[email protected] في زمان متقارب الي حد التعانق ، رفرفتا بجناحيهما و رحلتا ..دعوني أنصبهما قديستين و علامة قديستهما ثلاث ، سلامة الطوية و الأبتسام في محبة صادقة و نثر الجمال فيما حولهما . .. رحلتا و كنت ما زلت أتذكر تفاصيلهما بدقة و وضوح في الألوان و المعاني و الحركة ..أبتسام ، أول عهدي بها و هي عروسُ تتهادي فوق بركة من الأحلام و الأماني الموغلة في يقينية وعدها مع الأيام ..نغمة ضحوك ، تتبعها أينما ألتفتت و خفة في الروح ، كريشة تتهادي في الهواء الطلق و لا تمس الأرض أبداَ . ..كانت القديسة الأخري "رقية" ، تشع بعبقرية متفردة ..شجرة باسقة الظلال ، تعطي الظل الوريف و الخضرة التي تبهج الناظرين ..علاقتها بزوجها ، كانت علاقة نموذجية تفوق المعتاد في واقعنا السوداني . و كان هذا الشيء مثار دهشة كل الذين ألتقوهما ..شيء أشبه بصداقة عميقة تغطت بدثار الزواج التقليدي و لكن خلقت لونها و طعمها الخاص . .."أبتسام" ما زال يداعب ذاكرتي مشهدها في تلك اللوحة التشكيلية الرائعة كأجمل ما يكون .. عروس ترفل في حنائها الزيتوني و ُخفها الأبيض ، تداخل نقوش السواد مع البياض ليعزف سمفونية أنيقة اللحن في واقع يزحف بسلحفائية من سبعينيات قرن أنثلم و أنصرم ، زاجا بنفسه في خضم ثمانينيات يعتورها كثيرا من الأضطراب و التضحيات الجسام في حياة السودانيين . ..كانت الأحلام ممكنة علي كافة المستويات ، قبل أن تستحيل و تقبر بقية رومانسية سكنت العالم ثم أنقشعت رويدا ، رويدا . ..دخلت أبتسام حياتنا أو نحن أقتحمنا عالمها ، الأمر سيان ، لكن كانت تفيض بأنسانية ، رذاذها ينفح الأمواج العالية و المنخفضة ، يميزها رجاحة عقل و روح من الورد ، أستطاعت بتميزها هذا أن تسوق كل المتناقضات من حولها الي هارموني بديع ، غيرها كثر فشلوا في تحقيق هذا الهارموني في واقع تحكمه وتيرة التناقض و أحيانا اللا معقول . ..كذا "رقية" كانت بالرغم من عدم التقائها بالأبتسام و لكن كانتا تشتركان في ذات الروح ، كأنما روح واحدة تجسدت في ساجدتين ، مثقفة ، تحاورك بعقل مفكر و بلغة أديب و بأخلاق ملائكة ، كانت مهذبة للدرجة التي تخجل خلجات الأجنة في أرحامها . .. "رقية " أتت بأدب عجيب في فن و نسق المجتمع السوداني ، كانت في أشد أوجاع المرض السرطاني ، كانت تطلب من زوجها أن يحملها بعربيته لتزور الذين لم يستطيعوا معاودتها في مرضها ، كانت تجد الأعذار لكل الناس ، كيف لا و هي سليلة تربية المربي العظيم الأستاذ محمود ، زهرة من بستان يضوع بنكهة الأنسان ..أنسان الجمال القادم ليغير حياتنا البليدة الحس و المملؤة بالأوهام و الخائرة الذوق و الأدب و القوي . .. كنت كلما غبت عن السودان و عدت ، كنت أجد الوجوه متربة ، حزاينية ، مرهقة بهول ما يحدث في أيامانا السودانية المخاتلة ، عداهما ، كنت أجدهما صابرتين ، تشعان بالنور ، تنبضان بذات الضحكات الأولي التي عرفتهما بها . لم تتبدل حياتهما كثيرا ..مزيدا من الأبناء و المعاناة في تعليمهما و السهر عليهما في بلد مختطف و يئن من المخاوف و الصراعات و الفشل متربع فيه كأبدي يمرح في سوح معاناة الناس ..ظلتا وفيتان لروحهما الجميلة .. و بغتة و أنا في آقاصي السودان القديم ، قبل بتر جنوبه و نثر رائحة الدم في بقية أطرافه ، أتاني خبرهما و تجربة معايشتهما مع الألم ، كان المرض الذي لا يعرف هدنة أبدا مع الجسد ، كان كل يوم ينتشر المرض في جسديهما ، و كان أيضا جسد الوطن يتفاعل مع معاناتهن بمرضه المستعصي ، تكالبت عليهما جميعا الخطوب ..الوطن و القديستان ..الندوب و الجروح و الفيروس و الجرعات الكيماوية ، كل يصارع الوقت ..كان أكثر خوفي بتر جسد الوطن و خوفي العميق ذبول تلك الأبتسامات التي كم أمدت الناس بالأمل مع الحياة للدرجة التي أصبحت هي تعويذة الناس المفضلة . قبيل مغادرتي السودان ..طفت عليهما أودعهما و يودعاني قبس من شجاعتهم في مواجهة الخطوب . في القاهرة أستقبلت أحداهن مع زوجها في آخر معركة مع المرض ، كان الجسد قد أنهار تماما الا من روح تضيء كقنديل يجابه رياح الموت ، القدمين ذوات الحناء الزيتوني في أوائل الثمانينات غدتا كرسي متحرك ، و جسد يئن من الألم حتي فاض و أندلق علينا ، فطفرت غصبا عنا الدمعات و هناك القلب موقن بالرحيل . ..بعد أيام فرحت ، كان مصدر فرحي عودة الأبتسامة من بطن حوت الموت ، كانت تغافل الموت و تضحك لنا ، ضحكة موغلة في هزيمة الموت في عقر داره "الجسد المتهالك" . ..هبّ هواءَ خفيف ملأ رئتيها ، ثم أفاض علي الضحكة رونق جديد ، كنت أعلم أنها تودعنا بذات الأبتسامة التي أهدتنا لها في أوائل لقاءنا بها . عادت للوطن المبتور النازف و أسلمت الروح في أول يوم في العيد ، كانت الأيادي تتصافح و كانت الروح تصافح عالم البرزخ ، بعدها بقليل أتانا خبر رحيل القديسة الأخري في السودان أيضا . ..رحلت الأجساد و بقيت أبتسامتهن تتلألأ ككوكب منير في سماء حزننا ..هكذا ودعننا و حتي وداعهن كان فيه سمة الوهب و الكرم المفاض ..لكنّ الرحمة و المغفرة بلا عدد ..توسدن جنبات الفردوس و أبتسمنَ ، فأنتن في حضرة أب رحيم أكثر رحمة منا جميعا . جبير بولاد – القاهرة