رئيس مجلس السيادة يتلقى اتصالاً هاتفياً من أمير دولة قطر    5 طرق للتخلص من "إدمان" الخلوي في السرير    بنك الخرطوم يعدد مزايا التحديث الاخير    هل يرد رونالدو صفعة الديربي لميتروفيتش؟    شاهد بالفيديو.. حسناء الإعلام السوداني إسراء سليمان تبهر المتابعين بإطلالة جديدة بعد عام من الغياب والجمهور يتغزل: (ملكة جمال الإعلام وقطعة سكر)    شاهد بالفيديو.. وسط سخرية المتابعين.. الصحفي إبراهيم بقال يتجول رفقة بعض أفراد الدعم السريع داخل مكاتب الولاية وهو يحمل رتبة "فريق" وينصب نفسه والي لولاية الخرطوم    الكشف عن سلامةكافة بيانات ومعلومات صندوق الإسكان    شاهد بالصورة والفيديو.. فتاة سودانية تظهر في لقطات رومانسية مع زوجها "الخواجة" وتصف زواجها منه بالصدفة الجميلة: (أجمل صدفة وأروع منها تاني ما أظن القى)    شاهد بالصورة والفيديو.. فتاة سودانية تظهر في لقطات رومانسية مع زوجها "الخواجة" وتصف زواجها منه بالصدفة الجميلة: (أجمل صدفة وأروع منها تاني ما أظن القى)    المريخ يوقِع عقداً مع شركة (Sport makers)    مفاوضات الجنرالين كباشي – الحلو!    لاعب برشلونة السابق يحتال على ناديه    محمد وداعة يكتب:    عالم «حافة الهاوية»    مستشفي الشرطة بدنقلا تحتفل باليوم العالمي للتمريض ونظافة الأيدي    انعقاد ورشة عمل لتأهيل القطاع الصناعي في السودان بالقاهرة    انتخابات تشاد.. صاحب المركز الثاني يطعن على النتائج    تعرف علي أين رسم دافنشي «الموناليزا»    عقار يلتقي وفد مبادرة أبناء البجا بالخدمة المدنية    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    كوكو يوقع رسمياً للمريخ    برقو لماذا لايعود مديراً للمنتخبات؟؟    السودان..اعتقالات جديدة بأمر الخلية الأمنية    باريس يسقط بثلاثية في ليلة وداع مبابي وحفل التتويج    جماهير الريال تحتفل باللقب ال 36    شاهد بالصور.. (بشريات العودة) لاعبو المريخ يؤدون صلاة الجمعة بمسجد النادي بحي العرضة بأم درمان    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الأحد    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    نتنياهو مستمر فى رفح .. إلا إذا...!    "المايونيز" وراء التسمم الجماعي بأحد مطاعم الرياض    السيسي: لدينا خطة كبيرة لتطوير مساجد آل البيت    ترامب شبه المهاجرين بثعبان    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    أصحاب هواتف آيفون يواجهون مشاكل مع حساب آبل    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    روضة الحاج: فأنا أحبكَ سيَّدي مذ لم أكُنْ حُبَّاً تخلَّلَ فيَّ كلَّ خليةٍ مذ كنتُ حتى ساعتي يتخلَّلُ!    هنيدي ومحمد رمضان ويوسف الشريف في عزاء والدة كريم عبد العزيز    أسترازينيكا تبدأ سحب لقاح كوفيد-19 عالمياً    القبض على الخادمة السودانية التي تعدت على الصغيرة أثناء صراخها بالتجمع    الصحة العالمية: نصف مستشفيات السودان خارج الخدمة    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    وزير الداخلية المكلف يقف ميدانياً على إنجازات دائرة مكافحة التهريب بعطبرة بضبطها أسلحة وأدوية ومواد غذائية متنوعة ومخلفات تعدين    (لا تُلوّح للمسافر .. المسافر راح)    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



اخطاء قاتلة تصاحب قراءة مشهد انهيار امبراطورية العرب
نشر في الراكوبة يوم 20 - 04 - 2012

أخطاء قاتلة تصاحب قراءة مشهد انهيار امبراطورية القومية العربية
بقلم الاستاذ/ ترايو احمد على
[email protected]
فجاةً ولدهشة الكثيرين انتفضت كامل شعوب منطقة الشرق الاوسط وشمال افريقيا ودفعت المنطقة بشكل دراماتيكي الى حالة من المعمان الثوري شديدة الانفجار لتعصف معها عروش انظمة الاستبداد مدشنا لبداية تحولات شعبية راديكالية شاملة هزت ومازالت تهز كل البنية التحتية والفوقية لمنظومة المنطقة السياسية والاجتماعية فى ارتباطاتها البينية وموازينها الداخلية وتفاعلاتها الاقليمية وعلاقاتها الدولية وفتحت هذه الحالة كل الابواب واسعةً امام جميع الاحتمالات السياسية لما يمكن ان ترسي اليه الاوضاع بإستثناء استحالة العودة الى الوضع القديم .
