إلى أحد الأصدقاء .. ذكريات كردفانية!! محمد عبدالرحمن محمود [email protected] هل هذه أشياء تكدر مزاجك الرائق؟ .. إن هذا الترف الذي تعيشه ليس بجديد عليك. فلماذا التكالب عليه هكذا؟ .. فعندما كنت تأكل التفاح والعنب كنا نأكل الدوم والنبق، ضحكنا عندما لت على حبة القنقوليس أنه زيتون. عرفنا عندكم الجبنة الرومية والمضفورة وكل أنواع الأجبان. أشياء كنا نراها كالخيال، وأشياء كنا نراها فقط في محل (أبو ثلاثة نجوم).. إنها محض ذكريات وأيام قد عفا عليها الزمان إلا أنها ما زالت تقبع في الذاكرة. والآن نجترها. فمعذرة، فقد طال العهد، فهي أشياء نحسها في الوجدان، أشياء تدغدغنا، تناجينا، تعاتبنا. هذه أكثر من عشرين عاماً لم نلتق فيها، إلا كما تلتقي الأمطار بالتراب في كردفان، ومكتول هواك يا كردفان. فلان قد تزوج وفلان قد طلق وفلان قد مات. أشياء تقتضيها الحياة, والحياة تسير من دوني ودونك، الرمال المكومة هنا غداً تصبح داراً وعمارة، المسؤول هنا غداً يصير وزيراً، الأشجار تشيخ، الأسفلت على الشوارع يتلاشى، تحتج الأشياء في كل مكان. إن ارتباطنا بالأبيض نابع من مواقف وشخصيات عاصرناها سوياً، وشخصيات عامة لا تنسى أبداً .. سكوتة المجنونة، حليمة المجنونة، تويلو.. وأماكن كنا نراها كالجنان؛ حديقة عبود، حديقة الأكربول يوم احتفلنا بدخول مصطفى في الشلة،، وفرقة البوليس النحاسية أيام عبدالسيد قائد الفرقة، وأرباب الماهر. سينما عروس الرمال، وحرصنا على الدور الثاني، بمقاعد الشعب حيث الجو صافٍ. أيام كانت التذكرة بأربعة قروش، والناس موزعون في الكنبات هنا وهناك اثنين اثنين أو أكثر، همس وضحكات وتعليقات يطلقونها بحرية.أناس يأكلون وأناس يكتحون. شاهدنا أفلاماً خالدات، (زد) و(زوربا) و(بيكيت). دار الرياضة حيث عاصرنا فريق الموردة أيام ناصر وحولي ودكتور وعباس الحاج، وفريق أولاد جادين (الأهلي)،، وأحمدو حارس المرمى الذي كان يمسك بالكرة كمن يمسك بليمونة. كم مرة سرحت بخاطرك إلى فاطمة بنت الجيران.. تعرفها .. أتضحك الآن! هي ذكريات وأيام قد ولت.. قابلتها ذات مرة وخلفها جيش جرار من الأطفال، لوحت لها بيدي فابتسمت وأشارت إلى أطفالها .. مشغوليات الدنيا.. تربية ومدارس ومشاوير إلى الخرطوم ومدني لزيارة أهل الزوج. كل هذه الأشياء لا تثير فيك حراكاً؟ وليلى صاحبة الابتسامة الأنيقة. كانت تسكن في ذات البيت الذي اشتريتموه، وتعلم أنهم رحلوا إلى الخرطوم بعد أن توسعت أعمال والدها التجارية. والكل ينتقل إلى الخرطوم، هل هذه موضة؟ الريف أضحى خالياً.. والأرض جدباء، حدباء تشكو الفاقة، شحت الأمطار .. وعطش الزرع والخلق وجف الضرع وتناوح (السمبر) و(الرهو).. وأنت هناك تشرب وتأكل من النيل (حمام النيل يا سمك). يا عزيزي شهدت الأبيض امتدادات كثيرة، فتمطت من كل الجهات ونزح إليها أهل الريف والضواحي، نعم، صارت تبلغ كل من يدخلها، صارت خرطوماً أخرى.. كل المدن كبرت وتوسعت، أنا لست بشامت على الخرطوم ولكني أراها قد شاخت، شاخت فيها الكباري والمباني والشوارع، حتى النيل ما عاد النيل الذي قلنا عليه (يا .. كبرت فولاية).. المقاهي، المساجد، الأكشاك. أسمعت شاعرنا محمد المكي إبراهيم يقول في قصيدته قطار الغرب (هذه ليست إحدى مدن السودان.. من أين لها هذه الألوان .. من أين لها هذا الطول التياه.. لا شك قطار الغرب الشائخ تاه .. وسألنا قيل الخرطوم .. هذه عاصمة القطر على ضفاف النيل تقوم، عربات، أضواء، وعمارات) .. أتقول لي إن الحياة هناك كعصرية.. وكلمة عصرية هذه عندنا تعني سينما كلزيوم، والبلونايل، والقصر