كتب : ابراهيم علي ابراهيم : [email protected] رحم الله الدكتور محمد سعيد القدال قامة وطنية وفكرية , قدم حياته في يسر ونبل من أجل الشعب السوداني , في كتابه " كوبر .. زكريات معتقل في سجون السودان – صادر عن الشركة العالمية للطباعة والنشر – الخرطوم 1998م " تحدث بإسهاب عن الهجمة الشرسة التي واجه بها النظام المايوي الحزب الشيوعي بعد فشل إنقلاب 19 يوليو 1971م والذي قاده بعض الضباط الاعضاء في الحزب الشيوعي ( دون قرار من قيادة الحزب ) , يقول القدال لم يحدث أن تمت منازلة سياسية بمثل ذلك العنف الدموي في تاريخ السودان الحديث , إلا حركة الامام المهدي بعد هزيمتها في معركة كرري عام 1889م وحركة 1924م , وكان العنف في كل من الحالتين قد تم علي يد الادارة البريطانية . أما نميري ومن تعاونوا معهفي تنفيذ المزابح التي وقعت في معسكر المدرعات بالشجرة بالخرطوم , فهم من أوائل السودانيين الذين يبتدرون العنف الدموي في معترك السياسة السودانية , وكان عبد الخالق محجوب والشفيع احمد الشيخ وجوزيف قرنق أول سياسيين مدنيين يعدمون في ترايخه الحديث .. " . .. والذي يهمنا في هذا المقام ان الفنان والموسيقارالكبير الراحل محمد وردي وكذلك صفيه الفنان الكبير الموسيقار محمد الامين كانا من ضمن معتقلي سجن كوبر . يقول القدال عنهما : " لكل منهما صوته المميز بقوته ولكل منهما ابداعه المتميز فيمجال الانشودة الوطنية , فما ان يغني أحدهما حتي تهتز جنبات السجن , بل يمتد صوتيهما خارج الاسوار فيقف المارة يستمعون إلي وردي وابو الامين وهما خلف القضبان . وكانت أكثر الليالي إثارة يوم غني وردي مقطعا من قصيدة علي عبد القيوم التي يقول فيها : أي المشارق لم نغازل شمسها ونميط عن زيف الغموض خمارها.. أي المشانق .. لم نزلزل بالثبات وقارها أي الاناشيد السماويات لم نشدو لألحان الجديد بشاشة أوتارها .. " وصفق الناس وهتفوا . وكنت علي يقين أن صدور بعضهم كانت تغلي وتنفجر حمما , وبعضهم غالب الدمع فغلبه الدمع , لقد تحولت الهزيمة وحالة القنوط واليأس التي رانت علي القلوب لمدي , إلي قوة صامدة من التحدي . ويقول بلغت الاثارة قمة أخري عندما غني وردي ومحمد الامين مقطعا من قصيدة محمد المكي ابراهيم : جيل العطاء : من غيرنا يعطي لهذا الشعب معني ان يعي من غيرنا ليقرر التاريخ والقيم الجديدة والسير من غيرنا لصياغة الدنيا ةتركيب الحياة القادمة جيل العطاء المستجيش ضراوة ومصادمة المستميت علي المبايء مؤمنا المشرئب إلي النجوم لينتقي صدر السماء لشعبنا جيلي انا .. وبدأ وردي في تلحين الشاعر الفلسطيني قصيدة سميح القاسم في رثاء عبد الخالق محجوب التي يقول مطلعها : شهقت غابة مانجو ناضجة ياحبيبي خض اسراب العصافير حجر شهقت افريقيا الاخري وصاحت ياحبيبي ونعاك الضؤ للضؤ نداء لا خبر . " وهذه القصيدة بصوت الراحل محمد وردي اسمعت اليها في سهرة في منزل الصديق العميد ركن عصام الدين ميرغني طه , وحينما طلبت منه تسجيلها للتوثيق رفض ذلك وقال إنه التزم لمحمد وردي بعد خروجه من السجن أن لا يعيرها أو يسجلها لأحد وقد التزم بذلك , وأطلب منه الآن أن يفرج عنها , فهي جزء من التاريخ النضالي للفنان الراحل وردي , وجزء من التاريخ الذي صار ملكا للأجيال الجديدة . ولحن وردي في الاحتفال بذكري اكتوبر التي صادفت ( أكتوبر 1971م قصيدة الشاعر الكبير محجوب شريف التي يقول مطلعها : أكتوبر ديناميتنا .. دينمايتنا ساعة الصفر ركيزة بيتنا وهي الاغنية