بقلم: مهندس محمد فائق [email protected] يحدثنا التاريخ ويصدقه الواقع اليومى ان كل كيان او مجموعة من الناس تجتمع وتتوافق حول فكرة ما، تكون عرضة للانقسام حالما جدت احداث تجعل من الضرورى اعادة النظر فى تلك الفكرة بغرض تطويرها وجعلها اكثر مناسبة للواقع الجديد. ساعتها يظهر تياران، احدهما يتمسك بالفكرة الاصلية ويراها تصلح لكل زمان ومكان ولا يرى ضرورة لتعديلها او تطويرها، وتيار آخر يقول بتطوير الفكرة لكى تتوأم مع الواقع الجديد ويتمسك كل تيار بموقفه فلا يجدان بدا من المفاصلة فينشأ كيانان جديدان يتنافسان فيما بينهما باكثر مما يتنافسان مع غيرهما من الافكار والمجموعات. وهناك اسباب اخرى بالطبع تجبر بعض المجموعات على المفاصلة والسير كل فى طريق،فى اغلبها اسباب داخلية كسيطرة البعض على مقاليد الامور لفترة طويلة وانعدام الديمقراطية داخل التنظيم واسباب اخرى شخصية كالتخطى فى المناصب وغيرها من الاسباب.كما انه ليس هناك كيان او تيار يمكن استثناؤه من هذه السنة، فدائما هناك تيار متشدد وتيار اخر اكثر انفتاحا. وهكذا تمضى الحياة، مفاصلة جديدة عند كل مفترق طرق. ومن الملاحظ ان اكثر التنظيمات والمجموعات انقساما هى تلك التى تقوم على فكرة محورية عقائدية مرتبطة بالدين او القومية او النظريات الانسانية المتكاملة حول الحياة. وفى السودان فان خير مثال على ذلك هو الحركات الاسلامية التى تستمد افكارها من الدين الاسلامى واحزاب البعث الذين يعتنقون فكرا قوميا والشيوعيون الذي يعتنقون الفكر الماركسى. وكلها تعرضت لانقسامات ومفاصلات عبر تاريخها. اما الاحزاب التى توصف بانها ليبرالية وهى التى تقوم حول مجموعة من الافكارالمرتبطة بالوطنية وتصور لمستقبل الوطن، فان الافكار التى تربط بين منتسبيها هى فى الاصل ذات طبيعة فضفاضة لذا فان الانقسامات فيها يمكن ارجاعها فى معظم الحالات الى العلل التنظيمية والتطلعات الشخصية للقيادات. واذا نظرنا فى حالة حزب المؤتمر الوطنى فنجده تأريخيا ينتمى الى فكر الاخوان المسلمين الذين يمكن اعتبارهم الاصل فى الحركات الاسلامية فى السودان والذين بدورهم تعرضوا لانقسامات ومفاصلات كثيرة عبر تأريخهم ليس هنا مجال التفصيل فيها او فى اسبابها. ولكن النتيجة النهائية التى يمكن ان نخلص اليها ان المؤتمر الوطنى هو احد الفصائل التى نتجت عن تلك المفاصلات او على الاقل هو امتداد لاحدها. كانت آخر مفاصلة وقعت داخل الحركة الاسلامية ( تقرا الاخوان المسلمون) قد حدثت فى الرابع من رمضان / ديسمبر 1999م داخل الفصيل الذى كان" يعرف بالجبهة القومية الاسلامية" بعد حوالى عشر سنوات من استيلاءها على السلطة فى 30 يونيو 1989 وتفاصيلها معروفة وابطالها مازالوا يمشون بيننا. والآن وبعد حوالى اثنى عشر عاما من ذلك التاريخ فان سحب مفاصلة جديدة تتجمع . فما سيل المذكرات الذى يتوالى وتصريحات المسئولين فى التنظيم والاحتجاجات المتوالية من التنظيمات الولائية للمؤتمر الوطنى ورفض بعض التعيينات فى المناصب وارتفاع نغمة الغضب الشعبى نتيجة لارتفاعى تكاليف المعيشة وفضائح الفساد التى طالت القيادات العليا فى الدولة والتنظيم ،ما هى الا الرياح التى تحمل تلك السحب. وحديث الرئيس الاخير يدل على انه قد تنبه لخطورة الامر فاراد تأكيد موقعه وسلطته التى يستمدها من التفويض الذى اعطاه له الشعب من خلال انتخابه رئيسا مما يجعله لا يخضع لسلطة تنظيم او مجموعة. يدل على ذلك النبرة المتحدية والمستفزة التى عبر بها عن عدم رضائه على اسلوب المذكرات وتوعده بمحاسبة كاتبيها ومقدميها، ذلك بالرغم من علمه الاكيد بمن هم وراء تلك المذكرات فعلا او ضمنا ، خاصة وان بعض القيادات قد بادرت باعلان تأييدها لتلك المذكرات . موقف الرئيس ذاك ، لن يعجب اقرانه فى المؤ تمر الوطنى ولا فى الحركة الاسلامية الذين يرجع الفضل لهم فى الاتيان به الى هذا