أبل الزيادية ام انسان الجزيرة    الفاشر ..المقبرة الجديدة لمليشيات التمرد السريع    وزير الداخلية المكلف يستعرض خلال المنبر الإعلامي التأسيسي لوزارة الداخلية إنجازات وخطط وزارة الداخلية خلال الفترة الماضية وفترة ما بعد الحرب    الزمالك يسحق دريمز في عقر داره ويصعد لنهائي الكونفيدرالية    سان جرمان بطلا للدوري الفرنسي.. وعينه على الثلاثية    أرسنال يحسم الديربي بثلاثية    إيران تحظر بث مسلسل "الحشاشين" المصري    طباخ لجنة التسيير جاب ضقلها بكركب!    شاهد بالفيديو.. سائق "حافلة" مواصلات سوداني في مصر يطرب مواطنيه الركاب بأحد شوارع القاهرة على أنغام أغنيات (الزنق والهجيج) السودانية ومتابعون: (كدة أوفر شديد والله)    نائب وزيرالخارجية الروسي نتعامل مع مجلس السيادة كممثل للشعب السوداني    السودان..توجيه للبرهان بشأن دول الجوار    وزير الصحة: الجيش الأبيض يخدم بشجاعة في كل ولايات السودان    شاهد بالصورة والفيديو.. طلاب كلية الطب بجامعة مأمون حميدة في تنزانيا يتخرجون على أنغام الإنشاد الترند (براؤون يا رسول الله)    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    شاهد بالصور.. بالفستان الأحمر.. الحسناء السودانية تسابيح دياب تخطف الأضواء على مواقع التواصل بإطلالة مثيرة ومتابعون: (هندية في شكل سودانية وصبجة السرور)    يس علي يس يكتب: روابط الهلال.. بيضو وإنتو ساكتين..!!    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الأحد    جبريل إبراهيم يقود وفد السودان إلى السعودية    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    تجارة المعاداة للسامية    رئيس حزب الأمة السوداني يعلق على خطوة موسى هلال    سرقة أمتعة عضو في «الكونجرس»    بايدن منتقداً ترامب في خطاب عشاء مراسلي البيت الأبيض: «غير ناضج»    استجابة للسودان مجلس الأمن يعقد اجتماعا خاصا يوم الاثنين لمناقشة العدوان الإماراتي    تدمير دبابة "ميركافا" الإسرائيلية بتدريب لجيش مصر.. رسالة أم تهديد؟    دبابيس ودالشريف    حسين خوجلي يكتب: البرهان والعودة إلى الخرطوم    بمشاركة طبنحة و التوزة...المريخ يستأنف تحضيراته    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    قوة المرور السريع بقطاع دورديب بالتعاون مع أهالي المنطقة ترقع الحفرة بالطريق الرئيسي والتي تعتبر مهدداً للسلامة المرورية    لماذا لم تعلق بكين على حظر تيك توك؟    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    سوق العبيد الرقمية!    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



والله أيام يا سويسرا!!

السفر إلى سويسرا، يستغرق زهاء العشر ساعات بالطائرة، وهنالك كم ساعة انتظار بمطار القاهرة، وأنا لا أحب السفر إلا مضطراً، والله العظيم ما خوف لكني لا أحبه.. حاولت تشخيص وتحليل هذه العلة فلم أجد سبباًَ سوى أني أحب السودان وبالتحديد المحيط الذي أعيش فيه والناس والأهل وتفاصيل حياة أهلنا بالسودان.. المهم.. أول جواز استخرج لي للسفر مع الأخ الرئيس للمشاركة في مؤتمر الإيقاد بجيبوتي، ذهبنا قافلة ثقافية تتكون من فنانين وموسيقيين وفنون شعبية وأكروبات، والرحلة كانت تلبية لدعوة الرئيس الأسبق لجيبوتي حسين جوليت لنقيم نشاطاً إبداعياً سودانياً على شرف انعقاد المؤتمر، وكان ذلك في العام 1990م، وكنت أشغل وظيفة مدير الإبداع بالهيئة الوطنية للإبداع والثقافة والإعلام والفنون، وتلك رحلة أحدثكم عنها لاحقاً.. وأعود لسويسرا التي ذهبت إليها في 2003م، ممثلاً للسودان في اجتماعات الجمعية العمومية للمنظمة العالمية للملكية الفكرية بجنيف ومن رأى ليس كمن سمع، وأول ما استرعى انتباهي الخضرة التي لونت سويسرا باللون الأخضر، وكافة الألوان الأخرى المتمثلة في الأزهار والورود، وتلك ثقافة راسخة القدم عن أهل سويسرا، وأينما وقع بصرك تجد الأزهار والحدائق.. فالناس هنالك لديهم ثقافة المحافظة على البيئة؛ لذا حرص المواطنون على ترسيخ تلك الثقافة الجميلة، والمحليات تتبارى في كؤوس وجوائز تقدمها الدولة للأفراد وللمحليات التي تتفوق في إبراز تلك الثقافة.