وبالرغم من صعوبة التنبؤ أو الاستقراء الكامل بطبيعة أو صورة السيناريوهات المحتملة الا ان فرص وقوع ما يعرف بسيناريو "يوم القيامة" كما يرد بالتعبير الانجليزي بات اكثر احتمالاً نتيجةً لقوة دفع عواملها المساعدة. ومما يعقد المسألة برمتها ويزيد من حالات الارتباك وإمكانية انزالق الاوضاع الى الهاوية هو التقدير غير الصائب للوضع والقراءة الخاطئة المصاحبة للمشهد الذي ظل يتبناها القائمين بتغطية وتفسير وتقديم الاحداث من الصحفيين والكتاب والمحللين السياسين على اعتبارها "ثورة عربية".
فى حقيقة الامر ليس هنالك خلاف او شك او ادنى جدل فى تصوير الوضع بانه ربيع او ثورة اوانتفاضة , فهذه اوصاف وتعبيرات تصلح لاستيعاب محتوى مايجري من الاحداث ولكن الخطأ الاستراتيجي تكمن فى تنسيب كل الفعل للعرب وحدهم دون سواهم وهو ما يعني من ضمن ما يعني إلغاء او تغييب أوشطب أو وأد لدور وجهد ومساهمات القوميات والشعوب غير العربية فى المنطقة والتي تشكل مكوناً عضوياً اصيلاً من تركيبة النسيج الاجتماعي والسياسي والثقاقي والتاريخي للمنطقة رغم كل صنوف الاضطهاد التي واجهوها و الاخطاء ا والجرائم التي ارتكبت فى حقهم عبر التاريخ .
بالطبع ان مثل هذه النظرة الانتقائية والاقصائية القاصرة يشوش التناول الموضوعي للحالة ويخطئ قراءتها بشكل مخل ومخالف و مجافي للواقع ويترتب بسببها جملة من المخاطر الداهمة وقادرة ان تدفع بالاوضاع الثورية كلها نحو افق مسدود ويقوض فرص استمرارها وينسف مضمونها ويخلق وضعاً من الفوضى العارمة تعم المنطقة وهي حالة للاسف بدأت تلوح ملامحها فى الافق تمثلت فى صعود الجماعات الدينية الظلامية فى قمة الهرم السياسي وكذلك تحول او انتقال بقايا جماعات انظمة الاستبداد المنهارة كماهو الحال فى مصر وليبيا الي بلطجية او في حالات الانظمة الاَيلة للسقوط الى اشباح ومليشيات كما فى سوريا لتشكل قوة مضادة للثورة من جانب , ومن الجانب الاخر نجد تذمر القوميات والشعوب غير العربية بالمنطقة وتململ قطعاعات المراة والشباب والاقليات الدينية وإمتعاض جماعات حقوق الانسان لشعورهم بان هنالك محاولات جادة لخطف أو سرقة ثمار جهدهم الثوري واقصاءهم من مواقع صنع القرار وهي حالات احتقان كلها قابلة للانفجار فى اي لحظة كل بطريقتها الخاصة بها فى غضون المعمان الثوري الجارف.
