تبلغ مسامعنا الآن «عوة» أخرى مما اشتهرت به وزارة الزراعة مؤخراً. فلم نكد نطوي ملف تقاوي زهرة الشمس حتى ثارت مسألة القطن المحور هذه الأيام. وكان وزير الزراعة، المتعافي، طرفاً نشطاً في النزاع في الحالتين. وبغض النظر عن صحة موقفه إلا أن تكرار «العوة» يطعن في الملكة القيادية للوزير وخصومه من مهنيّ الهندسة الوراثية. فليست الصحف السيارة مكان مناقشة مثل هذا الأمر المهني الجلل. فمكانه المعامل والسمنارات والأوراق العلمية في نطاق إدارة للإبحاث تامة التاهيل والعدة. ولا تزيدنا هذه العوة إلا شفقة على هذه الوزارة التي ابتلاها الله بالنبأ المحبط. فقد صارت، وهي أهم صناعة سودانية، مكاناً ل»استراحة محارب» لمن استعفى من ولاية الخرطوم. ثم سمعنا بحزن عن «تشليع» إدارة ابحاث الجزيرة وإهانة علمائها. وتتابعت العوات عن تقنيات الزراعة على جمهور ظن أن القيادة السياسية والمهنية في الوزارة ستكفيه شرور اللجاج ليتبينوا في الأسواق. ليست الملكة القيادية من بين مؤهل الجدارة للعمل العام عندنا. بل لم ننم أبداً هذا المعيار منذ بدء الخدمة العامة في السودان المستقل. فالعمل العام أمر تكليف من سلطان وتشريف منه. وعاقبة الفشل فيه «تغيير المواقع» أو «استراحة المحارب». فالمتعافي يزج القطن الآن في امتحان بلا تورع وهو الذي اشتكى من أضرار الحملة الإعلامية حول تقاوي زهرة الشمس على تسويق الزهرة. وكأنه لا ينتصح حتى من نفسه. فما يذيعه المهنيون عن إضرار القطن المحور مخيفة لو صدقوا. ولو سلس زمام القيادة للمتعافي لاستنفد أكثر آراء خصومة الألداء في الوزارة. ولكن يبدو أن المتعافي لم يتعود كبح جماح مشروعه الصواب (فيما يعتقد) ليتدرج بالآخرين، حتى أهل البغضاء، ليروا فيه ما رأى. ويكون الذي «بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم». وتصدأ الملكة القيادية حين يستسهل القائد دمغ خصومه بالغرض. وهذه عاهة «تزهر» في بيئة سياسية تمج المعارضة. فالخلاف فيها مؤامرة وكيد وسوء طوية. فالمتعافي اتهم المعارضين لتحوير القطن بأنهم من أصحاب شركات الرش التي ستفقد سوقاً هاماً لأن التحوير لا يحتاج. ويعجبني كماركسي مثل هذا النظر للجذور المادية في تدافع الناس. كما وصف الوزير علماء بذاتهم باللغو. وربما صدق المتعافي في الحالتين ولكن الكسب القيادي الحق ليس في الأبلسة ولكن في حمل هذه المشروع المبتكر إلى غاياته بأقل درجات التلبد بين الرأي العام. يبدو أن طول مكث المتعافي وغيره في الوظيفة العامة أغراهم بالخلود في أم بناياً قش. فقد جاء في أحاديثه بمفاهيم لا أساس لها في كتاب القيادة. قال إن إنجاز الوزير في وزارة كالزراعة لا يظهر إلا بعد عشر سنوات. وضرب مثلاً بمكث وزير زراعة مصري لم يصرح باسمه نحو 22 عاماً حتى تبين. وكأن نجاح الزراعة رهين بالوزير لا الوزارة. ولو قرا المتعافي تعليق قاريء على نظريته هذه لأتعظ. قال القارئ إن الوزير المصري هارب من العدالة الآن لفساد وسرطنة تقاوي. ويبدو أن مما حال بين المتعافي والقيادة الحاذقة للمهنيين أنه يعتقد أنه مهني منهم بل أفضلهم ربما. فحين سألته هويدا سرالختم عن شأنه في وزارة للزراعة وهو طبيب قال إن الطبيب زراعي «بشري» يدرس كل علوم الزراعي. وودت لو لم ينسق المتعافي مع سوء الفهم من أن الوزير لابد أن يكون مختصاً بعلوم وزارته. فالوزير سياسي وأفضل الوزراء من جهل علوم وزارته حتى لا يلتبس عليه أمر السياسة والمهنة. وأزعجني من مفهوم القيادة عند المتعافي أنه يعتقد بلزوم أن يكون مثله في إلإدارة المباشرة للمشروع الذي يؤثره. فقد قال إنه أراد بأن يكون رئيساً لمجلس إدارة مشروع الجزيرة لأنه انطوى على إصلاح عظيم له. وكأن هذا الاصلاح لا يكون بالقيادة من بعد. قالت زوجة المتعافي أنه لو لم يخس بعزيمة منه وصبر لما نفد بجسده من حطام الطائرة المعروف. وربما جاء الوقت ليتخلص المتعافي من أحمال الوزارة وأورامها ليسلم من عوك عاك. فمثله لا يستحق أن يكون في خشم الناس طالما لم يجعل منهم أولياء حميميين. «أبقى رقيق» كانت عبارتنا قديما في «إتخارج». الاحداث