في مدينة "بون" لبّيتُ الدعوة لحضور الاحتفالية المئوية لحديقة عريقة بالمدينة، وتنسيق تلك الحدائق متروك للمواطن، والدولة لا تقدم إلا توصيل المياه. تحسرت على الميادين التي خصصتها الدولة في كل مدن السودان للحدائق، وللأسف لم يستغلها المواطنون الاستغلال الأمثل، بل أن معظمها تحول إلى مكبات للأوساخ! أقمت في ضاحية ليست بعيدة من "جنيف" مع صديق سوداني حاصل على الباسبورت السويسري وجدته فرحاً.. سألته، (أراك مبسوطاً) (طبعاً! المحكمة العليا حكمت لصالح محليتنا بعدم قطع الشجرة!)
وبدأ يحكي لي قصة الشجرة، التي زرتها لاحقاً.. فالشاهد أن الحكومة أصدرت قراراً بقطع تلك الشجرة لتوسيع الطريق العام المؤدي لتلك الضاحية، لكن تجمع أهل المحلية ليرفعوا دعوى لإبطال قرار الحكومة، ودفوعهم بأن تلك الشجرة عريقة وشهادة ميلاد تجاوزت القرن من الزمان، وأصبحت أثراً من آثار سويسرا يجب حمايته بموجب اتفاقية دولية لدى المنظمة العالمية المعنية بالمحافظة على الآثار "يونسكو"، وأن عشرات بل مئات من المواطنين يذهبون لزيارتها وقضاء أوقات تحت ظلها، والكثيرون مهروا أسماءهم على سيقانها، خاصة العشاق!
وتابع المواطنون قضية الشجرة.. المدعي أهل الضاحية والمدعى عليه الحكومة السويسرية، وتابعت أجهزة الإعلام تلك القضية في كل مراحلها، إلى أن جاء حكم محكمة الاستئناف العليا ليصبح حكماً باتاً قاطعاً بعدم قطع الشجرة، عقب ذلك أقام أهل الضاحية احتفالاً بهيجاً تحت ظلال تلك الشجرة! تحسرت على حال أشجارنا وضاعت كلمات الأغنية الجميلة (أوعك تقطع صفقة شجرة)، وكأن الأغنية قد فهمناها بالعكس (لازم تقطع صفقة شجرة).. في سبعينيات القرن الماضي، أورد العاهل المغربي الحسن الثاني – له الرحمة – بأنه لم يشاهد روعة مثلما رآها مجسدة في شارع النيل.. وأنه لم يجد طعاماً أشهى ولا فندقاً مريحاً مثل فندق "القراند هوتيل"، وأن الراحل المقيم الشيخ زائد حينما كان في رحلة نيلية مع الرئيس الأسبق "نميري"، وهو يصب من ماء النيل، ويشرب معلقاً ومندهشاً (هادي كلها موية حلوة يا سيادة الرئيس؟! والله بختكم.. نحن نحفر نبغي الموية الحلوة، يطلع لنا ها الزفت)، يعني البترول الذي لم يستخرج وقتها.. وبالرغم من هذه النعمة واستخراج النفط، إلا أن (الحال ياهو نفس الحال.. وفي جواي صدى الذكرى).