هذا التشويش الخطير الذي يمكن ان يحدثه القراءة الخاطئة للمشهد وما لها من مخاطر يفرض بالضرورة مسئولية مواجهته ونقده ومقاومته ويلزم ذلك العمل علي تقديم البدائل من قراءات صائبة شاملة وكذلك تصحيحا و تقويما لاعوجاجات صورة الحالة ويقتضي ذلك تعرية هذه الاخطاء وكشف مخاطرها الكامنة وتداعياتها السالبة .ولن يكتمل كل ذلك الا بتسليط ضوءاً كثيفاً على المرتكزات الفكرية والمرجعيات الايدولوجية لنمط التفكير الاحادي ومنهج التحليل الانتقائي المضلل الذي ينتهجه هؤلاء الصحفيون والكتاب والمحللين في تناولهم وعرضهم للاحداث.
الواقع ان منظومة التفكير السياسي السائد فى هذه المنطقة تنبعث من خميرة بيئة سياسية واجتماعية وثقافية ونفسية ملوٌثة بفيروس مفاهيم القومية العربية المتطرفة ومشرئبة بتقاليد من قناعات قبلية بدوية متعصبة تأطرت كلها في شكل ارث سياسي عبر قرون من الزمان ساهمت فى صياغتها وتكوينها وبلورتها اساطير وسياسات انظمة متعاقبة من شاكلة خلافة دينية بدوية عشائرية (اموية وعباسية) و امبراطوروية(عثمانوية تركية) واستعمارية غربية واخيراً بعثية فاشية واسلاموية شمولية.
وقد استصحب مسيرة تشكيل هذه المنظومة الفكرية المرتبكة ممارسة انماط مختلفة من اساليب العنف العشوائي المستمر ضد الشعوب والقوميات غير العربية فى هذه المنطقة تمثلت فى التنكيل والقمع والاضهطاد والاستبداد وتخللتها عمليات الابادة الجماعية فى احيان منها هدفت الى طمس واستئصال هويات هذه الشعوب ومصادرة حقوقها وقمع طموحاتها بقصد التعريب والترويض . وقد نتج بفعل ديناميكيات هذا التفاعل التاريخي نوعاً من الارتباط العضوي اشبه بالزواج الكاثوليكي بين العروبة كاثنية (او حتى كعرق لدي القوميين منهم) وبين الاسلام كايدولوجيا وتطورت مع الزمن لتخرج من احشاءها وليداً مشوهاً ذات نذعة تسلطية افرز شعارات مركزية في صلبها اربعة اساسيات بمضمون فكري ومغذي سياسي واحد تعتريها احياناً تناقض ثانوي غير تناحري تتمثل في شعار "امة عربية واحدة ذات رسالة خالدة" و"خيبر خيبر يا يهود جيش محمد سوف يعود" و"امريكا وروسيا قد دنا عذابهما" "الإسلام دين ودولة"... سخف صبياني ليس ما بعده سخف.
وفى حالة من غفلة تاريخية إستثنائية بليدة و مؤسفة وجدت هذه الايدولوجيا القومية المونوليثيكية الوحدانية فرصة لتنسج لها عالماً افتراضياً وخيالياً ووهمياً اشبه بعالم الاساطير و الاماني و اريد لها ان تعيش كحوصلة محصنة في داخل جسم عالم اكثر تنوعا و تعقيدا تؤثر فيه او عليه وتسبب له صداعا مذمنا ومؤلما ولكنها لا تتؤثر بما يجري من حولها . عالم مثالي يتصف بنقاء عرقي عربي (على غرار الجنس الاري فى المانيا الهتلرية), وبوحدانية ثقافية ودينية تمثلت فى العربية والاسلام .
