رغم ظروف الحرب…. بدر للطيران تضم طائرة جديدة لأسطولها    المملكة تستعرض إستراتيجية الأمن الغذائي لدول مجلس التعاون الخليجي    المتّهم الخطير اعترف..السلطات في السودان تكشف خيوط الجريمة الغامضة    أنباء عن اغتيال ناظر في السودان    خسائر ضخمة ل"غانا"..تقرير خطير يكشف المثير    إسرائيل تستهدف القدرات العسكرية لإيران بدقة شديدة    "خطوة برقو" تفجّر الأوضاع في دارفور    الصادق الرزيقي يكتب: الدعم السريع وشهية الحروب التي فُتحت في الإقليم    الترجي يسقط أمام فلامنغو في مونديال الأندية    افتتاح المرحلة النهائية للدوري التأهيلي للممتاز عصر اليوم باستاد الدامر.    فيكم من يحفظ (السر)؟    الحلقة رقم (3) من سلسلة إتصالاتي مع اللواء الركن متمرد مهدي الأمين كبة    في السودان :كيف تتم حماية بلادنا من اختراق المخابرات الإسرائيلية للوسط الصحفي    من الجزيرة إلى كرب التوم..هل دخل الجنجويد مدينة أو قرية واستمرت فيها الحياة طبيعية؟    التقى بروفيسور مبارك محمد علي مجذوب.. كامل ادريس يثمن دور الخبراء الوطنيين في مختلف المجالات واسهاماتهم في القضايا الوطنية    هيمنة العليقي على ملفات الهلال    نشاط مكثف لرئيس الوزراء قبل تشكيل الحكومة المرتقبة    الحرب الايرانية – الاسرائيلية: بعيدا عن التكتيات العسكرية    نقل أسلحة إسرائيلية ومسيرات أوكرانية الى افريقيا بمساعدة دولة عربية    والي الخرطوم يصدر عدداً من الموجهات التنظيمية والادارية لمحاربة السكن العشوائي    أدوية يجب تجنب تناولها مع القهوة    شاهد بالصور والفيديو.. الفنان حسين الصادق ينزع "الطاقية" من رأس زميله "ود راوة" ويرتديها أثناء تقديم الأخير وصلة غنائية في حفل حاشد بالسعودية وساخرون: (إنصاف مدني النسخة الرجالية)    إدارة مكافحة المخدرات بولاية البحر الأحمر تفكك شبكة إجرامية تهرب مخدر القات    شاهد بالصورة والفيديو.. وسط ضحكات المتابعين.. ناشط سوداني يوثق فشل نقل تجربة "الشربوت" السوداني للمواطن المصري    (يمكن نتلاقى ويمكن لا)    عناوين الصحف الرياضية السودانية الصادرة اليوم الأثنين 16 يونيو 2025    سمير العركي يكتب: رسالة خبيثة من إسرائيل إلى تركيا    شاهد بالفيديو.. الجامعة الأوروبية بجورجيا تختار الفنانة هدي عربي لتمثل السودان في حفل جماهيري ضخم للجاليات العربية    شاهد بالفيديو.. كشف عن معاناته وطلب المساعدة.. شاب سوداني بالقاهرة يعيش في الشارع بعد أن قامت زوجته بطرده من المنزل وحظر رقم هاتفه بسبب عدم مقدرته على دفع إيجار الشقة    رباعية نظيفة .. باريس يهين أتلتيكو مدريد في مونديال الأندية    بالصورة.."أتمنى لها حياة سعيدة".. الفنان مأمون سوار الدهب يفاجئ الجميع ويعلن إنفصاله رسمياً عن زوجته الحسناء ويكشف الحقائق كاملة: (زي ما كل الناس عارفه الطلاق ما بقع على"الحامل")    المدير العام للشركة السودانية للموارد المعدنية يؤكد أهمية مضاعفة الإنتاج    على طريقة البليهي.. "مشادة قوية" بين ياسر إبراهيم وميسي    المباحث الجنائية المركزية بولايةنهر النيل تنجح في فك طلاسم بلاغ قتيل حي الطراوة    من حق إيران وأي دولة أخري أن تحصل علي قنبلة نووية    أول دولة عربية تقرر إجلاء رعاياها من إيران    السودان..