الجمهوري .. إلخ. ناس البحر لهم لهجة خاصة .. أناس شربوا من النيل. أتذكر أغنية عبدالرحمن عبدالله التي يقول فيها (يا ماشي غرب النيل جيب لي معاك منديل) – سمح الغنا في خشم سيدو – أتذكر قطار البخار الذي يتلوى ويتوجع كثيراً حتى تلوح له مشارف الخرطوم. بهذه المناسبة أذكر الصديق عصمت عباس الذي دهسه قطار الغرب ذات إجازة، فراح طيبه، وظرفه وشخصيته التي لن ننساها أبداً. وتذكر جيداً عند مرور قطار الغرب بمدينة (الرهد .. أبو دكنة مسكين ما سكنه) حيث كنت تطلق ساقيك للريح لتحظى برشفة عجلى من الشربوت أو التكالي .. وتذكر الطعمية المشهورة، والهالوق.. أم روابة وأشجار النيم تحفها فتظهر من الأفق كواحة في وسط تلك الكثبان المترامية من الرمال. أناس يبيعون الشاي وأناس يسألون عن الأهل والأحباب. دموع تنهمر، وشيخ يلوح من بعيد مهرولاً عسى ولعل يلحق بالقطار. قطار الغرب لا يني ينطلق كالثعبان شاقاً أودية وكثبان .. كوستيإقليم آخر.. مناخ آخر.. وكما قال الشاعر محمد المكي إبراهيم (أناس ينصرفون بلا توديع، وأناس يشتجرون على الكنبات).. العمر يجري.. ونحن أيضاً نجري.. فلقمة العيش تجبرنا أن نعيش في بلاد الواق واق.. صلاح، وكمال، وجمال.. أسماء تعرفها حق المعرفة، ارتادوا كل المجالات .. فكمال ترقى من فنان (قعدات خاصة) إلى فنان يصدح في المسرح القومي. صلاح اغترب وتزوج وترهل؛ أتذكره كان مثل (سوط العنج).. لمحته ذات مرة في مكتب الضرائب فلم أعرفه.. بالفعل لقد تغير شكله تماماً .. لقد ازداد وزنه، وغزر شاربه .. أتذكر تلك الأغنية (أب شنباً حش).. تصور صلاح ذاك الشاب الوسيم الذي أُلِّفت من أجله الأغاني .. أصبح بهذا الشكل.. هذه أغاني مسجلة في الذاكرة، فإذا نسيت فنجوى موجودة ،، صاحبة الصوت الصداح.. ستغني لك كل الأغاني التي كنا نرددها في ذاك الزمان .. أعلم ذاك زمان وهذا زمان.. هذا زمان (أوه دشكا) وذاك زمان (صه يا كنار). أتذكر آبار (كرياكو)، والمعاصر، وحي المدارس و(كردفان الغرة أم خيراً بره). كنتم تعيشون في بروج عاجية .. هل سمعت أبداً بفولة ود أبو صفية، أو فولة الحلب.. أو سوق أبو شرا.. هل مررت بسوق أب جهل ذاك السوق الشعبي الذي يزخر بخيرات كردفان .. نبق .. قنقوليس، ولالوب وقضيم .. إلخ. هل شاهدت سوق ودعكيفة ،، بالطبع لم تأكل (الأقاشي) و(القدوقدو)، هذه أشياء يطول الحديث عنها. أذكر أول مرة زرت فيها الخرطوم .. كانت الشوارع نظيفة .. وكذا المطاعم، وكذا الألفاظ..! والعمارات شاهقة.. وكل شيء جميل ومنسق.. شارع النيل .. المقرن .. حديقة الحيوان.. أتعرف.. رأينا الأسد والزراف والغزال. الآن الأقاليم نعمة كبيرة.. على كل حال ليست هي الخرطوم التي كنا نتوق إليها أيام زمان. كان من يعود من الخرطوم شكله واضح مثل الشمس؛ فحديثه قد تغير ومشيته قد تغيرت ولبسه قد تغير.. كنا نجلس إليه كثيراً؛ نسأله هل رأيت أحمد المصطفى، هل رأيت ماجد وجكسا وهكذا، حتى يمل صاحبنا .. أستاذ عثمان كلنا يعرفه فقد كان يطالبنا بالمدونة الطبيعية؛ كانت كراسة الطبيعة من أجمل الكراسات كان ذاك أو عهدنا بالريشة والمحبرة .. وكنت أنت الوحيد تمتلك قلم (تروبين) لم نره إلا بين أصابعك، أتذكر عابدين الذي فر من الشباك حينما اكتشف أستاذ عثمان بقعة من الحبر تزين الصفحة الأولى من كراسة الطبيعة. أتذكره ذاك الشقي.. إنه اليوم أستاذ في المدارس الثانوية، لم يبق فيها أحد نعرفه .. البعض اغترب .. والبعض الآخر هاجر إلى الخرطوم .. اختلط الحابل بالنابل .. شربوا من النيل وأكلوا منه .. وذابوا كما يذوب الملح في الماء.. فتأمل!!