من دون اية مبالاة يفترض هذا الفكر القومي العربي بهكذا الطريقة بان حق المواطنة والسيادة وصياغة الاحداث وتقرير المصائر في المنطقة كلها محتكر للقوميات العربية مع إلغاء حقيقة وجود الشعوب والقوميات الاخرى غير العربية ناهيك عن مشاركتهم. كل هذا افتراض يستند علي منطق الجهاد و حد السيف.
بيد انه وفى مفارقة و تناقض صارخين يتواجد هذا العالم الافتراضي والخيالي (القومي العربي القرشي) فى داخل عالم حقيقي وواقعي أكثر تعقيداً من حيث التعدد والتباين فى كل شئ ابتداءً بالقوميات واللغات والثقافات والديانات والحضارات ومتضارب فى الطموحات والتطلعات ومختلف بشكل حاد فى تعريف او تحديد هوية تناسب الطبيعة المتنوعة لمنطقة الشرق الاوسط و شمال افريقيا.
هكذا اصبح مفهوم القومية العربية وما مورس من سياسات بإسمه جزءاً اساسياً من ازمة المنطقة التاريخية ومسبباً ومسؤولاً رئيسياً لمأسيها وكوارثها المتكررة عبر التاريخ .فجرائم إبادة الاكراد فى العراق والسعي الدؤوب لإقصاءهم فى سوريا وممارسة الاستعباد وتجارة الرقيق ضد القوميات الافريقية و ابادتهم بصورة جماعية وممارسة التطهير العرقي ان استعصي أمر تعريبهم وانقيادهم كما يجري الاَن فى السودان و موريتانيا , فضلاً عن محاولات تدجين و تهميش الاقباط والنوبة فى مصر وممارسة سياسات الاقصاء والاستئصال لشعوب البربر و الامازيق فى ليبيا والتونس والجزائر والمغرب وموريتانيا, اضافة الى اضطهاد الشيعة والفرس فى منطقة الخليج واليمن والدروز فى لبنان وسوريا . كل ذلك كان سببه سياسات التعريب التى مورست فى المنطقة . هذا فضلا عن الموقف العدواني الممنهج تجاه حضارات المنطقة التى شيدتها هذه الاقوام والشعوب غير العربية على اعتبار انها والنظر إليها كمخلفات وثنية مضللة من افاعيل الاعاجم عديمة القيمة . وهى بدعة عندهم علي نحو " كل بدعة ضلالة وكل ضلالة فى النار" ويقينا انه لولا تدخلات منظمة اليونيسكو فكانت مصير الاهرامات والشواهد التاريخية الاخري في المنطقة لم تكن احسن حالا من مصير مثيلاتها في افغانستان التي تعرضت لحملة ضارية و هجمة راجمات صاروخية من "الملا عمر" . فكانت من الجريمة العظمى فى حق الانسانية جمعاء ان يتعرض حضارات سامقة وسامية كبابل السورمرية فى ارض الرافدين و الاهرامات الفرعونية فى مصر وحضارة وادي النيل النوبية العريقة وحضارات المتوسط الفينيقية , ان تتعرض كل هذه الانجازات الانسانية وقيمها لعدوان همجي وسب وإحتقار بدوي غير مبرر او اهمال متعمد في احسن الاحوال وهو أمر ادى الى تعطيل مفعول ومقدرات هذا الارث الحضاري واندثار قيمها لتحل محلها وتسود بدلاً عنها قيم اخرى بدوية متخلفة ومعادية لحضارة العصر والانسانية ومنتهكة لحقوقها ومستفزة لمشاعرها... على غرار مفهوم إستحواذ الجواري والسبايا و امنيات حور العين ومبدا "دفع الجزية عن يد و هم صاغرون" وقاعدة تقسيم العالم الي (دار للحرب ودار للسلام) و حق تسخير كل انجازات النصاري واليهود باعتبارها غنائم حلال وهى ممارسات ادخلت هذه المنطقة الى نفق مظلم وعزلتها عن باقي العالم لقرون طويلة وحرمتها من قيمه المعاصرة وحولتها الى مسرح لسباق النوق و"التأمل في خلقها" ومرتعا لعرض "المغيرات صبحا" وقاعدة للارهاب تهدد سلام العالم وامنه واستقراره .