خطوة جديدة بشأن السفر    3 آلاف و820 شخصا"..حريق في مبنى بدبي والسلطات توضّح    ضربة إيرانية مباشرة في ريشون ليتسيون تثير صدمة في إسرائيل    بالصور.. زوجة الميرغني تقضي إجازتها الصيفية مع ابنتها وسط الحيوانات    معلومات جديدة عن الناجي الوحيد من طائرة الهند المنكوبة.. مكان مقعده ينقذه من الموت    بعد حالات تسمّم مخيفة..إغلاق مطعم مصري شهير وتوقيف مالكه    إنهاء معاناة حي شهير في أمدرمان    وزارة الصحة وبالتعاون مع صحة الخرطوم تعلن تنفيذ حملة الاستجابة لوباء الكوليرا    رئيس مجلس الوزراء يقدم تهاني عيد الاضحي المبارك لشرطة ولاية البحر الاحمر    وفاة حاجة من ولاية البحر الأحمر بمكة    اكتشاف مثير في صحراء بالسودان    رؤيا الحكيم غير ملزمة للجيش والشعب السوداني    محمد دفع الله.. (صُورة) تَتَحَدّث كُلّ اللُّغات    في سابقة تعد الأولى من نوعها.. دولة عربية تلغي شعيرة ذبح الأضاحي هذا العام لهذا السبب (….) وتحذيرات للسودانيين المقيمين فيها    شاهد بالفيديو.. داعية سوداني شهير يثير ضجة إسفيرية غير مسبوقة: (رأيت الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام وأوصاني بدعوة الجيش والدعم السريع للتفاوض)    تراجع وفيات الكوليرا في الخرطوم    أثار محمد هاشم الحكيم عاصفة لم يكن بحاجة إلي آثارها الإرتدادية علي مصداقيته الكلامية والوجدانية    وزير المالية السوداني: المسيرات التي تضرب الكهرباء ومستودعات الوقود "إماراتية"    "الحرابة ولا حلو" لهاني عابدين.. نداء السلام والأمل في وجه التحديات    "عشبة الخلود".. ما سرّ النبتة القادمة من جبال وغابات آسيا؟    ما هي محظورات الحج للنساء؟    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مقالات: فقه أولويات الدين

يعيش المسلمون اليوم حياة مضطربة متقلبة متناقضة ، تتشابك فيها ألوان متنافرة وأمواج متلاطمة ، وتطبق عليهم فيها ظلمات بعضها فوق بعض . وتبدو هذه الحياة للناظر إليها كثوب مرقع مبرقع تختلط فيه أشتات من الشرق والغرب وتجتمع فيه ألوان الطيف كلها من شتى الثقافات والعادات والتقاليد . فمن ناحية هناك موروثات عهود الانحطاط من جهل وتقليد وعصبية وفوضى ، ومن ناحية هناك أهواء العصر من الحاد وانحلال ومادية وهوس بسفاسف الأمور . ولعل كل ذلك أثر من آثار اضطراب المعايير والموازيين التي تحدد للناس غايات حياتهم وأولوياتها.
فتجد المرء مثلا يفني عمره في نيل مطعم وملبس شعاره قول الشاعر:
دع المكارم لاترحل لبغيتها فإنك أنت الطاعم الكاسى
وصار همّ بعض الناس العلو في الأرض وحب الرئاسة والشرف وكأنه لم يسمع بالتحذير الذي رواه الامام أحمدعن كعب بن مالك ‏أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "‏ ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم أفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه " .
واضطراب الأولويات هذا ليس قاصرا على أهل الدنيا من الناس بل هو يعم كثيرا من أهل الدين علماء كانوا أو عامة . فكثيرا ما تختلط عند هؤلاء الجزئيات بالكليات والفروع بالأصول والفروض بالنوافل .
