أغمض عينيه ونام تلك النومة الأبديّة، وغادرت الروح الشفيفة ذلك الجسد الناحل الذي هدّه المرض وهزمه الموت. غاب الأخ والصديق، الشاعر الكبير والدبلوماسي الذي أضاف ألقاً لكل موقع شغله، الأستاذ سيد أحمد الحردلو.. غاب ورحل وقد عرفته طفلاً، فأحببته لأنه لا يعرف التجهم ولا (صرة الوش)، كان نجماً دائم الابتسام، يلقاك هاشاً باشاً، ولا يغادرك إلا وصورته تنطبع داخلك لامعة مشرقة.. براقة. عرفت شاعرنا الجميل أول ما عرفته في منزلنا القديم بشارع كرري في أم درمان، وكان قريباً للسيد الوالد الأستاذ محمود أبو العزائم - رحمه الله - الذي بدأ ينشر له شعره وهو في مراحل الدراسة والطلب بعد.. وكانت علاقتي به تقوى وتتوطد على مر السنين، ولم ينقطع التواصل بيننا طوال الفترة الماضية، وعندما امتحنه الله بمرض الفشل الكلوي، وجدنا أنفسنا - مع آخرين - نهب لنجدة رجل زرع في دواخلنا المفردات المبهجة، فاخضرت الدواخل وتلونت المشاعر بورد الحروف وزهر الكلام. رحم الله شاعرنا الرقيق سيد أحمد الحردلو الذي لم يعد بعد اليوم يشكو ألماً ولا يعاني من وهن الجسد وأعضائه، ولا عاد يجفوه صديق.. لقد أصبح في يوم الجمعة المباركة، بين يدي مليك مقتدر، غافر للذنب رحيم. لا أملك أن أرثي أستاذنا الشاعر الكبير صاحب (بلدي يا حبوب) التي لو قالها وحدها لكفته.. ولا استطيع.. لذلك أجد نفسي وفي يوم رحيله أنشر قصيدته الناطقة.. الشاهقة (كبير الدراويش نام) التي قالها عندما توفي الشاعر الكبير محمد المهدي المجذوب، وأهداها لروحه الطاهرة. * كبير الدراويش نام: (إلى روح شيخنا محمد المهدي المجذوب) -1- حينما انكسرتْ هامةُ الزمنِ المشرئبِ... وانغرستْ لا مكانْ ندَفَ الصّمتُ فوق تخومِ الزّمانْ فتحجرتْ الساعةُ الحائطَيةُ في ساحة ِ المهرجانْ وكانت تدقُ طبول (بعانخي) وتعلنُ أسفارَ (سنارَ) .. تنشدُ أمجادَ (كرري) وتتلو ... فيختلجُ السهلُ والشاطئانْ ... هاهي الآنَ .. موغلة.. في الظلامِ ومدبرة.. في الحطَامِ وهاهو ذا الزمنُ الحجريُّ ترهّل عبر المكانْ... كبيرُ الدراويش أرهقه الذكرُ فافترش الأرضَ أخفى بسبحته فمَه .. وتدثر جبتَه.. ثم نامْ .. -2- .. سكت الطّارُ .. لمّا تهالك ضاربُه حينما ارتطمتْ ساقهُ بالرُّغامْ ، فهرولت الأرضُ تحت عويلِ الدراويشِ حين هوتْ ساقهْ .. فهوى... وتهاوى الكلامْ ، وأدبرت الشمسُ واجفةً وتردى على ساحةِ المادحين الظلامْ . -3- كبيرُ الدراويشِ نامْ حين أكمل كلمته حين جوّد.. حين نال الشرافةَ .. واللوحُ نامْ ، عليه السلامْ ، وسبحانك الله .. جلّ جلالُك أشهدُ أنْ لا إله سواكَ وأنك وارثُ هذا المكانِ .. وهذا الزّمانْ. **تونس : 1982م .**