستني بصدرها فزادتني إرباكاً علي إرباك . النهدُ الذي ضغط على صدري كان صلباً وثاباً غير ذاك الذي ترهّل والخصرُ أضيق ، يميني ترتاحُ فوق رابية كفلها العالية وعطرها يُدوّخ يُدوِّخ يُدوِّخ : شي صندلية ، شي سُرّتيه ،شئ دِلكة ، شي فلور دامور ، شي خُمرة . غابت رائحة اللوبيا وغابت القشَّات وحتى البنفسجُ غاب ، أخذتها في حضني أكثر وأنفاسنا تتمازج ، حاولتُ أن أقولَ شيئاً فخرجتْ منى لغلغةٌ لا تبين ، رفعتُ ، برفقٍ ، وجهها بإبهامي واستلمتُ القمر، كل القمر، الشفه السفلى تهيأتْ ونداءُها يخلع وكذا العينان الفاترتان. كأنّ كلابٌ فيَّ أخذت تنبح . حين أوشكت الشفاهُ تلتقي هاج مصراني الأعور ، فجأةً ، وماج أبظراطه. فقفزتُ منها بعيداً كالمنخوس ِصحتُ في الجُند المصطفّين : الإبريق ! عايز أقطع الجمار . الإبريق وين ؟ وغمغمتُ : الله يقطع اللوبا العَفِن!
خرجتُ متحفّزاً ، أدافع هُوج الرياح في قناتي الهضمية ، أشدُّ أدناها فتندفعُ لأعلاها ، يتمايل الهواء في بطنى كأنه زئبق ، تركتُ الملكة أحلام حائرةً ومشيتُ متحفّزاً صوب أجمَةٍ في دُهمةٍ ظننتها الخلاء ، كنتُ كلما خطوتُ خطوةً هاج البنفسجُ فوقي والجندُ حولي وإمتد البساطُ الأحمر أمامي ، لكأنّ في قدميَّ رهطٌ من دود القزِّ دائبٌ ينتج الحرير فمشيتُ ومشيتُ حتى انقطع ذلك البساط فجأةً فوقفتُ في عماء لا يُرى فيه شئ ، ساءلتُ نفسي : هل هذه حافة الأرض ؟ سمعتُ خشخشةً فتذكّرتُ سحالي الملجة الملساء فجفلتُ ، ثمّ صوتاً: صوتَ أحلام ، ترفعُ في وجهي مفراكتها وتقول : لوبا ! وإنتَ بتقدر تجيب شنو غير اللوبا .. أحمد ربّك . هززتُ الإبريق الذي بيسراي للتوازن ومسحتُ وجهي بيمناي وأنا أترنّح . غابت المفراكة وأحلام زوجتي في لبِّ الظلام فأطلّ القمرُ في البنفسج المهتاج بطيف الإبتسامة الغامضة –ذاتها- فخيّل إليّ أنني سأسقط على قفاي ، باعدتُ بين رجليَّ كي أثبت ، كان البساط الاحمر ، خلفي ، ما زال ممتداً والإبريق في يدي والقمر الباسم يستدير فيخرج من استدارته كائنٌ صغيركنجمةٍ بعيدة بدأت معالمها تتضحُ رويداً رويداً حتى انبسط منها كفُّ بحفنةٍ من ترابٍ وقشَّاتٍ منتصبات . فسقطتُ من على حافة الأرض في ذاك العماء ، كان صوتها يأتيني متقطّعاً وأنا أتشبّثُ بحافة الأرض والأرضُ تدور..تدور، أتشبث فأخربش سطح الأرض ثم أهوي أهوي أهوي بعيييداً : أرحتُ مصراني ، فيما أنا أهوي ، بدويِّ هائل . المابشيل قشّة .. من الأرِض ينقشّه . هويتُ في ذلك الخواء وتمكّنتُ في الهاوية من أن أطفو ، لست أدري كم مرّ عليَّ من الوقت حتى رأيتُ ضوءاً على يساري فالتفتُ ، وأنا طافٍ ، فرايتُ القمرَ في سُحب البنفسج ، ذاتها ، وقد تسوّرته كلابٌ ضخمة كالحواشي ،صحتُ فيها غضباناً : جّر..