قلت أتجول في شوارع "جنيف" النظيفة الجميلة ذات المباني الأنيقة يوم عطلة.. استرعى انتباهي لمة ناس وسوق شعبي نُصبت فيه المظلات يموج بالناس من شتى الأجناس، فعلمت أن هذا السوق منتظم مرة في الأسبوع، ومتاح للمواطنين لعرض مقتنياتهم التي هم في غنى عنها، وعمر هذا السوق يعود لقرون مضت، وهو من الأسواق الشهيرة في أوروبا، وفيه معروضات قيمة من لوحات وملابس ومقتنيات أثرية وبأسعار زهيدة.. اشتريت مفرشاً مشغولاً باليد غاية في الجمال مستخدماً بخمسة دولارات، غاية في الروعة والمدهش برغم الزحمة.. فالناس يتحركون في غاية الانسياب وأدب التعامل والأشجار وأماكن الطعام والسندوتشات تحفها الخضرة والأزهار.. وسرحت في مشهد قفز من مخيلتي بحي الجميعاب بأم بدة، وذلك الشارع الطويل المسمى بشارع الصول، الذي تحفه الأشجار التي شكلت ظلاً متشابكاً وريفاً يقي ساكني ذلك الحي الحر، ويمنحهم مناخاً لطيفاً بالليل بالتفاعل (الكلور فيلي). وعلمت أن قصة ميلاد تلك الخضرة بذلك الشارع أن الصول أحد ساكنيه زرع عدة أشجار ناحية منزله، وأهدى جيرانه بعض الشتول ليقوموا بزراعتها أمام منازلهم.. وخرطوم الماء يسقي تلك الأشجار، وسرعان ما نمت وربت، واستطالت سيقانها وامتدت ظلالها، فحذا بقية السكان حذو مربوع الصول.. بالله زوروا ذلك الشارع الطويل المخضر الجميل، ولنحذو حذو ذلك الحي، وأنا على يقين من أن الأمر سيعود بفائدة عظيمة، والعالم يشكو تآكل طبقة الأوزون وتتلفه عوادم السيارات والأبخرة التي تهدد البسيطة.. وأنا أجوب شوارع جنيف شممت روائح طعام منبعثة من مطعم مهول أكتظ بالناس.. وجدت مقعداً بالقرب من سيدة هرمة.. استأذنت لأجلس، أشارت لي بيدها وبدأت تحدق عبر نظارتها الطبية في الديباجة المعلقة في عنقي (آه أنت من السودان؟ ومفاوض بالوايبو؟ أنت جئت للمطعم الخطأ)، وتحدثنا حديثاً مطولاً أنساها الشوربة التي كانت تشرب منها، وعلمت أن هذا المطعم يقدم الطعام للفقراء، وأن هنالك أكثر من مطعم لنفس الغرض أنشأتها الدولة بسويسرا، وأنها فقيرة تسكن بإحدى دور العجزة والمسنين، ومجيئها للتغيير.! سبحانه الله وفرق شاسع بين فقرائنا وفقراء سويسرا.. فالسيدة المسنة ترتدي زياً فاخراً وتتزين بإكسسوارات جميلة جداً، وتقرأ في رواية صدرت حديثاً.. (أنا زرت السودان منتصف الخمسينيات.. بلادكم جميلة.. وأنتم أصحاب حضارة ولديكم ثروات كثيرة وأراضٍ خصبة! لماذا لم تتقدموا وتتطوروا ولديكم كل مقومات التقدم والنماء؟!) لم تقنعها إجابتي بأن الحروب والمتربصين والطامعين هم سبب علتنا.. لكن قبلت مني إجابة أننا نحتاج إلى وحدة الصف ونحتاج أن نحب وطننا لنعمل لرفعته.. والسيدة تحمل درجة الدكتوراه، وصدرت لها عدة كتب في الشأن الثقافي والاجتماعي.
استأذنت أحد الشباب ليلتقطوا لنا صورة تذكارية وتبادلنا العنوانين، وطلبت شوربة خضار وبعض الجبن والزيتون وشرائح البطاطس المقلية لأشاركها المائدة.. (ألم أقل لكم أنتم شعب متواضع عظيم.. سأزوركم إذا كان في العمر بقية).. وبدأت تحدثني عن زيارتها للسودان في الخمسينيات، وكيف كان اقتصادنا مزهر وحدثتني عن شخصيات سياسية عرفتهم.. ساعتان ونصف كنا نتحدث.. وسرحت بفكري أحلم بإنشاء مطاعم بالعاصمة المثلثة.. لم لا وهنالك مؤسسات حكومية معنية بالفقراء، أو على الأقل أسست لهذا الغرض.. ولتكن وجبة إفطار وعشاء. فول بزيت السمسم وشطة وملح ورغيف بلدي حار.. أو كسرة بملاح شرموط.. والله فكرة ولا تكلف تكلفة كثيرة ومعروفة وخدمة يمكن للمسؤول الذي ينفذها أن يقول في ردهات البرلمان. وأنا شخصياً سأكون أحد زبائن تلك المطاعم الحلم، خاصة وأنا نباتي، وأعاف اللحم، ولي محبة وود متبادل مع الشماسة وفقراء السودان.. وأنا أحدث صديقتي المسنة السويسرية شاهدنا منظر شاب يترنح وبصحبته كلب ضخم.. سقط الشاب.. بعد خمس دقائق، سمعنا صفارة إسعاف.. نزل منها شرطيان وحملا الشاب وتحركت العربة.. تلك كانت هي المرة الأولى التي أشاهد فيها رجل شرطة.. وعلمت من صديقتي أن ذلك الشاب يتعالج في مركز للإدمان.. (هرب من المركز؟!) لا! لكن يبدو أن يوم السماح له بالترويح عن نفسه وكلبه، (لكنه سكران!! نعم سكران سكراً شديداً.. وهذا جزء من علاجه).. (من أين له المال؟).. (الدولة تنفق عليه من حقه).. (كيف؟).. (كل مواطن يسهم في ميزانية الدولة!! أنا مثلاً أسكن في دار العجزة بحقي الذي استقطعته الدولة منى أيام شبابي.. الدولة لا تمتن علي بشيء!) (وكيف جاء الإسعاف بهذه السرعة؟) الشاب مراقب يا صديقي وكلبه كذلك من خلال طوق مثبتة به عدسة مراقبة! وأعطوه ثمن الشراب حتى لا يتسول!) وعلمت منها أن أفظع شتيمة هي (أذهب يا ابن.... الذي لا تدفع ضرائب).