ومما لاشك فيه أن الدين كله قائم على مبدأ العدل والقسط والانصاف ، والعدل هو وضع كل شئ في موضعه دون زيادة ولا نقص ولا إفراط ولا تفريط . قال تعالى: " لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَاب وَالْمِيزَان لِيَقُومَ النَّاس بِالْقِسْطِ " (الحديد: 25) . وقال: "وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ " (الرحمن: 7-9) . والميزان هو المعيار الذي يقوّم به الحق والعدل وتعرف به حقائق الأشياء و توزن به مقاديرها وقيمها فيوضع كل شئ موضعه فتقوم حياة الناس بالقسط في كل جانب من جوانبها . هذا الميزان هو مودع في فطر الناس وهو مبين في كتاب الله وعلى لسان رسوله .
فالقرآن والسنة مشحونان ببيان حقائق الأمور ومراتب الاشياء و منازلها ، وفقه هذا الميزان أمر هام لإقامة حياة متوازنة تعرف لكل شئ حقه فتوفيه له وتنزل كل شئ منزلته . وهذا النوع من الفقه هو الذي نقصده بفقه أولويات الإسلام .
ونعمد الآن إلى شئ من التفصيل في غاية الاختصار . ونبدأ بأول الأولويات وأولاها .
ثبات الأصل
الإيمان هو أصل الدين . وبمقدار رسوخ هذا الأصل وثبات جذوره ، تعلو شجرة الدين وتستقيم ويستغلظ ساقها وتورق فروعها وتكثر ثمراتها ، كما قال الله تعالى: "أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ " (إبراهيم:24-25) . والكلمة الطيبة في قول ابن عباس هي قول لا إله إلا الله ، وهكذا قال الضحاك وعكرمة وسعيد بن جبير ومجاهد وغير واحد .
وأساس الإيمان هو العلم بالله تعالى ، وهو علم لا يقوم على المعرفة الذهنية الباردة ، ولا يستمد من دراسات علم الكلام التي ظهرت كأثر للجدل القائم بين الفرق وللرد على انحرافات تاريخية في عهود سابقة . وليس هو ما يطلق عليه بعلم التوحيد .
ليس الإيمان هو هذا ولا ذاك ولكنه العلم الذي يستمد مباشرة من القرآن والسنة ، ويعتمد على براهينها وأدلتها ، ويستهدي بتعريفاتها وتوضيحاتها . ومنهج القرآن في بيان الإيمان منهج فريد يعرف مداخل النفوس ومفاتيحها ، ويطرق القلوب ويؤثر فيها ويحركها ، ويجعلها حية فاعلة . وذلك تصديق قول الله تعالى: "أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ " (الأنعام: 166) . يقول ابن كثير في هذه الآية: "هذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمن الذي كان ميتا أي في الضلالة هالكا حائرا فأحياه الله أي أحيا قلبه بالإيمان وهداه له ووفقه لاتباع رسله " وجعلنا له نورا يمشي به في الناس " أي يهتدي كيف يسلك وكيف يتصرف به والنور هو القرآن كما رواه العوفي وابن أبي طلحة عن ابن عباس وقال السدي : الإسلام والكل صحيح " كمن مثله في الظلمات " أي الجهالات والأهواء والضلالات المتفرقة " ليس بخارج منها" أي لا يهتدي إلى منفذ ولا مخلص مما هو فيه" .
وليست هذه دعوة لطرح الاهتمام بالرد على الانحرافات العقدية الماضية أو الحاضرة ، ولا حث على الإعراض عن كتب التوحيد والجدل المتداولة المعروفة ، ولكنها تأكيد على أن هذه الكتب وحدها لا غناء فيها ، وأن أفضل الطرق لتصحيح الأيمان وترسيخه وتثبيته هي فهم القرآن ، والتفكر في عرضه لأيات الله في الكون والأنفس والآفاق ، وتدبر في تعريف الله عزّ وجلّ بنفسه ، وبأسمائه الحسنى وصفاته العلى . وكم يتمنى المرء أن تعاد كتابة العقائد الإسلامية بهذا المنهج وبهذه الطريقة .
