* معن البياري أُصادفُ في صحيفةٍ أُطالِعُها في الطائرةِ من روما إِلى دبي، قبل ثلاثةِ أَعوام، خبر وفاةِ الصحافي والكاتب السوداني، حسن ساتي، عن ستين عاماً، فتُباغتني سويداءُ ثقيلةٌ، وبعد أَنْ حوقلتُ غيرَ مرَّةٍ، ودعوتُ بالرحمة له، وفدت إِلى بالي سهرةٌ كانت قبل شهورٍ فقط، مع ساتي في منزلِه في الخرطوم، طالت حتى شقشقَ الفجر، مع صديقيْن، يمني وسوداني، احتلَّ فيها مغني السودان وقيثارتُه، محمد وردي، مطرحاً واسعاً في أَحاديثِنا فيها، بمناسبةِ حفلِ تكريمٍ حاشدٍ نظمَّه ساتي له قبل ثلاثة أَيام، سمّاه “رد الجميل"، حُرمنا، لشديدِ الأَسف، من تلبيةِ دعوةٍ لحضورِه، بسبب سفرِنا إِلى نيالا في جنوب دارفور، حتى إِذا عُدنا، أَفاض حسن ساتي في حديثِه عن ليلةٍ استثنائيةٍ شهدت فيها الخرطوم تكريمَ فنان أفريقيا الأَول، وهذا أَحدُ أَلقابِه غير القليلةِ التي استحقَّها في خمسين عاماً من الغناء، تنوَّعت فيها نحو ثلاثمائة أُغنيةٍ بين وطنيةٍ وعاطفية. تحدَّث ساتي عن وردي بحبٍّ غزير، وبتقديرٍ وفيرٍ لعطاءِ هذا الفنان، وبأَملِ أَنْ لا يكون ذلك التكريم وداعياً، فقد كان (وردي) يغالبُ مرضاً لم يمنعه من أَنْ يُحيي الحفلَ على أَحلى ما يكون، وكما أَراد المحتفون الكثيرون به. تُوفّي حسن ساتي، رحمه الله، ولا تغيبُ عني وداعتُه في تلك السهرةِ السخيّةِ بالأُلفةِ المرحة. ويرحلُ محمد وردي، السبت الماضي، عن ثمانين عاماً، ويتقدًّم مشيعيه الرئيس عمر البشير الذي عارضَه الفنان الكبير، بل غادرَ السودان بسببِ نظامِه ثلاثةَ عشر عاماً، قبل أَنْ يعود منتصفَ العقد الماضي، وتحضرَ زوجة البشير ذلك الحفل التكريمي، والذي أُظنُّه كان الأَهم في السودان له، والأَخير على غيرِ ما رغب حسن ساتي الذي دندنَ في سهرتِنا في منزله بأُغنياتٍ لوردي، كنتُ سمعتُها، وأخرى غيرها، في عدّةِ تسجيلاتٍ في غيرِ مناسبة، وراقتْني فيها الإِيقاعاتُ التي يتزاوجُ فيها الأَفريقاني مع العربي، والشحنةُ المفعمةُ فيها بالشّجى والتنغيم الرائق. وهي أُغنياتٌ تنشغلُ بالحب والحرية والجمال، كما كثيراتٌ غيرها، قرأْتُ أَنَّ محمد وردي استخدمَ فيها، وهو ملحِّنُها، موسيقى مختلفِ الجهاتِ والقبائل السودانية، فمزجَ في أُغنياتٍ كثيرةٍ له إِيقاعاتِ كردفان ودارفور وجوبا وشمال السودان وشرقِه. ولم يكن مستغرباً أَنْ يحظى هذا الفنان الثريُّ الإنجاز بمحبّةِ عموم السودانيين، وكأَنَّه من يُوحِّدهم، ومن يُعبِّر عن أَشواقِهم إِلى الحريةِ والعدالة، وهو الذي عُرفَ بتوجهٍ يساريٍّ وثوريٍّ مبكر، ظلَّ دائمَ الوفاءِ له، منذ شبابِه الأَول وحتى أَواخر سني حياتِه. ليست لمحمد وردي شهرةُ مواطنِه الروائي الطيب صالح لدينا في الأُردن، وفي عمومِ بلادِ الشام ربما، وإِنْ له حضورٌ ملحوظ في دول الخليج، لحفلاتٍ كانت له فيها، ولوجود جالياتٍ سودانيةٍ كبرى فيها. وأَحسبُ أَنه يستحقُّ أَنْ نتعرَّف جيداً القيمةَ المهمةَ لفنه الغنائي الوفير، وعلى ما كان عليه هذا الفن من بهجةٍ ومؤانسةٍ طيِّبتيْن في سماعِه. وفي سيرةِ الراحل أَنَّه مغني أُنشودة استقلال السودان في 1959، واقترن حضورُه في الغناءِ العربيِّ، في شقِّه الأفريقي، بأُغنياتِ الحماسةِ الثوريةِ في الستينيات وأَوائل السبعينيات، فقد غنّى للثورةِ على نظام إِبراهيم عبود، وبعد دعمِه جعفر نميري، ابتعدَ عنه. وإِلى السياسيِّ والوطنيِّ في أَرشيفِه، لوردي أُغنياتٌ عديدةٌ في الحبِّ والمرأَة والجمال، ومن هذه وتلك “أَسمر اللونا" و"يا بلدي يا حبّوب". رحمه الله، ورحم حسن ساتي. الدستور