[email protected] قرأت قبل فترة شريط إخباري علي احد القنوات الفضائية السودانية يحمل خبر صدر عن رئيس الجمهورية يعلن فيه عن نهاية مرحلة التمكين والتطهير بالخدمة المدنية وتحويل لجنة الاختيار للخدمة العامة الي مفوضية تابعة لرئاسة الجمهورية ضماناً لنزاهتها وإلزامية اختياراتها، وأول ما يلفت النظر في هذا الخبر أنه يحمل في داخله اعتراف مبطن بأن الخدمة المدنية تعاني من التمكين وفعل التطهير وأن الولاء سابق للكفاءة وأن مقولة القوي الأمين ما هي إلا فرية وذر للرماد في العيون بقصد التغطية علي التجاوزات والترقيات المجانية وتغيّيب للمحاسبة والالتزام باللوائح الحاكمة للعمل المؤسسي وأن الكثيرين ممن تسنموا المناصب القيادية والوظائف الحساسة وكل منصب يحمل في طياته منفعة مادية او اجتماعية ويصولون ويجولون داخل الخدمة المدنية يأخذون حق غيرهم ويسيئون استخدامه بالضرورة وتحولت الخدمة المدنية علي أياديهم الي إقطاعيات خاصة وهذا كله معلوم للقاصي والداني منذ فجر الإنقاذ المزعوم وكم ذُكر علي لسان المعارضين والناصحين مررا وتكررا حتي ملهم التذكير وجوبهوا بالرفض والإنكار والتهم ولذلك ما يستشف من تعبير رئيس الجمهورية يعتبر تحصيل حاصل ليس إلا. وحقيقة مشكلة التمكين ذات شقين خطيرين اولهما وضع الشخص غير المناسب في المكان غير الناسب وبالتالي يعيق السريان الطبيعي للعمل لقلة معرفته وخبرته واحيانا يصل به الجهل بالشئ الي درجة تعطيل العمل والتهاون مع التجاوزات وخرق القوانين المنظمة للعمل كأمر عادي، والمؤسف في الأمر أن وجود هولاء أزاح أصحاب الكفاءة وحرمنا من خبرتهم ومجهودهم والمجهودات التي بذلت لإعدادهم ويا لها من خسارة لا تقدر بثمن.وثانيهما أن الشخص المعين بآلية التمكين خاصة القادة والمدراء ورؤساء الأقسام من قبل جهة محددة او شخص محدد له نفوذ يعني بالضرورة خضوعه لتوجيهات تلك الجهة او ذاك الشخص الذي عينه أي ولي نعمته وبالتالي يحرص علي إرضا تلك الجهات او الشخصيات وتقديم مصالحها او مصالحهم علي حساب المؤسسية في العمل ومن ثمَّ علي حساب المصلحة العامة ويتحول هو نفسه الي صاحب نفوذ وخطورة في محيطه وعلي المجموعة اللصيقة به ويتحول العمل الي مجرد علاقات عامة خاضعة لأمزجة أصحاب النفوذ ونزواتهم ويتحول الموظفون الي مجرد دمي يحركها المسؤول بإشارة من اصبعه ويحولهم الي مجرد هتيفة تسبح بحمد المسؤول وتمجد قدراته ويَنْصَب اهتمامهم في المحافظة علي مرتباتهم اكثر من اهتمامهم بواجبات الوظيفة ومستحقاتها وتتحول بيئة العمل الي مجرد خلطة شائهة يختلط فيها حابل الواجبات بنابل الحقوق وتنبهم وتدلهم الخطوط الفاصلة لكل وظيفة وحدود كل موظف وتكثر فيها أمراض المجتمع من القيل والقال وفلان وعلان والضرب تحت الحزام و(أَرَح )الفطور وحفلة مهند ود المدير كانت كيف؟ وحنة ميرفت بت نائب الرئيس أبدع فيها الإمبراطور احمد الصادق! أي تتحول بيئة العمل الي شئ شبيه ببيت البكاء او سرادق العزاء وليذهب الانضباط في العمل غير مأسوفا عليه، ما ذكر اعلاه ينطبق علي معظم الهيئات والمراكز والمؤسسات بما فيها المؤسسة العسكرية التي تدعي الانضباط بل حتي الجامعات التي تشكل المؤسسية وحرية الاختيار لب العملية التعليمية وهي من تدعوا لها وتعلم طلابها احترامها والتمسك بها نجدها تحولت بقدرة قادر عبر إداراتها الي مجرد ابواغ تردد صوت الجهات النافذة مهما كانت درجة خطورة هذه الأصوات علي العملية التعليمية مما يصيب التعليم في مقتل ويصيب الطلاب بالارتباك بين ما يتعلمونه داخل حجرات الدرس وما يعيشونه من ممارسات خاطئة علي ارض الواقع يقودها مدراء وأساتذة موالون يدافعون باستماتة عن قرارات تاتيهم من اعلي وينفذون توجيهاتها من دون اخضاعها للنقاش الحر ودراسة كل الجوانب المتعلقة بالقرارت المزمع اتخاذها وإنما ينحصر دورهم في تبريرها وكل ذلك يقتل روح المبادرة والنقد لدي بقية الاستاذة ويحجم من قدرات الطلاب وإبداعاتهم واكبر دليل علي ما نقول عملية التعريب المستعجلة وخضوعها للمزاج