.. [email protected] عندما تختلط أوراق اللعبة السياسية مابين مكشوفة كالشعر التقليدي في متونه و المباشر في معانيه وبين غموض الرمزي منه ، ففي رأي المتواضع على المحلل أو الكاتب أن يتروى كثيرا في تناول الأمورولا ينجرف خلف العاطفة أو يلتقط طرف الخيط من زاوية واحدة ! ولابد من الوقوف عند منطقة تحييد الشعور الذاتي ، ميلا الى تفعيل العصب الوطني واشعال احاسيس العقل تجاه الحدث نأئيا بالقلم عن تعّجل الحكم الذي قد يتأثر به الكثيرون ممن يعتبرون ذلك اليراع ربما الى درجة ما ناطقا باسمهم أو معبرا عما يتمنون التعبير عنه لو أنهم ملكوا أدوات الكتابة ، التي تشكّل بالنسبة لمرتادها مسئؤلية تتخطى حدود شخصه وتضعه في محك تقييم الذكاء الجمعي للقراء الذين يملكون دون شك حسا متقدا من الوجهة الوطنية والمقدرة التحليلية والمتابعة السياسية ، بل والاستشراف المستقبلي لمجريات الأمور ومشارب الأحداث ولست مبالغا في ذلك ! لم أشأ الاندفاع نحو الكتابة حول ميثاق ( الفجر الجديد ) الذي تم توقيعه في الأيام القليلة الماضية ، رغم ما أثاره من غبار في ممرات الحكم المرتبكة أصلا ، وألهب الخوف في قياداتها المشغولة بشد خناقات بعضها ، فضلا عن كونه قد أنعش كثيرا من الآمال في النفوس التي ربضت خلف جدران الاحباط بعد أن فترت همة الشارع التي تحركت مياهه الراكدة وقد سدرت جارية ومنعتقة من بين ركام طحالب الحصار الأمني والتعبوي الاعلامي ومغازلة الشعور العام بدغدغة العاطفة الدينية وكافة اساليب الترغيب في جمال الانقاذ بمسحايق الخداع التنموي الزائف وتخدير الرأى العام بترياق الصبر على الابتلاءات ، وبالمقابل استخدام شريط الذكريات القديم للترهيب من العودة الى أيام الأحزاب التي يصورونها في ذاكرة العقل الوطني والشعبي أنها كانت لعوبا في صباها و يعيدون انتاج التذكير تخويفا لعيون الحاضر ومسامع المستقبل بانها باتت عاجزة في شيخوختها بالقدر الذي يسهل معه جرها في مؤخرة قاطرة حكم الانقاذ وبأبخس الشروط ، فيما كانوا في ذات الوقت يضربون على وتر تشويه التوجهات الليبرالية والتقدمية وما جاورها من تنظيمات بما فيها الحركة الشعبية قطاع الشمال باعتبارها فقاعات دونها واعادة السودان الى دولة خارج منظومة الحكم الديني وتحديدا الاسلاموي وليس الاسلامي الصحيح طبعا حلم هو بمثابة خرط القتاد ! بيد أن النبأ اليقين الذي انطلق من كمبالا لم يكن وقعه سهلا على أهل الحكم باعتراف توترهم العاجل حياله ، والمبادرة باعتقال من خطوا فيه سطورا قبل ان تجف ، وتوالت التهديدات لكل من تعاطف ولو بكلمة تجاه الميثاق الذي وضع البندقية خلف ظهر السعي السلمي للتغيير كاحتياط من قبيل تفعيل مبدأ لكل مقام مقال ! فكثيرا ما تتجه الأمور في أي شأن كان نحو الحلول متى ما زادت تعقيدا ومن خلال تفعيل وتفاعل العناصر الحادبة على الحل ، بيد ان التعقيدات التي تطرأ على الشان السياسي بصفة خاصة وفي هذا العصر الذي تحكمه المصالح أكثر من المباديء ، فان اللعبة السياسية تتطلب قدرا من المقدرة على اللعب بالبيضة والحجر كخطة ذكاء ومناورة و التي قد تكون اكثر نجاعة في نتائجهاعن طريقة التصارع لتكسير العظام بصورة مباشرة وان طال وتشعب طريق الأولى وقد يقود الأمر مجريات الحلول نحو الطريق الثالث وهو الموازنة بين خيارات المباديء والمصالح في وسطية استحدث لها في قاموس الحاضر السياسي الحالي بصورة عامة ولا نعني مكانا بعينه وهو منطوق .. ( البراجماتية ) وهاهي لعبة تبادل المصالح الدولية والاقليمية نراها عن كثب و قد أطالت من عمر الصراع المسلح في سوريا