وفى مفارقة اخرى أكثر كوميتراجيكية تثير كثيراً من الضحك والاشفاق معاً يقف هذا العالم الوهمي الخيالي وبكل مسمياته النرجسية من شاكلة "العالم العربي، الوطن العربي، المنطقة العربية، الامة العربية " و بسياساته المتمثلة في " الوحدة العربية، الامن القومي العربي" و بمؤسساته "الجامعة العربية، الجيش العربي " وبشعاراته الفطيرة و الجوفاء , يقف هذا العالم عاجزا تماماً كعجز الصم والبكم والعمي فى فك طلاسم وكشف اسرار الارث الحضاري وابداعاته الذي شيده الشعوب الاخرى غير العربية بالمنقطة.
أليس من باب البلاهة و المسخرة مثلاً ان يعجز السوريون من معرفة معنى ومغذى كلمة سوريا (اسم دولتهم )..! أو معنى كلمة دمشق(عاصمتهم) لا لسبب اَخر سوي ان هذه اسماء اعجمية غير عربية . وأليس من المؤسف ان يجهل المصريون معنى لاسم الاسكندرية(اعرق مدن المنطقة)..! وأليس من المضحك والمبكي ان لايفقه الليبيون ولا حتى يكترثون لمعرفة كلمة ليبيا او طرابلس اومصراتة ...! وأليس من المحنة والبؤس واللامسؤولية بحق ان لايعرف السودانيون معناً لكلمة الخرطوم أو دنقلا ولايعرف الاردنيون معنى لكلمة الاردن أو عمان..! والاسف ذاته ينطبق على اليمنيين فى جهلهم عن معنى كلمة عدن والموريتانيون عن نواكشوط والتوانسة عن تونس. فكل هذه اسماء غير عربية ممنوعة من الصرف كما يلجا اليه فقهائم بحثا لتبرير حالة عجزهم وهو عجز الذي "لايدري ولايدري انه لايدري". وعلي عكس من مواقفهم العاجزة هذه فان لهذه الاسماء من معاني ومغاذي عميقة بعمق تاريخ هذه المنطقة و كبيرة بكبر ارثها الحضاري ويستحيل فك طلاسمها الا بالإستعانة على إلسنة ولغات وثقافة هؤلاء الاعاجم الضاربة جذورها فى تربة المنطقة. نحن نعيش في عالم مفترئ يتعاطي الكذب ولا يبالي بما يقول. اسمعهم يقولون "كانت اوروبا ظلاما ضلت سالكه وشمس أندلس بالعلم تهديه"
ان الفهم الخاطئ والتطبيق السيء والاستخدام المغرض العابث لمفهوم الهوية قد ادى الى هذا التشويه الخطير لمفهوم القومية والامة فى هذه المنطقة . فما كان ممكناً ان يعيش هذا العالم ويستمر بشكله المتناقض والمتنافر والمتناحر مع واقعه المتخاصم معه , وماكان غريباً ان ينفجر بهذه الطريقة الدراماتيكية التى هي عليه الاَن.
الحقيقة انه ليست هنالك منطقة فى العالم اليوم ظلت تعاني من أزمة الهوية كما يعانيها منطقة الشرق الاوسط وشمال افريقيا بصورة يمكن ان تؤدي الى نسفها وتقزيمها الى كيانات أكثر تنافرا فيما بينها. ولم يسبق أن طرح مسألة أزمة الهوية فى المنقطة بهذا المستوي من التحدي كما طرحتها قوة الدفع الثوري الاَن. ولم يحدث ان واجه القائمين بأمر معالجة قضية الهوية تحدياً اكبر مما نراه اليوم .
