(من جديد جيت تاني + لحظات ندية) دوزنة الماضي والمسافات.. زبد الحنين عبد الماجد عبد الرحمن [email protected] " الموسيقى تملأ المسافة اللانهائية بين روحين" (طاغور) " الموسيقى أعلى درجة من الحكمة والفلسفة" (بيتهوفن) للمغنى الشجي خالد محجوب, أغنيتان يمكن مناظرتهما باعتبارهما لوحتين في لوحة واحدة, بسبب وحدة نادرة تجمعهما في المناخات, والتغنيم اللحني ودوزنة الماضي والمسافات فيهما, وشبكة حوارات التوزيع, والحقل الدلالي للنص "الليريك" لكليهما. خامة الصوت وحدها , ليست هي التي تميز خالد محجوب, في تشكيل هاتين اللوحتين الفالتتين, بل توظيف عناصر هذه الخامة لخدمة تشكيل الأغنية هو ما ماز (من جديد جيت تاني+ لحظات ندية). ليس غريباً أن تجد في هاتين القطعتين النادرتين رائحة مصطفى سيد أحمد وروحه الشموخ ومذاقه المغاير , فالأغنيتان من ألحانه. لكن ذلك كله, لم يقلل أبداً من روح الأصالة في هذين العملين. كان مصطفى يرى في خالد الصحافة شيئا خاصاً, فراح يرعاه بمودة وكَلَف , ويلحّن له الكثير من الأغنيات الأخريات ( أنساك كيف, ندى الميعاد, معاك كنت, شمس الأماني). وينضم إلى هذا الانسجام الغنائي النادر شاعر "الليريك" المائز للغاية مدني النخلي. تتصف القطعتان بتوظيف خاص لعناصر محددة في صوت خالد محجوب كالعمق والانسيابية والتداعي والملاينة والترجيع لتجسيد معاني هذا الحزن الغائر والأسى السحيق الذي يلف الأغنيتين.. وتلك اللحظة اللازوردية الغامضة المرتبطة بالغروب والآصال( الأماسي الحالمة, وانت ساعة المغربية) , ثم هاتيكم الأشرعة الملوحة بالوداع.. وهي تمخر عُبَاب الزمن والروح. تحديداً, يتم توظيف طبقات الصوت التي توحي بالمسافات والمكانات "القصية" المشرورة في نفود لوعة تواقة دوماً جهة الضفاف الأخرى. ثمة نبرات محددة, تُفعل لتجسيم طول المسافات النائية المنثورة في أزمنة من التيه والضياع. القصيدة , كما يقول الرومانتيكون, توحد و"تهرمن" تناقضات العالم!! فبينا يحاول العالِم تحليل التناقضات وفكفكتها, فان الشاعر يحاول لملمة جميع هذه التناقضات في كل واحد منسجم . في النصين يحاول مدني النخلي لملمة تناقضات عالمه الذي يعالجه لترسيم وتخليد تلك الحالة الشعورية الدفاقّة الوافرة.. وهذا يتم عبر استراتيجيات عدة , من بينها المقابلات ( الضياع/الندم- العشم.. ). أدرك مصطفى بحسه اللحني العميق, جوهر "الليريك" في القصيدتين, فراح يصمم تشكيله اللحني لهما على هذا الأساس المكين. يُعنى التنغيم اللحني هاهنا, بتجسيم ظلال المسافات والحسرة والرحيل وتتتبع آثار الذكرى. نجد هنا, هذا السعي المتماهي والمتواجد مع هذا الجوهر( دوزنة التناقضات الشعورية وضبطها في مسار واحد: العشم+ الندم+ الصبا+ الحسرة+ الحضور-قعدتك جنبي وعيونك- + الوداع- خايفة من كلمة وداع ). هذا الطقس "السنجابي" المؤشر إليه بدوال الحزن والمسافات والمشاوير والرحيل والتعب, يتعمق أكثر من خلال حوارات الأورغ والكمان.. كلا الآلتين يجيد خلق مناخات الحزن والحنين إلى شي ما.. هناك.. غامض وسحيق , فالأورغ حزين وكمود, والكمنجات حنيّنة دائماً ودرّارة للنبل و الدموع. ويشتغل الأورغ على طقس من الترجيع والتدوير الزمني( من جديد جيت تاني تكسر صمتي بالنظرة الخجولة, المسافات القصية- الضفاف التي تبتعد شيئاً فشيئا- المشاوير يتعبنك) , فيعمل على ربط كل هذه العناصر الشغّالة بلهف, لخلق الحالة الغنائية المؤطرة للأداء اللحني-الغنائي الكلي للأغنية . وتتيح الأغنية أيضاً.. هامشاً جيداً للتصويت ( vocalisation). الأغنية الجيدة هي دائما تلك التي توظف موسيقى الصوت, فضلاً عن الآلات. موسيقى الصوت لدى خالد محجوب, صاحب السمات النورسية, تفيض بعناصر غنية من الميلودي والهارموني والإيقاعات (العناصر المركزية لأية موسيقى آلية كانت أم صوتية), ما يوفر قدراً عريضاً مما يسمى بالتوازن الصوتي( vocal balance) للأغنية, مضيفاً قدراً معيناً من التعقيد الموسيقى والتنوع الداخلي المطلوب في قطعة نادرة, مثل (من جديد) و(لحظات ندية). هذا العمق الموسيقى الميلودويوي الهاجع هناك في حزن السواحل, ورمال الوداع في صوت خالد ذي القدرة الفائقة على التداعي والترخيم, هو ما منح القطعتين هذا الشكل الجميل , بجانب هذا اللحن النهري الغروبي الوسيم النازل من هناك.. من أعلى الغياب, ومن مرافئ النغم.. ومن زمن الحنين. (من جديد و لحظات ندية) , قطعتان , بمثابة لوحة غنائية واحدة , جاءت نهاية في الجمال, بسبب ما اجتمعت لهما من توالفات نادرة بين مدني النخلي ومصطفى سيد أحمد وخالد محجوب. لقد مازهما بشكل خاص هذه الدوزنة الرائعة بين المساء والرحيل والمسافات .. وهذا الحنين الخاص وحسرات الأورغ ونحيب الكمنجات. ما تزال في صوت هذا النورس البحري الأسمر, قدرات كامنة كبيرة تنتظر التفجير .