[email protected] كانت تشرد بذهنها بعيدا وطرف ثوبها يمتد بين حين وآخر يمسح دمعاً ترورق وهي في إنتظار أن يشتعل الفحم على المنقد بمساندة مِزَق من ورق صحف رمى بها بعض زبائنها وبعض من أعواد جافة تساقطت من الشجرة التي إعتادت الجلوس تحتها منذ أن بدأت تمارس بيع الشاي والقهوة .. أبقت خادم الله على على جزء من صفحة من تلك الجريدة إجلالاً وإكراماً لكلمة (القرآن) المكتوبة بخط عريض في أعلاها فكانت تطالعها حيناً ثم لا تلبث ان تعاود او يعاودها ذلك الشرود في البعيد فيترورق الدمع مرة أخرى ويرتفع على أثره طرف ثوبها.. إشتعل الفحم وأصبح جمراً وكاد أن يصبح رماداً وهي مأخوذة تماماً بمعالم ذلك الوادي الذي كانت تهيم فيه في ساعتها تلك.. عادت متأوهة للحظات لتضع الكفتيرة على النار وتضع مزيداً من الفحم قبل ان ينطلق ذهنها عائداً بها إلى ذلك التيه وذات المِزْقة في يدها ..( خادم القرآن ) وذات الدمع يموج في عينيها ويتكاثر فيلحقه طرف الثوب قبل ان يمطر...( خادم القرآن ) !!..كأن هذه العبارة تتردد على شفتيها مرارا وتكرارا وكأني بها تتساءل دون أن تنتظر جواباً ثم تعود تردد ذات الكلمتين (خادم القرآن )!! للقرآن يا سيدنا خُدّام يتنافسون في خدمته وهم لايرجون إلا رحمة الله ومغفرته جالسين على فراء من جلد ماعز او برش من سعف النخيل .. في ظل راكوبة او ظل شجرة او بيت من الجالوص تتساقط أشعة الشمس من عدة ثقوب في سقفه.. للقرآن يا سيدنا خُدّام يبيتون على الطّوى ويبتهلون إلى الله مليّا حين تتيسر لهم كسرة خبز يعجنونها بالماء .. للقرآن يا سيدنا خُدّام يتدبرون معانيه ويأتمرون بأوامره ويلتزمون بتعليماته فلا يقتلون ولا يظلمون ولا يسرقون ولا يغشون ولا يخدعون ولا يكذبون ولا يراؤون ولا يكتمون الحق ولا يأكلون أموال الناس بالباطل .. للقرآن خُدّام يفعلون ما أمر الله به ويجتنبون مانهى عنه فلئن تنزهت عن واحدة من تلك الصفات فهنيئاً لك يا سيدنا خدمتك القرآن وإلاّ فلا تحمّل صفحاتك فوق طاقاتها ولا تستمريء النفاق والكذب حتى لا تكتب عند الله منافقاً و كذّابا... !! مات زوجي يا سيدنا ولم يمُت من داء عُضال .. مات من ضغوط الحياة التي إتخذت من شرائينه مأوىً لها منذ أن جئتم وأقصيتموه من وظيفته دون سبب ودون جرم سوى أنه بلا ظهر وأنه ليس منكم .. أنفق كل ما معه في تربية أطفاله الست ولما أشتد عليه المرض لم يجد مايصرفه على الأطباء والدواء .. فكم من مشفى كان قد قصده فصدّه وقفل الباب أمامه مثلما نقفل أبوابنا أمام السوام فلم يجد منكم صدقة ولم يجد منكم زكاة ولم تدركه رحمتكم فكانت رحمة الله إليه أقرب إذ أراحه الموت من كل ألم ومن كل شر!! مات إبني البكر يا سيدنا وهو في العشرين من العمر حينما إختطفه رهطك عنوة وهو في طريقه إلينا وفي جيبه بعض دراهم جناها من عمله كأجير باليومية كنت أنتظرها بلهف لتدبير (السندوتشات ) لإخوته الصغار صباح الغد حتى لايذهبون لمدارسهم دون إفطار !!.. مات في الأدغال في حرب لايدري لِما سيق إليها ولا ندري حتى اللحظة إن كان قد حُظي بقبر أم تقاسمت أشلاءه السباع !! إبنتي الكبرى لم تحظ َ يا سيدنا بدخول الجامعة ولم تكمل تعليمها فالتعليم بات كالحج لمن إستطاع إليه سبيلا فلم يتيسر لها هذا السبيل وكفتاة متطلعة لم تشا ان تجلس دون عمل وهي ترى قريناتها يعملن ويلبسن ويتجملن ويتزينّ بالكريمات والمساحيق والعطور فخرجت وليتها لم تخرج او دعني أقول لك أنها خرجت ولم تعُد !! هل أدعو عليك يا سيدنا أم أفوض أمري لله !!؟.. لن أدعو عليك فأنا إبنة رجل كان يخدم القرآن لا لرياء او سمعة ولكن حُباً وتعظيما له.. يخدمه وهو لا يملك في معظم الأحيان أكثر من الثوب الذي على جسده وآخر يدخره للمناسبات ولا يملك سوى بيت سقفه من حطب الأشجار وحمار يتنقل به فلا قصور ولا مزارع ولا عربات فارهة ...مضى عن الدنيا بمثل ما جاء إليها .. لم يترك وراءه إلا كتابه و سيرته العطرة .. و لأنه خادم للقرآن بلا منّ ولا أذى فقد علّمني ألاّ أدعو على أحد بل أفوّض الأمر لله وأطلب المغفرة لمن ظلم او أساء!! تخرّج إبني الآخر من الجامعة منذ أكثر من أربعة أعوام وقد أنفقت الكثير على تعليمه حتى يكون عوناً لي ويحمل عني شيئاً من ذلك العبء الثقيل ولكن ياسيدنا وأنت تعلم علم اليقين أن الوظائف غير متاحة لأمثاله إذ غدت حكراً على أبناء الصفوة والأقرباء وأبناء الموالين ... لم يعد أمر الوظيفة يقلقني كثيرا لكن ما يقلقني هو أن يسير في ذلك الطريق الذي سلكته شقيقته من قبل او أن يقتاد ذات يوم إلى ساحات الحرب فيلحق بشقيقه الأكبر !! لم يكتف نفرُك وجندُك بكل ما فعلوه في حقّنا ومازال بعضهم يلاحقنا ليقاسمنا في ذلك الربح البسيط الذي نجنيه من بيع فناجين من الشاي والقهوة رغم قلته ورغم عدم إيفائه بأقل متطلبات الحياة .. لِما لا تهتم يا سيدنا بخدمتنا نحن المساكين فالله سوف يسألك عن ما فعلته للضعفاء وما فعلته بهم لا لما فعلته للقرآن فللقرآن خُدّام سخّرهم الله لخدمته وحفظه .. خُدّام لا يبتغون غير وجهه تعالى لا لسلطة او جاه او رياء . هذا ما كان من أمر أمة لله واحدة فكم من إماءٍ لله مثلي يجلسن في عزّ الحر وفي عزّ البرد لأجل أن يبقين أسرهن على هامش الحياة !!؟ غلي الماء وفار حتى أطاح بغطاء الكفتيرة فأنطفأ الجمر وأصبح رماداً وخادم الله كانت قد ذهبت بعيداً..بعيداً جداً !!