هذه لحظة مفصلية للمنطقة ومنعطف تاريخي حاد تمر بها , فالمتغيرات الثورية التى تواجهها تفرض على الجميع مسئولية مواجهة الحقائق عارية وفى مقدمتهم موضوع اعادة تعريف الهوية لتتسق مع التعريف المجمع عليه من قبل علماء الاجتماع والسياسة والتاريخ .فالهوية فى تعريفها العلمي المبسط هي بطاقة لاثبات الذات لامة او لشعب بعينها ولكنها لا تكتمل صورتها او مضمونها الا بتوافر عناصر متوافقة او متآلفة في بينها . فالاثنية مثلا كعنصر رئيسي يشترط فيها الانسجام الداخلي في حالة كونها إثنية واحدة او يجب ان تتصف اطرافها كلها بقابلية الاعتراف بالاخر فى حالة وجود مكونات اثنية متعددة بغية التصالح و تحقيق الاحترام المتبادل والتعايش السلمي المشترك . ويشترط هذه الصيغة فى الديانة فى حالة تواجده كعنصر من عناصر الهوية بما يعني ان تكون ديانة واحدة او ديانات متعددة ولكنها متسامحة. كما ينسحب هذه الصيغة الشرطية على كل عناصر الهوية الاخرى من اللغة والارض والتاريخ والاحساس الجمعي او ما يسمى بالشعور القومي المشترك . واهم من ذلك كله انه فى حالة توفر كل هذه المعطيات يجب ان تؤدي محصلة التفاعل البيني المفترض فيما بين عناصرها الى تكوين قناعات راسخة تسمح بإمكانية الاتفاق لتبني ما يعرف بموقف المصير المشترك وهو أمر يستحيل التوصل الي الاتفاق عليه فى حالة وجود إختلاف جوهري او تناحري بين اي من عناصر الهوية . هذه هي الحالة التي تواجهها هذه المنطقة. فالواقع ان شعوب منطقة شرق الاوسط وشمال افريقيا هم فى حالة تنافر وخلاف جوهري حول اي عنصر من العناصر المكونة للهواية الواحدة. ويشهد التاريخ ان ما يسمى "بالعالم العربي" ويعني به الشرق الاوسط و شمال افريقيا هو فى حالة عدواة وعراك فى داخل محيطها بأكثر من عداوتها مع الاخريين.
فلا يمكن التفسير مثلا لجملة الاخفاقات التي رافقت تجربة المنطقة بما في ذلك عملية الفشل التاريخي التي منييت به مشروع الفكر القومي العربي في محاولته اليائسة والباطلة لتصوير اسرائيل باعتبارها عدوة المنطقة والشر المستطير الا علي ضوء هذا العبث الفكري و الخرمجة السياسية الانتهازية . فبالرغم من الاستثمار الكثيف والمحاولات المستميتة التى بذلت من قبل قادة ومفكرو القومية العربية والاسلامويون من استخدام للمناهج والمساجد وسطوة السلطة فى سعيهم الحثيث لغسيل ادمغة الاجيال لتشكيل وبلورة وتأليب الراي العام بالمنطقة وتوجيهه ضد الدولة العبرية والشعب الاسرائيلي الا انه و بعد عقود من الزمان فلسان الحال يقول" لا إسرائيلاً اصبحت عدوة للمنطقة كما اريد لها القوميون العرب وحلفائهم من جماعات التكفير ولا هي الشر المستطير كما حاولوا تصويرها للملا ولا راياً عاماً بالمنطقة تبلورت ضدها" .