وتجمع أفراد الجالية السودانية ليقيموا لي حفل عشاء وحجزوا مطعماً يمتلكه شاب حبشي اسمه عثمان، ولد بكسلا، ومطعمه شهير بتقديم الوجبات الحبشية، ويرتاد المطعم كل جنسيات الشرق والغرب.. والرجل تبرع حينما علم أنني ضيف الشرف لأنه يحب أشعاري، ولاسيما أغنيات زيدان، وبالفعل بث العديد من أغنياته عبر مكبر الصوت.
وتوافدت الجالية السودانية، ومنهم من جاء من فرنسا، وعدد من الدول الأوروبية.. يا الله ويا روعتكم أصدقائي السوادنة بسويسرا.. والله تشرفوا أي إنسان ومعلون أبو ظروف هجرتكم.. ويا روعة الجلابية والثوب والمركوب الفاشري.. وعصير (الآبري).. والكعك السوداني.. وعثمان رضوان صديقي الجميل ابن الموردة الذي أنفق عقوداً من الزمان هو والفضلى السيدة زينب زوجته.. وعثمان أشهر سوداني بجنيف، إذ أنه صاحب الدكان الوحيد المشهور ببيع الثياب التوتل السودانية والعمامات والملافح والشالات الفاخرة، والرجل جعل دكانه ملتقى لكل السودانيين والسودانيات، وعثمان وزوجه وصديقي عبد العزيز فرج وزوجه كضاب ذلك الذي زار جنيف ولم تؤلمه هاتان العائلتان، ورئيس الجالية عثمان ابن الخوجلاب المستثمر في المطاعم وكوكبة من أهل السودان المشرقين الجميلين الذين شرفونا بسلوكهم الجميل للدرجة التي جعلت ذوات العيون الخضر يتزوجن من الشباب السودانيين المقيمين بسويسرا؛ للسمعة الطيبة والسلوك الراقي والحضاري، ولله درك يا مسترك إدريس.. البروفيسور كامل الطيب إدريس.. وقتها كان المدير العام للمنظمة العالمية الوايبو التي كنا ننتمي لها.. جعلني ذلك الرجل أشهر أفريقي وسط كل الخواجات الذين يمثلون بلدانهم بالمنظمة، (مستر التجاني زميل وصديق مستر إدريس المدير العام للمنظمة.. شاعر سوداني!!) وصديقي علي يس زميل الدراسة ورفيق الصبا.. ابن الشوال البار وأحد مفاخر أهل السودان أحد خبراء المنظمة، وبكري ابن ود نوباوي الذي يلتقيني بالمطار حاملاً حقيبتي لأكون ضيفاً عليه طوال إقامتي، والحمد لله إنني جيت من ذي ديل.
وقدموني للأمسية الشعرية والطلبات تنهال عليّ لأقرأ قصائد بعينها.. وما أن بدأت بقراءة قصيدتي الشهيرة (جواب للبلد) (ضُل الضحى الرامي وشمس شتوية.. وريحة البُن، لما يفوح في قلاية.. وفروة جدي.. وصورة جدِّي.. لمن جيت أمِّد يدي.. جدي! أديني تعريفة.. الخ) وعم الصمت.. وامتلأت المآقي بالدموع.. وبكى العديد من الحضور؛ حتى أشفقت عليهم وعليهن.. واحتار الأطفال لبكاء ذويهم، ومعظمهم قد وُلد بسويسرا، وأجهش عثمان رضوان بالبكاء حينما وصلت في القراءة إلى آخر القصيدة المطولة (أمي الله يسلمك ويديكي لي طول العمل.. في الدنيا يوم ما يألمك) ولم أعرف سبب بكائه المُر إلا صبيحة اليوم التالي علمت أنه تلقى خبر وفاة والدته، ولم يشأ أن يفسد حفل الجالية، بل لم يعلن وفاتها إلا صبيحة اليوم التالي لتقبل العزاء في سكنه.. وذهبنا للعزاء، وأيقنت أن أهل بلادي يتمايزون دون خلق الله بخلق وعادات إنسانية نبيلة، وتقاطر المعزون ليومين متتالين، ومُدت مواد الطعام السوداني والشاي والقهوة، وخفف المعزون أحزان صديقي عثمان رضوان صاحب دكان الثياب بجنيف.. والرحمة والمغفرة لوالدته.
