العين الثالثة هناك فرق..!! ضياء الدين بلال من المهم توصيف ما حدث في شوارع العاصمة الخرطوم وبعض المدن السودانية، هل هو عبارة عن مظاهرات أم احتجاجات؟! هناك فرق-على طريقة الزميلة منى أبوزيد- المظاهرات فعل سياسي جمعي يقوم على الاحتشاد في مكان محدد مع رفع شعارات مكتوبة وتحديد مطالب. أما الاحتجاجات فهي تعبيرات متفرقة تأخذ أشكالاً مختلفة ومتنوعة ويغلب عليها التجمع في وحدات صغيرة قابلة للاتساع، وقد تحتمل التعبير الفردي، وهي ليس لها مكان بداية ولا نقطة ختام وتقوم على التنديد لا المطالب. والسؤال الثاني الأكثر أهمية، هل ما حدث فعل عفوي بنفس شعبي أم صناعة سياسية معدة ومرتبة في مطابخ حزبية، تدير أمرها ليلاً في غرف مغلقة وبصوت هامس؟!! تصريحات ومعطيات عديدة تقول إن الحكومة لم تكن تستبعد أن تقابل قرارات رفع الدعم عن المحروقات وزيادة الضرائب والجمارك برفض شعبي، لا سيما أن الأمر لم يمض بسهولة داخل أروقة تنظيمها السياسي وبرلمانها الموالي، فمن الطبيعي ألا يمر بسهولة ويسر في الشارع العام!! باعتراف قيادات حزب المؤتمر الوطني، الإجراءات الاقتصادية المعلنة قاسية ومريرة، وكانت تستحق حواراً واسعاً وشفافاً، أوسع من فناء الحزب الحاكم، حوار نوعي يتسع لخبراء الاقتصاد من كل الاتجاهات بدون بطاقات اعتماد حزبي، وحوار شعبي عبر وسائل الاتصال الجماهيري يبسط الأفكار ويسهل الأرقام، حتى يقتنع الشعب بعدم وجود بدائل غير العلاج بالكي لمريض مصاب بالسكري!! ثمة ما ضاعف الشعور بالخيبة وهو أن القرارات الاقتصادية جاءت والذاكرة لا تزال تحتفظ بتطمينات سياسية واقتصادية تقلل من المترتبات السلبية لانفصال الجنوب، وهذه التطمينات إما أن تكون بمثابة مخدر موضعي لعملية جراحية معقدة سرعان ما ينسحب من الجسد ويتركه تحت سطوة آلام حادة. أو أن التطمينات كانت مترتبة ضعف وقصور في مكنيزمات التوقع والاستشراف، فانتج ذلك قراءات وحسابات غير دقيقة، لا تكترث لقيمة الأصفار ولا تنتبه لاستقامة الأرقام الصحيحة فذاب الثلج بين اليدين! التوقعات الراجحة، أن ما حدث في شوارع العاصمة الخرطوم وبعض المدن عبارة عن احتجاجات اقتصادية دخلت إليها أصابع بعض القوى السياسية لتعديلها جينياً لتحقق مصالحها في إسقاط النظام من مقعده والجلوس في مكانه..! وكان يمكن لهذه الاحتجاجات أن تتطور وتتسع قاعدياً، بقوة دفع ذاتي، لتمارس أعلى درجات الضغط على الحكومة لتتراجع عن قرار رفع الدعم عن المحروقات مثل ماحدث في حكم جعفر نميري في زيادة السكرعام 1982 وما حدث لحكم الصادق المهدي في الديمقراطية الثالثة عام 1988....! ولكن ما حدث يوم الجمعة الماضية من تخريب وحرق أيقظ الذاكرة الشعبية القريبة لتستدعي ذكريات فوضى دامية وقعت إبان أحداث سابقة واحتمال أن تحمل الرياح شرر الاحتجاجات إلى أماكن كل شيء فيها قابل للاشتعال!! ومن المؤكد أن البيانات الصادرة من الحركات المسلحة وظهور مالك عقار من على شاشة العربية وحديثه عن مشاركتهم في الاحتجاجات ، كل ذلك أقام حاجزاً معنوياً سميكاً بين الجماهير ذات الأجندة الاقتصادية المباشرة والقوى المعارضة التي تريد حرق النظام ببتروله!! يجب ألا تسعد الحكومة كثيراً ولا تطمئن لهذا الحاجز، وألا تراهن كثيراً على حماية سلطتها بأجندة الخوف من بديلها، فصدور بعض القرارات وتصاعد بعض التصريحات المستفزة قد يمضي بالأحداث إلى نقطة صفرية، تتساوى فيها الخيارات وتتماثل فيها البدائل!! السوداني