وكتب السنة ودواوينها قد أفردت الإيمان بفصول خاصة وأبواب معينة ، أوضحت حقيقة الإيمان من معين الرسول صلى الله عليه وسلم الصافي وبكلماته الجامعة المباركة النافعة . ومن كان كأن النبي صلى الله عليه وسلم يتكلم إليه وكأنه معه يستمع إليه ، كان ذلك أدعى لنماء الإيمان في قلبه وزيادته لأنه يستمد من نبع طيب ويسقى بماء غير آسن .
وحقيقة العلم بالله إذا رسخت وثبتت كان الله حاضرا في قلب المؤمن يشهد فعله وأثره وصفاته في كل شئ وفي كل حين . وهذا الشهود هو أحسن مقاييس درجة الإيمان . وقس على ذلك شهود حقيقة الرسول وشهود حقيقة الآخره ومشاهدة مشاهدها كأنك تراها رأي العين .
وإذا كان الإيمان هو أولى الأولويات وهو المقدم على غيره من أمور علمية وعملية ، فينبغى على المؤمن أن يفحص دائما إيمانه ويفتش فيه ويسعى إلى تثبيته وترسيخه ، كما قال الله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا" (النساء: 166) . قال ابن كثير: "يأمر تعالى عباده المؤمنين بالدخول في جميع شرائع الإيمان وشعبه وأركانه ودعائمه وليس هذا من باب تحصيل الحاصل بل من باب تكميل الكامل وتقريره وتثبيته والاستمرار عليه كما يقول المؤمن في كل صلاة اهدنا الصراط المستقيم أي بصرنا فيه وزدنا هدى وثبتنا عليه " .
المنهج العلمي:
ومن أجل أن يتبين الحق والعدل الذي تقوم به حياة الناس بالقسط فلا بد من من منهج علمي سليم تتمايز به حقائق الأشياء وتقوم به قيم الأشياء ومراتبها لتوضع موضعها الصحيح . والقرآن والسنة قد أوضحا هذا المنهج أحسن توضيح .
من ذلك أنه لا بد لكل حقيقة أن تثبت بدليل وبرهان من عقل أو حس أو خبر . قال تعالى: "وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ" (الأعراف: 179) . وقال: "وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا" (الإسراء"36) . ولا يعتمد في اثبات الحقائق على الحدس والخرص والظنون . قال تعالى: "وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا" (النجم: 73) . وعند التفكر في الحقائق ينبغي أن يتجرد النظر من هوى الأنفس إذ أن التفكير بالعاطفة يصرف عن الحق " إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى" .
ومن أكبر أسباب اضطراب حياة المسلمين تأثرهم بالمناهج العلمية والفكرية الجاهلية . فقد روى البخاري في صحيحه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر، وذراعا بذراع، حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه. قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ " فقد أثرت الفلسفة اليونانية على عقائد المسلمين وأثرت رهبانية الهند على التصوف وأثر مادية الغرب المعاصرة على كثير من اتجاهات المسلمين الحاضرة وخاصة اتجاه العصرانية . والمنهج الإسلامي السليم لا بد له من أن يتجرد من كل ذلك الغبش والركام .
لا عصبية:
وافتراق الأمة شيعا وأحزابا متناحرة ما هو إلا أثر من إطراح المنهج العلمي السليم الذي عليه جماعة المسلمين ، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه أصحاب السنن: " إن بني إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين فرقة وإن أمتي ستفترق على ثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة " . وبسبب العصبية والبغي والظلم بين هذه الفرق تتأجج نار الفرقة والإنقسام ولو ردوا التنازع إلى المنهج العلمي السليم لاهتدوا إلى الحق ، كما قال الله تعالى: " كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ " (البقرة: 213) .