على سبيل المثال وجعلت من مصير مستقبلها بين سماجة الموقف الروسي وسخافة التراخي الأمريكي بدرجة رئيسية، على الرغم من توحد الفعاليات السياسية للمعارضة في ائتلاف رعته قطر التي تمثل في اللعبة كلها دور حاجب المحكمة ولكنها تتوهم انها هي القاضي ، بينما نشاط الذين يحملون السلاح يتصاعد في اتجاه توالد كيانات ترسم قتامة المشهد بعد سقوط نظام الاسد رغم انها حتى الآن توجه سلاحها موحدة ناحية رأس وصدر وخاصرة النظام بغرض هلاكه ! لم أقصد الابتعاد عن شأننا الداخلي بالجنوح الى الشان الخارجي ، ولكنني ضربت مثلا للمقاربة والمقارنة على أن مشكلتنا لن تخرج شكلا ومحتوى عن اطار ولونية تلك الصورة بأى حال من الأحوال لا من حيث تداخلات عناصرها المحلية والاقليمية المحيطة ولا من وجهة تجاذبات التأثيرات الخارجية الأبعد بكل مسافاتها الجيوسياسية! فنحن نواجه نظاما يملك القبضة الأمنية التي سخرت لها امكانات البلاد واستقطب فيها جيوش العباد الذين ارتبط مصيرهم كشبيحة الأسد بوجوده ، ولدينا معارضة هرمة ومفككة ومنفصلة عن الجماهير برامجيا وتواصلا، فعبرت بدءا وختما عن تنصلها من اتفاق كمبالا ليس حرصا على الوطن من العلمانية أو تحكم الجهويات في مصيره كما تدعّي مرتضية بخيار الانقاذ الاسلامي المشوه فحسب ، وانما لكون الميثاق قد يفرز بل صار الى تفريخ قيادات جديدة وأبرز أسماء جاءت من خلف الصفوف لتؤكد وجود من يملاء الفراغ بالاحلال ، فارتجفت اقدام مشايخ الأحزاب تحت زلزال ضربات خطى الشباب القادمة بقوة لكنسها بتفويض من الثورة القادمة التي وضعت العقول والعضلات في خندق واحد ! بالاضافة الى أن الاسلاميين ولكونهم قد مكثوا سنينا أما خلف عباءة الديكتاتوريات متربصين بها من الداخل كما تجربتهم مع سرقة مايو كلص من الباطن ، واما باعتبارهم حراميا قائما بذاته وعلى مدى حكم الانقاذ وباستقطابهم للعسكر رغم ما شاب تجربتهم من تشقق في بنية تنظيمهم أفقيا وعموديا ، الا أن ذلك برمته أكسبهم من الخبرات الخبيثة في اختراق الآخرين مما يستوجب الحذر في العمل بشقيه السياسي المدني والمسلح العسكري لمواجهة حكمهم ، وربما رجفتهم الأخيرة عقب اتفاق كمبالا و قد استثمروه رغم مرارة مروره عبر حلوقهم وهم يزدردون ريقهم خوفا با ن سعوا لتأليب الكثيرين عليه ومحاولة تفعيل الشعور العام وتحريضهم ضده باعتباره يستهدف دولة العقيدة ويستقوي بالأجنبي وهو أمر وفقا لتجارب ذلك الشعور الوطني ومنذ الغزوة الثنائية على دولة المهدية على ما حققته من نجاحات وما أعاقها من علل وحتي دخول جحافل من سميوا بالمرتزقة الى عرين النميري وهجمة خليل النهارية ضد الانقاذ، غالبا ما يسّهل استقطاب الاصطفاف ناحية الحاكم مهما كان سيئا استدرارا لعواطف الجمع الشعبي سعيا لابطال مفعول المكون القادم بتصويره غازيا للوطن بكلياته وليس مستهدفا للنظام في ذاته ! لاأحد منا كمعارضين تائقين لاسقاط حكم الانقاذ لم ينتشيء لخطوة كمبالا ، فأهل المريض المشلول حينما يحرك سبابته ، فانهم يستبشرون خيرا ويتفاءلون بان تتحرك كفه غدا ، ولكن في ذات الوقت لابد من التسليم لحقيقة أن من يرقد على سرير المرض سنوات عديدة أو حتى شهورا لن ينهض مرة واحدة وفي ساعة زمان وان تعافى من علته الطويلة ! فقد انتهى زمن المعجزات التي تبتلع فيها عصا موسى ، حيات فرعون أو ينشق البحر ويمتصه في لحظات ويريح منه البشرية ! والعمل السياسي مشقة تتطلب الصبر سعيا لاحقاق الحق وصرع الباطل ، نعم كمبالا كانت قريبة عبر بضعة سطور وصلنا اليها ركوبا على النوايا ، ولكن الخرطوم لازالت بعيدة