الموقع ولن يعجب بالطبع اصحاب المذكرات ولا الذين ساندوها جهرا من قيادات المؤتمر الوطنى لان الحديث عن المحاسبة لابد ان يطالهم. ولا يخفى على المطلعين ان من وراء المذكرات هم شريحة الشباب وخاصة اولئك الذين يعرفون بالدبابين والقيادات الاقليمية التى تخطاها الاختيار فى المناصب ، ولا نظلم آراء اولئك الذين يعتقدون ان التنظيم قد فارق الدين والشرع ، ولا نتوقع سكوتهم وانسحابهم من المعركة التى خططوا لها بمجرد سماعهم لحديث الرئيس هذا، فمن يقدم مذكرة لا بد ان يكون عنده ما بعدها. ومن اسباب التململ والاحتجاج ، هو ما يراه اصحاب تلك المذكرات من أن التفريط فى وحدة الوطن واستمرار الحروب بل وانتشارها ، سيجعل الجميع وقودا لها. ومن الاسباب ما يراه مدعو الاخلاص من اعضاء الحركة الاسلامية ، من تهاوى مشروعهم الحضارى الذى كانوا يعولون عليه كثيرا ، وارتداد المؤتمر الوطنى عن كل سياسات الانقاذ الاصولية واخرها اعلان الرئيس عن تخليها عن سياسة التمكين ونقد تجارب الانقاذ الاقتصادية التى قادت البلاد الى خراب اقتصادى لم تشهد له مثيلا والنقد المكثف للسياسات التعليمية وفشل سياسة التوسع فى التعليم الجامعى التى انتجت اميين يحملون شهادات جامعية. ومن الاسباب ايضا ، ذلك الفساد الذى يضرب باطنابه على الدولة والحزب معا ، فكيف يمكن تبرئة المؤتمر الوطنى من الفساد وقياداته هى التى تتولى المراكز والمواقع الرئيسية فى الدولة؟ ومن الاسباب ما يراه البعض نذر ربيع عربى سوف يستظل السودان بظله ، ويومها ربما لا يجدون ما يستظلون به فرأو فيما رأوا المطالبة بفطم المؤتمر الوطنى وكف يده عن اموال الدولة بادعاء انه لم يعد يمثل الحركة الاسلامية . ويثور سؤال منطقى ... اين القوات المسلحة من كل هذا؟ الرئيس البشير كان قد جاء الى جلسة مناقشة مذكرة العشرة وهو فى كامل اناقته العسكرية تعبيرا عن دعم القوات المسلحة له فى ذلك الموقف فهل لا زال الامر كذلك؟ وبالرغم من نفى الناطق الرسمى للقوات المسلحة الاشاعات التى انطلقت عن وجود مذكرة للقوات المسلحة الا ان هذا الامر لا يمكن تجاهله. قد لا تكون هناك مذكرة بالمعنى الذى نعرفه عن المذكرات التى يكتبها السياسيون ولكن بالتأكيد هناك تقارير عسكرية توضح موقف القوات المسلحة من الحرب الدائرة الان فى العديد من المناطق وربما يكون هناك اختلاف فى وجهات النظر من تلك الحروب بين السياسيين والعسكريين ، فاذا اضفنا الى ذلك ان القوات المسلحة تكاد تكون مسيسة من رأسها الى اخمص قدميها فيبقى ان الامر فيه نظر. من المؤكد ان موقف (الهاى براس) كما يصفون القيادات التى تزين اكتافها بالسيوف المتقاطعة ما زال فى مصلحة الرئيس ، فهولاء يمكن اعتبارهم مهنيين اخذين فى الحسبان المدة الطويلة التى قضوها فى الخدمة مما يجعل انتماءهم للقوات المسلحة يتغلب على انتمائهم السياسى ولكن ذلك ربما لا يكون هو الحال عند الرتب الاقل وهم الاكثر شبابا وهم الذين يمكن ان تكون لهم علاقات قوية مع رصفائهم فى التنظيم السياسى المتهمين بتدبيج المذكرات. ويثور سؤال آخر : وهو اين اصحاب مذكرة العشرة من مذكرات اليوم.؟ فلقد جرت مياه كثيرة تحت الجسر واصبح الحزب حزبان بل ان السودان نفسه قد اصبح سودانين. نحن الان نشهد بداية المعركة، وهى معركة اسلحتها كثيرة وجنودها اكثر وقادتها لديهم كل الدوافع وان لم تكن واحدة ، فالبعض يريد ان يهرب بجلده من السفينة الغارقة والبعض للعجب يحاول ان يرث ما سوف يتبقى من الانقاذ! ولا تنسوا ان المفاصلة الماضية، اخذت وقتا طويلا ما بين المذكرة ووقوع المفاصلة. كنت قد كتبت عن المفاصلة الماضية فى حينها وختمت مقالى بسؤال ( هل الانقاذ التى بدأت بكذبة، سوف تنتهى بفضيحة؟) وبما ان ذلك السؤال قد تمت اجابته على الاقل جزئيا، فانى اطرح اليوم سؤالا جديدا : ( هل تنتهى فضائح الانقاذ بمفاصلة؟) صحيفة الشاهد اليومية