وقرأت تلك الليلة قصيدة نظمتها من دفقه وحشة وحنين للوطن.. سأنشرها عليكم لاحقاً.. مطلعها يقول (تهفو إليك النفس يا وطني الحبيب! هذي مغازات تباعد بيننا لا زاد فيها لا قريب..)، قاطعني أستاذ سوداني يحمل الباسبورت السويسري مهاجر يدرس في إحدى جامعات سويسرا.. ويبدو أن النبيذ قد لعب بعقله.. (تهفو إليك النفس يا وطني الحبيب!) (ياخي وطن شنو؟. يلا بلا كتاحة بلا ركشة!!)، وكاد أن يفسد حفلنا لأن الجميع قد امتعض تعليقه السخيف، وكادوا يطردونه من الصالة، إلا أن الله هداني لأطيب خاطره، وأهدئه (أيوه!! وطنا الحبيب.. وهذا المطعم لأهلنا الأحباش الذين أكرمونا بإقامة حفلنا يشكل وطناً في المهجر باحتفاء الناس بي.. ومهما يكن، فالسودان أمنا ووطننا، رضيت أم أبيت، وإن كان في شظف من العيش، فذلك بسبب أمثالك الذين يتبرؤون من أوطانهم).. صفق الحضور وطأطأ الدكتور رأسه وتململت حرمه ذات العيون الخضر، وشرعت وأوسعته نقداً لسلوكه غير المسؤول.. (يا أخي أنت يصدق عليك المثل السوداني القائل "شافت الباشا!! طلقت راجلها". وللمثل قصة يا دكتور.. حدثت أيام الاستعمار بالنيل الأبيض.. جدتي حكت لي المثل والقصة.. فتاة شابة جميلة زوجوها يكبرها سناً ومهنته فتل الحبال. والفتاة كانت تتطلع لعريس ثري أو العمل خادمة لدى الباشا حاكم مديرية النيل الأبيض.. الشاهد أن موكب الباش حينما ينوي الذهاب إلى الخرطوم بالباخرة يكون موكباً مهولاً يصطف المواطنون لمشاهدة الباشا وموكبه الذي تتقدمه الفرقة الموسيقية.. والفتاة مهرولة لتدنو من الباشا الذي رمقها بنظرة إعجاب فاحصة "مبرماً" شنبه الكث.. فهرولت عائدة لمنزلها لتجد زوجها مشغولاً بفتل الحبال "طلقني يا فقر ما دايراك"، يا ولية مالك الله يهديك! طلقني ما دايره أعيش معاك بكرهك!، المهم.. هرولت عائدة لموكب الباشا لتجده قد غادر بباخرته متوجهاً إلى الخرطوم.. وعادت تجر ذيول الانكسار والهزيمة لزوجها فاتل الحبال! فجرى المثل بين الناس إلى يومنا هذا.. فأنت يا أخي يا دكتور ينطبق عليك و(العرجاء لي مراحها)، والإنسان لا يشتم أمه وإن أصابها العته والجنون.. وقلت ليهم: مين أحنّ علينا منك يا وطنا؟ غبنا عنك بالسنين.. ودُبنا من فرط الحنين.. وأصلوا غيرك ما شغلنا.. رشفة من نيلك تساوي كلّ أمواه الوجود.. وخيرك الهطال مداوم من زمن بدري بيجود.. فجرت أرضك عطايا.. كنز زاخر بالهدايا.. والملامح الفيني منك.. وتبقى تذكاري المعاي).. (جزء من قصيدة)، أسأل العليّ لوطننا المنعة والتقدم والازدهار ولإنسانه الطمأنينة، ولولاة الأمر أن يهبهم المنعة والقدرة على قيادة سفينة هذا البلد الطيب الجميل، وليس ذلك على الله بعسير.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.