[email protected] سؤال لطالما حاول النقاد أن يبذلوا له بعض التفاسير: لماذا يتجاوز الأدب البشر ليتجه بمثل هذه الكثافة والتعمد الملحوظين، نحو (أنسنة) كل الموجودات والكائنات على إطلاقها، بل وإسباغ أنبل الصفات الإنسانية عليها بلا أدنى تحفظ؟! ونجد من ضمن البعض القليل الذي تصدى للاجابة الروائي البرتغالي التسعيني جوزي ساراماغو،الحائز على جائزة نوبل للآداب للعام 1998م،كأول كاتب في البرتغالية ينال هذا التقدير العالمي الرفيع، والذي يُعرِّف نفسه بأنه ينتمي لشجرة العائلة الفكرية التي تضم غوغول وفرانز كافكا.ومن أشهر رواياته (دليل الرسم والخط) و(الوضوح) و(الإنجيل يحب يسوع المسيح)،التي أقامت الدنيا ولم تقعدها،حتى أن السلطات البرتغالية قررت وقف الجدل بنفي ساراماغو نفسه إلى جزر الكناري! يقول هذا الروائي، بعبارات جريئة وصادمة، إن العثور على خصائص إنسانية في أمم الحيوانات ببراءتها الروحية، وفطرتها السليمة وغرائزها السوية وحريتها المحببة،بات أسهل بما لا يقاس من العثور عليها في عالم الانسان! ويضيف بأسى أن روح الانسانية قد نزعت من البشر نهائياً، بينما بثت في سائر الموجودات، بما في ذلك .. الحجارة الصماء! ويمضي ساراماغو ليؤكد بحماسة بالغة،ولغة مشتعلة لا تعرف المجاملة أن أوقع وأفضل شخصياته الروائية على الإطلاق هي شخصية (الكلب)،الذي يمثل عنده الانسانية في أرفع درجاتها،والصفاء الروحي في أنقى ينابيعه،حتى أن (الكلب) ليتفجع من مآل البشر،فيرق، بل ويجهش أحيانا حتى تتخضل فروة وجهه! ويستطرد ساراماغو بان جل ما يتمناه، عندما تذوي كتاباته،وتذهب طي النسيان،أن يبقى (الكلب) شاخصاً في وجدان قرائه كشخصية خيرة عميقة الإنسانية! ويختم الروائي البرتغالي إفادته بأنه،في لحظة الكشف التي تعطي النص عمقه الإبداعي و رؤاه الفكرية، وجد نفسه يختتم روايته بعواء (كلب)، لتكون تلك الصورة الرامزة إشارة طاوية للسؤال الذي يطرحه في جل رواياته عن ماهية الحياة ومعناها الغائر،ليفتح ذلك العواء الحزين باب التأويل على مصرعيه. من يدري ، فلعل كلب ساراماغوالمحزون الكظيم يدعو البشرية في أوابد حضيضها أن تبدأ جدياً في البحث عما يعوض عن إنسانيتها المسفوحة، في زمن انتصار القبح والخواء والجدب والعبث. وبما أن العقل البشري يبدو وكأنه يوشك أن ينزل عن سدته، لتفوز بالسلطة وتحكم البشرية أعضاء أخرى، فما ضر هذا (الكلب) أن يتناسى أساه ومكابداته، فلا يجد حرجاً في أن يفخر ويباهي بما خلعه عليه الروائي الكبير من صفات، وما أسبغ من مكرمات، من وقف ميراث عظيم لا مُطالب به. لكن الكلب لا يفعل، بل يتلفت مشفقاً حسيراً كسيفاً وهو يرى الإنسانية في عبثها المتقن، تأخذ أنفاسها بعمق، قبل أن تقفز في سقوط حر،يخترق كل حواجز الصوت،صوب القاع!