على خارطة الفعل العملي الذي من اولوياته لابد من كسب ثقة المواطن السوداني الحصيف والعارف لبواطن الأمور ، ماضيها وحاضرها ومستقبلها في هذا الاتفاق وهو القابض على جمار الصمت كارها لا مستسلما وهو يعلم من تجاربه العديدة وعبر تاريخه الحديث ان توقيع المواثيق في غاية السهولة ، ولكن تحويل السطور الى خطوات والكلمات الى حقائق على أرض المحكات هو ما يشده نحو مؤازرة هذا الوليد الذي لن يكبر الا اذا احتضنته الارادة الشعبية وأرضعته من قناعة جدوى قوته لصالحها في الغد ، فطول عمر الانقاذ بذلك القدر لم يكن قدرا أرتضته أمتنا كخاتمة مطاف كما توهم أهلها ، وقصر عمر ديمقراطيات ثوراتنا كان ايضا بيد أهلها وهنا سقطت الأمة في فجوة الحيرة التي تعمقت كحفرة ظل الوطن يراوح فيها تخلفا و تعثرا حتى انقسم جسده داخلها ، بل والأسوأ ان ترابها المحيط بها بدأ ينهال على رأس مستقبله فبات مغبرا كالح الملامح ، ولكي نخرجه من تلك الحفرة ونعيد تنظيفه ، فلابد من التروي في كل خطواتنا القادمة التي رسمت معالم طريقها وثيقة كمبالا اذا لابد من صيانتها بالصبر والتوحد وتجميع القوى ومعرفة مكامن ضعف النظام قبل الانقضاض على مواضع مقتله ، والتحوط لمكره الذي اطال عمره في غياب فهمنا لمقدراتنا وتسخيرها لمصلحة تحقيق التغيير الذي هو قادم ولو كان بعد حين من العمل الجاد لا الكلام الجزاف ! لابد من تكامل وتزاوج الحراك الخارجي لقيادة الاتفاق مع توسيع مسارات العمل الداخلي الذي يقطع أنفاس النظام اللاهثة لحماية عورته باسمال قوته التي ستتناقص قطعا بحكم اشتداد جذبه منها وتقادمها ، و أن يتبع ذلك تطوير اليات التواصل مع الجماهير اعلاميا ، وعقد الاجتماعات التي ينبغي توسيع دوائرها بصورة دورية انطلاقا من عواصم التعاطف الخارجي لتصب في تصعيد وتيرة الحراك الداخلي على مختلف الصعد المدنية والعسكرية مع مراعاة تجنب الاضرار التي تصيب المدنيين ويمكن للنظام أن يستخدمها سلاحا لشل الحراك طعنا في مقاصده الأخلاقية ، وهي اساليب تستخدمها أساسا الأنظمة التي تفتقر الى ابسط مقومات الأخلاق ، حتى لو اضطرت لارتكاب ما يمكن أن تنسبه للطرف الآخر فلن تتورع عن ذلك ! بالتأكيد أن التفاكر المتواصل بين القوى المناهضة للنظام لن تعدم الوسائل ولا الأفكار التي تغذي بها شرايين الاتفاق ، وهذا لن يتأتى الا بتوفير غرف العمليات المترابطة مع بعضها ومع الجماهيردفعا للهدف المنشود ،ولسنا في حاجة للتذكير بحزمة التضحيات المطلوبة من القواعد القادرة على المساهمة بالقدر المستطاع عينيا وماديا وذلك بتكون مختلف الفروع في دول تجمعات المغتربين والمهاجرين التي تتوفر فيها حرية العمل النضالي الحر على غرار النمط الذي خدم كثيرا ثورات الدول التي تخلصت من جلاديها ولا زالت تكافح سعيا للتحلل من بقايا انظمتهم الراحلة ! والا فان العزق بالذقون سيجعل من الخرطوم تصبح أبعد بكثير عن كمبالا وسيصعب علينا نقل ثمارنا التي زرعناغرسها في حقول الآمال هناك ، هذا اذا ما قدّر لها أن تتساقط رطبا من علياء نخيلها المرتقب نظريا والمؤجل عمليا حتى اللحظة ، ولن يتسنى لنا اقناع الشارع الواعي والقلق في انتظارها ،بحقيقتها ما لم يتحسسها لمسا بيديه و يتفحصها رأيا بعينه ومن ثم يتذوقها طعما بلسانه ! وهذا ما دعاني لوقفة التأمل الطويلة تلك والغياب لأسبوع كامل ، قراءة متأنية للمشهد جيدا ما بعد سطوع (فجرنا الجديد ) بعيدا عن صفحات معشوقتنا الراكوبة . ومع شوقي المتزايد لعيون أحبائنا قرائها ومعلقيها ، أرجو أن يكون العود أحمد . والله المستعان ، وهو من وراء القصد.