هكذا تصبح مسألة الهوية من أكبر المعضلات التاريخية وأعقد تحديات الثورة الان ولا حلً لموضوعها سوى الرجوع الى المربع الاول لإعادة تعريفها بما يرضي كل مكونات الفسيفيساء الاجتماعي والسياسي والثقافي والاثني وهوتحدي يواجه الجميع بما فيهم مفكروا القومية العربية بكل شرائحها من اسلاميين وبعثيين وعلمانيين . واي تنصل من المواجهة هذه واي هروب الى الامام يعني دفناً للرؤوس فى الرمال وافصاح المجال لتشرزم المنطقة وتحللها الى عناصرها الاولية. فى مثل هذا السياغ يقتضي ضرورة التحرر من الهواجس التي ترفسهم نتيجة ايمانهم بنظرية المؤامرة التي تعشعش فى سيكلوجيا وأدمغة هؤلاء المفكرين والسياسين و يحكم تصرفاتهم ونظراتهم و شعور بان العالم كله يتأمر ضدهم وضد ارضهم ودينهم وثقافة سيبويه وخمارويه من المحيط الى الخليج ليلا ونهارا . هذه حالة نفسية مرضية تعيسة تنظر للامور بمنظارمقلوب وتحوًل الجلاد الى ضحية و تجعله بطلاً يحتذى به وتحول الضحية والبطل الى خائن يستحق الويل والعقاب كماهو الحال الذي يصوٌر جلاداً مثل صدام حسين فى هيئة بطل قومي ويضعه في مقام شهيد باعتباره "ضحية مؤامرة صهيونية /صليبية" بينما يجعل مناضلاً مثل جلال الطالباني أوالدكتور جون قرنق الى خائن "للامة" .
ان مشهدا يتميز بهذا القدر من التعقيد يستوجب تناوله بمنهج قادر على ملامسة الواقع وقراءته بشكل سليم ويلتقط الاشارات بالصورة الصحيحة وهو ما يفتقده التناول السائد الذي نحن بصدد نقده. ان تناولا كهذا يؤدي لامحالة الى أخطاء استراتيجية تساعد فى إنسداد افاق الثورة ويدفعها الى الانحراف ويغرقها فى متاهات يستحيل أو يصعب الخروج منها وربما تؤدي الي اجهاضها نهائياً.
ونكرر القول هنا بأن ما يجري ليس ربيعاً للعرب وحدهم وبالتالي من الخطأ الجسيم والظلم الماحق تسمية مايجري بهكذا الاسم أو تصويره بهذه الصورة ، كما ان الاصرار على انتهاجه يصبح من باب الحاق الاذي للوضع . فالصحيح انها ثورة كل شعوب المنطقة عرباً وعجماً , مسلمين ومسحيين ويهود وزنوج. وهي ثورة تهدف فى صيغتها الادنى الي تفكيك منظومة سلطة الاستبداد القائمة على اسس ايدولوجيا القومية العربية المتعصبة ويعني ايضاً انها انفجار لمطالب القوميات الاخري غيرالعربية المقهورة فى نزوعهم الجارف نحو تحقيق حق الاعتراف بوجودها الكيفي وتحقيق كرامتها واستعادة تاريخها كتابةً وتفسيراً والاستفادة من دروسها وعبرها ومغاذيها ,إضافةً فى حقها فى إحياء وتنمية تراثها ولغاتها وفنها وتصالحها مع نفسها لتحقيق ذاتها بما فى ذلك الحق في تقرير مصيرها والمشاركة الفاعلة فى ممارسة السلطة والاستفادة من الثروة اسوة بالاخريين. فالثورة فى الحالة الراهنة هذه يجب ان يفهم علي انها فرصة لحماية حقوق الاقليات ، دينية اواثنية اوجهوية فى اطار من الدساتير الديمقراطية اللبرالية تخاطب جملة المعضلات التاريخية المزمنة في المنطقة مثل قضايا تحرير المرأة من براثن قيود و ضغوط القيم البالية . كما تأتي فى صلب تحدياتها مسألة ضمان عدم إستغلال الدين فى الاغراض السياسية وإقرارمبادئ الحريات العامة وفصل السلطات وإستقلال القضاء وكذلك تحدي الاعتراف بالمواثيق الدولية والتعاون مع منظومة الامم المتحدة وهيئاتها المعنية لتحقيق الرفاهية لشعوب المنطقة اسوة بشعوب العالم والاعتراف بفكرة العدالة الدولية "عصارة الفكر الانساني المعاصر" والانتماء الى اجهزتها وعلى راسها المحكمة الجنائية الدولية وكافة منظمات حقوق الانسان وتبني مبادئ التعايش السلمي مع الدول وشعوب العالم الاخرى والمساهمة بفعالية فى تطوير الياتها فى حفظ وصيانة السلم والامن الدوليين.