وموقف المسلم من هذه الفرق أن يكون رائده الحق ، ولا شك أن الحق في الأمور الكلية والأصول واحد ولا يتعدد ، أما الأمور الجزئية فالتعدد فيه مندوحة . فليأخذ المرء من كل طائفة بأحسنها ولا يتعصب لشخص أو مذهب أو طريقة ، كما قال تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ " (المائدة: 8) قال ابن كثير: وقوله تعالى " ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا " أي لا يحملنكم بغض قوم على ترك العدل فيهم بل استعملوا العدل في كل أحد صديقا كان أو عدوا . وروى اليخاري في صحيحه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " (انصر أخاك ظالما أو مظلوما). فقال رجل: يا رسول الله، أنصره إذا كان مظلوما، أفرأيت إذا كان ظالما كيف أنصره؟ قال: (تحجزه، أو تمنعه، من الظلم فإن ذلك نصره). وفي أثر موقوف: " لا تكونوا إمعة، تقولون: إن أحسن الناس أحسنا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطنوا أنفسكم، إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساؤوا أن لا تظلموا " . والمسلم غايته الحق والخير فهو لهذا يأخذ بقول الله تعالى " وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ " (المائدة:2) ، فكل من أراد منك خيرا ووسعك ان تعينه فافعل إن من جماعتك وطائفتك أو من غيرها .
القلب مركز القيادة:
ومن الأولويات إصلاح القلب مركز قيادة الإنسان . ويكفي فيه قول الرسول صلى الله عليه وسلم: " ألا وإن في الجسد مضغة: إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب." رواه البخاري . فقوام كثير من الأعمال على القلب وهي بغير القلب الصالح هباء منثور. فالنية مثلا هي الأصل لكل عمل كما جاء في الحديث الذي رواه عمر بن الخطاب قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه " . وهذا الحديث أصل في الإخلاص الذي لا يقبل عمل صالح إلا به . وكذلك أعمال القلوب الأخرى من التوبة والشكر والصبر ومحبة الله ومحبة رسوله والحب في الله والبغض في الله ، فكل الناس ينبغي لهم أن يتحلوا بها وإلا كانوا مظاهر جوفاء وخواء كما وصف الله أقواما فقال: " وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ " (المنافقون:4) . قال القرطبي: " شبههم بخشب مسندة إلى الحائط لا يسمعون ولا يعقلون , أشباح بلا أرواح وأجسام بلا أحلام ."
الصلة بالله
ومن أولويات الدين والقدر المشترك بين الناس جميعا إحسان الصلة بالله تعالى وذلك باستحضار ذكره بالقلب وباللسان وبالعمل في كل حين . وهكذا كان دأب الرسول صلى الله عليه وسلم كما روت عائشة قالت: " كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه." رواه مسلم .
الفروض والواجبات
والفروض العينية واجب مشترك على كل الناس ، وكل من تعين عليه واجب عليه الإهتمام باتيانه وتقديمه على ما سواه وكثير من التفريط يأتي من الاشتغال بفرض مع تضييع فرائض أخرى أو الاشتغال بالنوافل والسنن مع التفريط في الفروض ، كمن يشتغل بكسب عيشه على حساب حقوق أهله وأولاده أو من يشتغل بمصالحه الخاصة على حساب مصلحة المسلمين العامة . وفي الصحيح " وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه " (رواه البخاري ) . ويأتي على رأس هذه الفروض الأركان الأربعة الصلاة والصيام والحج والزكاة .
تنوع أعمال الخير وتفاضلها
ثم تتنوع أعمال الخير حسب مقدرات الناس ومؤهلاتهم وأنواع أصنافه كثيرة فمن له منها باب فليجتهد فيه وليتخصص فيه ، ومن هذا المنطلق لا لوم على كثير من طوائف المسلمين التي اختصت كل طائفة منها بنوع من الخير وأصبحت سمة مميزة لهم دون غيرهم ، ولا بأس أن يشتغل بعض الناس ببعض الجزئيات إذ كثيرا ما لا يستطيع كل الناس أن يسبقوا في أنواع الخير وإن كان لا شك أن من تكاملت فيه خصال الخير وبلغ في ذلك الشمول أنه يفوق غيره في الفضل والمكانة والخيرية . وليس أدل على ذلك من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم في أبواب الجنة . فقد روي البخاري ومسلم أن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من أنفق زوجين في سبيل الله، نودي من أبواب الجنة: يا عبد الله هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة. فقال أبو بكر رضي الله عنه: بأبي وأمي يا رسول الله، ما على من دعي من تلك الأبواب من ضرورة، فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟. قال: نعم، وأرجو أن تكون منهم.