السياسي أكثر من كونها حوجة علمية ومن غير توفير كل مستلزمات التعريب وتجويد اللغات الاجنبية بصورة موازية بادروا بتطبيقها وقبل كل ذلك ما جدوى التعريب من أصله اذا كانت كل المعارف الحديثة والاختراعات والتكنلوجيا مصدرها الغرب ولغاته وليس العرب ولغتهم ولا نقصد بذلك التقليل من أهمية اللغة العربية ولكنها لا تمثل حل ناجع في الدراسة الجامعية لأنها تترجم منتجات الغير ولا تصنعها ومهما كانت قدرة المترجمين فأنها لا تغني عن الأصل والمصدر. وأيضا تسهم إدارات الجامعات في إعاقة قيام الإتحادات والروابط والجمعيات الثقافية والاجتماعية والعلمية وأحيانا التدخل في تكوينها ومساعدة بعض الأطراف ضد الأطراف الاخري بتوجيهات من الخارج او بدونها المهم في النهاية ارضا تلك الجهات، وأيضا من الأشياء المؤسفة المساعدة علي تصفية السكن والإعاشة التي تمرغوا في نعيمها عندما كانوا طلابا والصمت حيال تدهور العملية التعليمية وبيع أصول الجامعات وممتلكاتها وانعدام التواصل او قطعه مع الجامعات العالمية والمنظمات والجهات المانحة والادهي والأمَّر سكوتهم علي وجود صندوق دعم الطلاب كجسم غريب دخيل علي الحياة الجامعية ومصدر للقلاقل والاضطرابات وتمتعه بالمزايا العجيبة والسلطات النافذة والأموال الطائلة وتخلي تلك الإدارات عن حقوق طلابها وراحتهم الشئ الذي ينعكس علي تحصيلهم الأكاديمي والاستقرار الدراسي وممارسة أنشطتهم المختلفة التي تتوافق مع ميولهم لتشكل بداية لبروز أدوارهم المختلفة في المجتمع لاحقاً ويؤدي الي تدهور العلاقة بين الإدارة والطلاب وهنالك قضية لا تقل أهمية وهي قضية القبول الخاص رغم انف البنية التحتية المتهالكة ونقص الأساتذة بالجامعات وعلي حساب جموع الطلاب الذين سهروا واجتهدوا ونالوا مقاعدهم عبر التقديم بالطريقة المعروفة واستيفائهم لشروط القبول، وتبرير الإدارات لذلك المسلك هو حاجتها الماسة للمال وهو عذر أقبح من الذنب في اعتقادي وطعن لظل الفيل وترك الفيل يرعى من دون قيد وبدون إزعاج مطلبي لان المرجو من إدارات الجامعات كان ان تتقدم بطلباتها و تقدم ميزانيتها الدقيقة لوزارة المالية لتدرج ضمن ميزانيتها العامة وفي حالة رفض وزارة المالية لبنودها من غير حجج مقنعة او إيجاد بدائل عملية لتدبير امورها تلجأ للضغط عبر الوسائل المعروفة وبالتأكيد سيقف الأساتذة والطلاب مع إداراتهم المدافعة عن حقوقهم بدلاً من أللجو للحيطة القصيرة وهم الطلاب و مدخرات أهاليهم وحصاد غربتهم وإنتاجهم واحيانا يصل الأمر بالأهالي للاستدانة لكي يوفروا مصروفات أبناءهم الدراسية (ما عارفنها قراية ولا فك رقبة حاجة تقفل نفس الزول من القراية ذاته) علما بأن هنالك جامعات خاصة تستقبل الطلاب القادرين واعدت خصيصا لهذا الغرض. كل ما ذكرناه يمثل عينة مبسطة ونمازج مخففة للخدمة المدنية دخل عليها التمكين بالساحق والماحق وفتَّ في عضدها وأصابها بالضعف والهوان وقلة الحيلة. اذا كان ما ذكره رئيس الجمهورية مجرد لعب بالألفاظ او تخفيف لحدة العطالة عبر بيع الأحلام او مجرد حمل كاذب فستكون هذه الوعود مسمار آخر يدق في نعش النظام الغارق في الأوهام والوحل أما اذا كان صادقاً كحالة استثنائية (بيضة ديك) فستكون هذه البداية فقط لمشوار طويل يستحق النقد الصارم لتجربة طويلة ومريرة عاشها الوطن تحت سنابك التجريب العشوائي سياسيا واقتصاديا وحصار المحن التي أحاطت بالمواطنين إحاطة السوار بالمعصم وحبل المعاناة الذي طال واستطال وليواجه الحقائق عارية ومنها الاعتراف الصريح والواضح بخطأ الانقلاب علي الشرعية الدستورية وما ترتب عليه وتعويض الضحايا وإعادة الاعتبار للتجربة الديمقراطية والحريات والأحزاب السياسية والنقابات والمؤسسات والهيئات والخدمة المدنية والمواطنة الحقة والعدالة ودولة القانون، ولتكون بداية لشروق شمس الأمل علي بلاد هداها اليأس والقنوط ولتعلو الابتسامة علي شفاه أشقاها الفقر والمرض وما أجمل الرجوع للحق وعودة الروح والوعي قبل انسداد سكك الرجوع وإغلاق باب التسامح والسلام .