هكذا يطول سلم تحديات الثورة وتتوسع في قاعدتها الاجتماعية افقيا وتتشابك وتتعقد قضاياها من مرحلة إثر اخري ليضع الجميع امام حقائق تتطلب حلولاً أكثر تعقيداً. فى مقدمة المعنيين بواجب التصدي لما يجري من الانهيار من تقديم للبدائل الفكرية وللحلول السياسية الناجعة وفق قراءة واستيعاب سليمين للحالة هم الاعلاميون والمحللون والسياسيون ونشطاء المجتمع المدني وكل النخبة الفكرية عرباً كانوا ام عجماً ومن اقصى يمينهم الي اقصى يسارهم. كما ان التصدي المطلوب هنا يجب ان يتجاوز اسلوب الغش والتضليل والاحتيال او تزييف الحقائق التى سادت بالمنطقة تحت مظلة الفكر القومي العربي . فالتاريخ لايدار ولايستوعب مغاذيه الا وفق منطقه العقلاني الصارم وتبدأ الاسترشاد بالمنهج العلمي فى الرصد والتحليل والتوصيف. فما يجري امامنا هو انهيار للامبراطورية التى تأسست وفق رؤية الفكر القومي العربي وانحدر حكامها من المجموعات العربية دون سواهم بيد ان الذين يقودون عملية تغييرها الان هم كل الوان طيف القوميات والشعوب بالمنطقة عرباً وغيرعرب بما يعني ان الحلول والبدائل التى توفرها الثورة يجب ان تصب فى مجرى تخدم مصالح وطموحات وامال كل هذه الشعوب بلا استثناء وبتراضيهم. وحينها فقط تصبح للهوية في المنطقة معني لكونها مرآة تعكس مكونات السبيكة الاجتماعية للواقع المتنوع وتعبر تعبيراً حقيقياً لوجدان شعوب المنقطة حيث تصبح المواطنة فيها اساساً للحقوق والوجبات وشرطا لاقامة الدول كما يمليها منطق عالمنا المعاصر و عندئذا يجب ان تكون المنطقة قد تحررت من سطوة وهيمنة الغرور القومي والطغيان الفكري والعنجهية الدينية وليس بما تم فرضها من مفاهيم لا تتوافق او تنسجم مع الواقع من صنف ( منطقة عربية او وطن العربي او عالم عربي) . هذه مفاهيم لا تصلح الا لوصف امبراطوريات تهيمن عليها و تتسلط فيها قومية واحدة علي باقي القوميات و هو حال هذه المنطقة عندما تسلطت عليها قومية الاتراك العثمانيين حين من الدهر ونهج في دربه و محاكاته بقوة الفكر القومي العربي ولكن بلا جدوي.
بهكذا النظرة الشاملة والقراءة الفاحصة يجب ان يقتنع الجميع بان المنطقة برمتها بدات تخرج بالفعل من قوقعة الدكتاتورية وقبضة الشمولية الى رحاب العالم المعاصر والعولمة الحديثة فى تحالفاتها المعقدة وتحدياتها المتشعبة وهي مسيرة قطعاً تتطلب وقتاً طويلاً ومريراً ومخاضا عسيرا وربما دموياً فى كثير من احيانها كما بدا ذلك جلياً فى السودان واليمن وليبيا وسوريا .
نتناول فى مقالنا القادم موضوع مخاطر صعود قوى الظلام والسلفية فى المنطقة.
ترايو احمد على
Email: [email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.