أيها المستصحفون ... سيأتيكم المستقبل حافيا إن لم تذهبوا إليه بنعليكم ميرغني معتصم [email protected] حين تغيب الوسائل،.. يتولى البشر نقل ما يعرفون إلى بعضهم البعض مباشرة. وأيضا ثم أيضا، إن حماية المجموعات البشرية والدفاع عن مصالحها وأرائها ومعتقداتها، ما عادت ممكنة بواسطة العزل والمنع والرقابة التقليدية،.. وما عادت ممكنة بالإصرار على الخصوصية وحدها. *************************** يتجاسر الأمس ... فعندما لم يك المواطن في السابق لا يلِّم إلا بأخبار منطقته، مع جرعة يسيرة من أحداث العالم مطلع كل صباح من الصحف،راهنا، لم تتواتر تلك الحاجة لتظل قائمة لانتظار الصحيفة ليقف على أخبار الكوكب طازجة كل لحظة. فالخبر أصبح يوزع ويبث على أسلوب عمل شركة "ويسترن يونيون" لتحويل الأموال : "أرسل الآن، استقبل الآن". ورغم المستجد الملحاح، ظلت صحفنا متقيدة بتقليد النشر في صباح اليوم التالي، رغم أنها أخبار "بايتة"، في صحف تحافظ على أرتال من الصفحات المختنقة بمواد يجري "سلقها" على نحو جزافي في أغلب الأحيان، أو تماهيا مع القواعد الملغزة للصحافة. وضمن المنحى،لا يناهض أحد مقولة أن ممتهن الصحافة، هو مقترف للمتاعب بحذق. ولسنا هنا بصدد إحصاء أو رصد الصحافيون الذين فقدوا حيواتهم إبان تغطيتهم لأخبار الحروب والكوارث، أو أولئك ممن زج بهم في السجون لمواقفهم غير المداهنة، خاصة في البلدان التي تشكل فيها صحافة " حملة المباخر" و "مادحي الأحذية" الإطار العام لميدان الإعلام، حيث يغيب النقد البناء، ويتنامى مع تغييبه المتسلقون الخائفون على كراسيهم الوثيرة وامتيازاتهم الضئيلة، ممن يتحركون بالإيعاز عن بعد. إن الصحافة التي تروم بناء دولة الحق والقانون، ليست مهنة من لا مهنة له، ولا مكان فيها لأنصاف المستصحفين، أو من لا باع لديهم . يطل اليوم ... أمام وجوهنا أمس ذكرى اليوم العالمي للصحافة وحريتها، وبما أننا لم نبلغ السقف في ممارسة حرية التعبير، فقد خبرنا ضمن هذا المفهوم كثيرا من الأخطاء،التجاوزات، والعقبات التي تبدو كرقع شاذة في ثوب الحرية الصحافية، بل وجنح، عبر مسيرة سلطتنا الرابعة،بما هدد في بعض الأوقات بانتكاسات قاتلة، استقدحت نفورا اجتماعيا حيال صحافة التهويل، التطبيل، والعويل، التي تجاوزت أن الصحافة، التي تعتبر الحاضن الطبيعي لحرية التعبير، يمكنها رتق ثوب التصحيح والتعديل الذاتي، في إطار ممارستها لهذه الحرية، رغم أنها لم تبرأ بعد من علتها القديمة لترتقي إلي مستوي الرسالة، ولم يستطع بعض أباطرتها التفريق بين حرية التعبير،النقد، والمعارضة من ناحية، وبين التهجم،القدح، واغتيال السمعة والتراشق اللفظي من أخرى. بداهة، أن للصحافة حقا لا ينازع في ممارسة نقد السياسات، وكشف مظاهر الخلل والفساد، ومساءلة المسؤولين، ومعارضة ما تري من إجراءات،مواقف،وقوانين، وأن تحتكم في ذلك كله إلي محكمة الرأي العام. ومن المستهجن التشهير بمن يختلفون مع الآخر ومحاولة تحقيره، دون أدنى وازع غير الإثارة الصحافية،عوضا عن توجيه النقد لسياسات بعض المسؤولين، والتصدى لها بالتحليل الحصيف، واضعين في الاعتبار، أن التداول الحر للأفكار والآراء، هو أحد حقوق الإنسان الجوهرية,فيجوز لكل مواطن أن يتحدث،وأن يكتب، ويتعامل على نحو حر مع المسؤولية أمام سوء استخدام هذه المزية، ضمن المسارات التي يحددها القانون. كما أن إعلان المبادئ حول حريات الصحافة في الوطن العربي، الصادر عن المؤتمر الخامس في ديسمبر 1976 أتى في مادته (6) ما ينص على : "لا يجوز اعتقال الصحافي، أو حبسه احتياطيا في قضايا الرأي، ولا يجوز تعطيل الصحف إداريا، أو مصادرتها. ويعود الحق في ذلك للقضاء وحده". إذن، فإن حرية التعبير، كما قرأ ميثاق الشرف الإعلامي العربي، هي شرط أساس للإعلام الناجح. وهى مكسب حضاري يتحقق عبر كفاح الإنسان الطويل, فضلا عن إنها جزء راسخ ضمن الحريات الأساسية المدرجة في المواثيق الدولية. قصارى قولي، لا أريدنا أن نتعاطى وحرية الصحافة والتعبير، وفق منظور دول مغلقة ينحسر فيها هذا المكتسب لأن الرأي العام لا يزن شيئا في تكوين السلطة ومراكز القوى، بينما دول منفتحة تعمل على تمكين مبدأ التعبير الحر، وسيادة حرية الإعلام، لأن الرأي العام يؤخذ في الحسبان ضمن الأداء السياسي للدولة. ولعل الممارسة والتجربة تضمن عدم انتقال حرية الصحافة من وسيلة للتغيير والتقدم والاتصال بالثروة المعرفية، إلى وسيلة لنشر الفتن،وبالتالي تعبئة المجاميع الوطنية ضد بعضها، وتسميم المجال العام. فبإسكات الآخرين وشطبهم أنت لا تتقدم،.. كل ما تفعله هو أنك تقفز فوق مكانك، .. فالذين أسكتوا المخالفين اكتشفوا متأخرا أن التاريخ تجاوزهم. سيأتي الغد ... حقا ونتوسم، أن لا تصبح معرفتنا بفصول السنة الصحافية لدينا مقصورة على لهيب المكايدات و زمهرير الملاسنات، .. نتوسم أن يتصالح الصيف والشتاء في ساحاتنا لننعم بربيع توافقي قبل الخريف العاصف، وبعيدا عن جنوح تفكيرنا إلى أقصى اليمين و أقصى اليسار، وأن يُعمد إلى تغييب الاعتدال كي لا يبرز رتاج بين أرض أو سماء. وإن كان الهاجس المشترك بين أبناء الوطن كافة هو الحق والقانون، فيتعين لهذه العلاقة أن تظل صادقة دائما، فالصحافي لا المستصحف، بمفرده هو مجرد خيط من خيوط المجتمع، لابد له أن يتصل ويعتمل مع كل النسيج، ومن بينها السلطة، بغية توسيع عدسة رؤية صحافتنا حتى تتحرر من تمركزها حول الذات، وتتماهى مع مسؤولين يتمازجون معها في ذات الهم،.. في ذات الرسالة،.. في ذات الوطن، .. قبل أن يأتينا المستقبل حافيا. ( أخبار اليوم) [email protected]