أو النشيد الرسمي في داخل السجن الذي يودع به كل المعتقلين , أي معتقل يطلق سراحه . كذلك لحن وردي قصيدة محجوب شريف التي تقول كلماتها : مشتاق ليك كثير والله .. وللجيران وللحله كمان قطر النضال ولي وغالي علي إدلي قضي وردي فترة طويلة في السجن , ويحكي ان الفنان الكبير عبد العزيز محمد داود – رحمه الله – وقد كان الأب الروحي للفنانيين , فقام بمحاولة لدي جعفر نميري – رحمه الله – لإطلاق سراحه .. وقد عرف ابوداؤد بالنكته وسرعة البديهه فقال للنميري : " ياريس وردي ده .. " فقاطعه النميري " مالو .. مالو .. ؟ رد علي ابو داؤد : حتعدموه متين ؟ فأنفجر الحاضرون بالضحك . دخل وردي السجن عدة مرات إبان الدكتاتورية الثانية , وتعرض في آخر سنوات النظام المايوي لمحاولة إغتيال , حينما دبرت له حادثة تصادم بسيارة ثبت ان الذي كان يقودها احد عناصر الامن , لكن إردة الله أنجته , مما دفعه للخروج من البلاد , وبقي في القاهرة حتي سقوط النظام المايوي في ابريل 1985م , وقاد هناك تظاهرة وسط الحشود الجماهيرية فرحا بإنتصار الثورة وعاد علي أول طائرة واستقبل في نادي اساتذة جامعة الخرطوم , وحينما طلبت منه إجراء حوار لصحيفة الصحافة رفض .. , إلآ أن الأساتذة أقنعوه بأنني لست من صحفيي النظام المباد . فقال في ذلك الحوار إنه لحن في القاهرة : " ياشعبا لهبك ثوريتك " لمحجوب شريف . ثم قدم بعد ذلك : " بلي وانجلي .. حمد لله الف علي السلامه .. إنهد كتف المقصلة " . وكان العملاقان محمد الامين ومحمد وردي أعضاء في منظمة " الفنانيين الاشتراكيين " وهي تضم عدد من الفنانيين والموسيقيين والشعراء , وكانوا يعكفون في ورش عمل علي إنتاج وتجويد الا بداع الفني , وكانوا غالبا ما يلتقون في منزل الفنان محمد الامين في شارع الاربعين بأمدرمان . كانت السلطات في النظام المايوي قد رفضت تسجيل أغنية وطنية مشتركة بين محجوب شريف ووردي , والتي تقول كلماتها : حنتقدم في وش الريح حنتقدم ونهدم سد ونرفع سد واشتراكية لآخر حد يا اكتوبر المحمول علي الاعناق وثيقة دم نحن براك ما بنسلم . نقل الدكتور عبد الله بولا في مقال له عن الشاعر الكبير كمال الجزولي ان الراحل محمد وردي سأله ذات يوم : " ياكمال أنا فنان " ؟!!! وهكذا الفنان الحقيقي لايقنع بأكتمال رسالته حتي ولو كان محمد وردي , ولا يضع أعتبار للقمة التي وصل إليها, مهما تحلق حوله الملايين من داخل وخارج وطنه , ومهما قدم من تضحيات جثام ينوء عن حملها وجدان الفنان المرهف , ولكن تكامل التكوين الفني لفنان تقدمي .. راسخ الجذر .. يحترم الثقافة وهي التي تحول دون أن تهتز قدراته الفنية . وهذه بعض دروس محمد وردي ومحمد الامين للأجيال الجديدة من الفنانيين . يالفداحة الفقد ويتم الساحة الفنية , سألت الدكتور العالم الفاتح الطاهر حينما زار القاهرة في منتصف التسعينات عن أسباب هذا الهبوط الفني في الساحة الفنية وغياب الفن الاصيل ؟ فقال ببساطته المعهوده : إن غياب محمد وردي أحد الاسباب الرئيسية فهو في حالة ابداع دائم والعديد من الفنانيين في محاولاتهم اللحاق به يبدعون ويجددون .. وكذلك وردي بتصريحاته الساخنه يجعل من الساحة الفنية حية متحركة . هذا بعض ما قاله إن لم تكن الذاكرة حرفت بعض التعبيرات.رحم الله الفنان الكبير محمد وردي بقدر ماقدم لشعبه ووطنه ولأفريقيا وسلام عليه في الخالدين , وتحية للفنان الموسيقار الكبير محمد الامين ومتعه بالصحة والعافية . ابراهيم علي ابراهيم لندن مايو2012