وتتفاضل أعمال الخير بحسب النفع ، فإن كان النفع قاصرا على نفس العامل كان أقل من العمل الذي يتعدى نفعه وكلما اتسعت دائرة النفغ كان العمل أفضل وأعلى درجة من غيره . ولهذا كان الإشتغال بمصالح الناس وقضاء حوائجهم ومساعدتهم بالمال والجاه والنفع من أفضل الأعمال . ويحتج لهذا بنصوص كثيرة منها قول النبي "الخلق كلهم عيال الله وأحبهم إليه أنفعهم لعياله" رواه أبو يعلى .ولهذا كانت الصدقات وتعليم العلم والدعوة إلى الخير من أنفع الأعمال وأبقاها . وقد قال رسول الله لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم . وقال "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيء . وقال "إن الله وملائكته يصلون على معلمي الناس الخير وقال : إن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض حتى الحيتان في البحر والنملة في جحرها . وقال : إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له .
وتحليل الحلال وذلك بإتيانه معتقدا حله دائرة واسعة تشمل أنشطة كثيرة من الحياة . وفي صحيح مسلم { أرأيت إذا صليت الصلوات المكتوبات وصمت رمضان. وأحللت الحلال وحرمت الحرام. ولم أزد على ذلك شيئا. أأدخل الجنة؟ قال: "نعم" قال: والله! لا أزيد على ذلك شيئا. }. ومن هذا الباب الحديث الصحيح أن ناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله ! ذهب أهل الدثور بالأجور. يصلون كما نصلي. ويصومون كما نصوم. ويتصدقون بفضول أموالهم. قال: "أو ليس قد جعل الله لكم ما تصدقون ؟ إن بكل تسبيحة صدقة. وكل تكبيرة صدقة. وكل تحميدة صدقة. وكل تهليلة صدقة. وأمر بالمعروف صدقة. ونهي عن منكر صدقة. وفي بضع أحدكم صدقة". قالوا: يا رسول الله ! أياتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر ؟ قال: "أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر ؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجرا". وإذا انضم إلى احلال الحلال ودائرة المبح نية صالحة كان العمل عبادة صالحة مرضية
وتتفاضل أعمال الخير بحسب الوقت والحاجة كما قال الله تعالى " لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ " (الحديد: 10) . فالإنفاق والدعوة في وقت الشدة والضيق أفضل من وقت اليسر والنصر .
أفضل العمل
ونختم بقاعدة جامعة من كلام ابن القيم وهي:
"إن أفضل العبادة العمل على مرضاة الرب في كل وقت بما هو مقتضى ذلك الوقت ووظيفته فأفضل العبادات في وقت الجهاد الجهاد وإن آل إلى ترك الأوراد من صلاة الليل وصيام النهار بل ومن ترك إتمام صلاة الفرض كما في حالة الأمن . والأفضل في وقت حضور الضيف مثلا القيام بحقه والإشتغال به عن الورد المستحب وكذلك في أداء حق الزوجة والأهل . والأفضل في أوقات السحر الإشتغال بالصلاة والقرآن والدعاء والذكر والإستغفار . والأفضل في وقت استرشاد الطالب وتعليم الجاهل الإقبال على تعليمه والإشتغال به . والأفضل في أوقات الأذان ترك ما هو فيه من ورده والإشتغال بإجابة المؤذن . والأفضل في أوقات الصلوات الخمس الجد والنصح في إيقاعها على أكمل الوجوه والمبادرة إليها في أول الوقت والخروج إلى الجامع وإن بعد كان أفضل . والأفضل في أوقات ضرورة المحتاج إلى المساعدة بالجاه أو البدن أو المال الإشتغال بمساعدته وإغاثة لهفته وإيثار ذلك على أورادك وخلوتك