جَر، فكشّرت في وجهي وزمجرت فتغاضيت ، عنها ، بُرهةً ، ثم التفتُ خلسةً ، نحوها ، فهالني أن رأيتُ الكلاب-ذات الكلاب الحواشي- تأكل القمر، أفزعنى صوتُ أنيابها وهي تنهشه : كُرج كُرج كُرج ، فسبحتُ مبتعداً . كانت الأرضُ تبدو لي من بعيد كتلة إظلام غاصّةٍ بالروائح النتنة تتصاعدُ الأبخرة الفاسدة : شي أمونياك ، شي كبريتيد هيدروجين وشي جثث آدميين ، ولا جهةً أشيحُ إليها بوجهي . الوضع يبدو كمطرٍ معكوس : أصواتُ الأنين تأتيني كالصواعق ثم زعيقُ أبواقٍ وخطبٍ حماسيةٍ وحلائف مغلظة وهتاف ورشاشٌ من الدم يدسرُ وينبثق من سطح الأرض نوافير .. مطر معكوس ، وخلل ذلك أرواحٌ تصعدُ وجوغات من دعوات المظلومين صارخةً تضج بالعويل كبيت بكاء ، كدتُ أتبيّن فيها أصواتٍ أعرفها ، ما شغلني عن ذلك سوى خريرٌ سمعته عن يميني فالتفّتُ فرأيتُ نهراً من اللبن دفّاقاً تتلاطمُ أمواجه ، قلت في نفسي فرحاً : هذا درب اللبانة .. هذه مجرّتنا ، وقفتُ أتأملها : على ضفتي نهر اللبن يصطفُ جنود –ذات الجنود – بخوذاتٍ وعصيً وكلاشنكوف ، يسدون الطريق على أطفالٍ رُضّع كالعناقيد يحبون صوب النهر وما هُم ببالغيه ، مددت بصري أعلى النهر فرأيتُ قطيعَ أبقارٍ تمشي بتوءدةٍ من ثقل أثداءها والحليبُ ينسكبُ فوّاراً في مجرّة اللبن تلك ، كأن قوىً جبّارةً لامرئية تحلبه ، ثمّ أنني نظرتُ أسفل نهر المجرّة ، فرأيتُ الكلاب – ذات الكلاب الحواشي – وقد تركت القمر هيكلاً نصفه مقضوم وتحوّلت منتشيةً تلغُّ وتشفط اللبن بصوتٍ غليظٍ مغيظ . نظرتُ إلى الجنود يشهرون الأسلحة وإلي الأطفال يحبون صوب اللبن ، إقتربتُ من آمر الجند ، وفي يدي الإبريق ، لمعتْ على صدره النياشين وعلى كتفيه الدبابير، إقتربتُ أطلبْ أن يفسح الجندُ للأطفال الطريق وقبل أن أنطق أشهر سلاحه في وجهي و صاح : قِف . إنتباااااه ... فهبّت لصوته ريحٌ نتنة كأنّ ملايين الجثث الميتة تسكنُ فاه ، قف .. إنتبااااااه .. قفلتُ أنفي وغمغمتُ : الله يقطع الصوت العفِن !
تفاديته .. مشيت بحذاء النهر . حاذى الأطفالُ الضفتين حبواً . ثار غبارٌ أحمر من تحتنا ومن فوقنا هطل البنفسجُ غماماً غمام . صار الأحمرُ والبنفسجُ يتمددان ويقتربان من بعضهما رويداً رويداً رويداً حتى تطابقا : قوسَ قزحٍ ثبت على الأرض .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.