والأفضل في وقت قراءة القرآن جمعية القلب والهمة على تدبره وتفهمه حتى كأن الله تعالى يخاطبك به فتجمع قلبك على فهمه وتدبره والعزم على تنفيذ أوامره أعظم من جمعية قلب من جاءه كتاب من السلطان على ذلك
والأفضل في وقت الوقوف بعرفة الإجتهاد في التضرع والدعاء والذكر دون الصوم المضعف عن ذلك
والأفضل في أيام عشر ذي الحجة الإكثار من التعبد لا سيما التكبير والتهليل والتحميد فهو أفضل من الجهاد غير المتعين
والأفضل في العشر الأخير من رمضان لزوم المسجد فيه والخلوة والإعتكاف دون التصدي لمخالطة الناس والإشتغال بهم حتى إنه أفضل من الإقبال على تعليمهم العلم وإقرائهم القرآن عند كثير من العلماء
والأفضل في وقت مرض أخيك المسلم أو موته عيادته وحضور جنازته وتشييعه وتقديم ذلك على خلوتك وجمعيتك
والأفضل في وقت نزول النوازل وأذاة الناس لك أداء واجب الصبر مع خلطتك بهم دون الهرب منهم فإن المؤمن الذي يخالط الناس ليصبر على أذاهم أفضل من الذي لا يخالطهم ولا يؤذونه
والأفضل خلطتهم في الخير فهي خير من اعتزالهم فيه واعتزالهم في الشر فهو أفضل من خلطتهم فيه فإن علم أنه إذا خالطهم أزاله أو قلله فخلطتهم حينئذ أفضل من اعتزالهم فالأفضل في كل وقت وحال إيثار مرضاة الله في ذلك الوقت والحال والإشتغال بواجب ذلك الوقت ووظيفته ومقتضاه
وهؤلاء هم أهل التعبد المطلق والأصناف قبلهم أهل التعبد المقيد فمتى خرج أحدهم عن النوع الذي تعلق به من العبادة وفارقه يرى نفسه كأنه قد نقص وترك عبادته فهو يعبدالله على وجه واحد وصاحب التعبد المطلق ليس له غرض في تعبد بعينه يؤثره على غيره بل غرضه تتبع مرضاة الله تعالى أين كانت
فمدار تعبده عليها فهو لا يزال متنقلا في منازل العبودية كلما رفعت له منزلة عمل على سيره إليها واشتغل بها حتى تلوح له منزلة أخرى فهذا دأبه في السير حتى ينتهي سيره فإن رأيت العلماء رأيته معهم وإن رأيت العباد رأيته معهم وإن رأيت المجاهدين رأيته معهم وإن رأيت الذاكرين رأيته معهم وإن رأيت المتصدقين المحسنين رأيته معهم وإن رأيت أرباب الجمعية وعكوف القلب على الله رأيته معهم فهذا هو العبد المطلق الذي لم تملكه الرسوم ولم تقيده القيود ولم يكن عمله على مراد نفسه وما فيه لذتها وراحتها من العبادات بل هو على مراد ربه ولو كانت راحة نفسه ولذتها في سواه فهذا هو المتحقق ب إياك نعبد وإياك نستعين حقا القائم بهما صدقا ملبسه ما تهيأ ومأكله ما تيسر واشتغاله بما أمر الله به في كل وقت بوقته ومجلسه حيث انتهى به المكان ووجده خاليا لا تملكه إشارة ولا يتعبده قيد ولا يستولي عليه رسم حر مجرد دائر مع الأمر حيث دار يدين بدين الآمر أني توجهت ركائبه ويدور معه حيث استقلت مضاربه يأنس به كل محق ويستوحش منه كل مبطل كالغيث حيث وقع نفع وكالنخلة لا يسقط ورقها وكلها منفعة حتى شوكها وهو موضع الغلظة منه على المخالفين لأمر الله والغضب إذا انتهكت محارم الله فهو لله وبالله ومع الله قد صحب الله بلا خلق وصحب الناس بلا نفس بل إذا كان مع الله عزل الخلائق عن البين وتخلى عنهم وإذا كان مع خلقه عزل نفسه من الوسط وتخلى عنها فواها له ما أغربه بين الناس وما أشد وحشته منهم وما أعظم أنسه بالله وفرحه به وطمأنينته وسكونه إليه"
والله المستعان وعيه التكلان


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.