محمد عبدالملك في مايو العام 1994م وإثر اضطرابات سياسية بجامعة الجزيرة أُعتقلنا من السوكي ثمّ ، بعد فترة اعتقال قصيرة أطلق سراحنا : خالد عبد الله ، عوض الكريم علي طه ، وشخصي . بعد أيام قلائل من ذلك ، وفي غبش الفجر جاءتني خالتى بخيتة بت خالد تتوكأ على عصاة، حزينةً لكنها متماسكة ، لتخبرني أنّهم جاءوا منتصف ليلة البارحة وأخذوا خالداً (الذي هو إبنها الوحيد) . قلتُ وأنا أعرف الإجابة : من هم ؟ قالت : ناس الأمِن . بحثنا وبحثنا ولما يقارب الشهر لم نكن نعلم أين هو خالد ، حتى كان ذلك اليوم ، وأنا في العمل ببنك الخرطوم ، حين طلب مني شخصٌ يقف بالكاونتر أن أساعده في كتابة إيداع شيك . كل شئ تمّ مصادفة و بتلقائية . كان يبدو وكأنه مُرسل من قبل أحدٍ يملك حساباً بالبنك ( وكان ذلك أيضاً عادياً ) .. أظهر لي شيكاً وحين سألته عن اسم الحساب أعطاني ، بيدٍ مدرّبةٍ ، ورقةً صغيرةً لمِحتُ فيها ، بعينٍ مدرِّبةٍ أيضاً ، اسم : خالد عبد الله ، بذلك الخط الحُر الأنيق الذي أعرفه : خطُّ خالد . أخذتُ الورقة وكتبتُ إيداعاً وهمياً بختمٍ وهميِّ سلّمته له وانصرف . كان ذلك مذكرة من الصديق خالد ، يطمأنني ، يسأل عن أمه و يخبرني فيها بمكان اعتقاله : مدني . يا الله ! مدني ! أم المدائن ، عشقنا المشترك يا خالد . بختك يا ابنُ بخيتة . بختك واللهِ ! أغبطُك . كم أنت سعيد بأن تكون ، معتقلاً ، في حضن الحبيبة . بعد أيام رددتُ على خالد بكلماتٍ مقتضباتٍ أذكِّره فيها بأنّه في حضرة الحبيبة لا يجزع العاشقُ أبداً وأنّ عذابات بيوت الأشباح بمعتقلات مدني تتحوّل ، والحالةُ هذه ، من ضربٍ إلي طربٍ بحفلةٍ يحلو فيها لجسد العاشق الجلد و البُطان طالما أنّ ذلك يتم في حضرة الحبيبة الجميلة : مدني . الآن ، وأنا رازحٌ تحت وطأة نوستالجيا ثقيلة تقطعُ النَّفَس ، أشتاقُ ود مدني . المدينة التى أحببت ، أشتاقُ صديقي خالداً جداً . أشتاقُ أستاذي وصديقي الشايقي المشلّخ لا ورا ، الشيوعي ذا الضحكة المُعدية : عوض الكريم على طه . أشتاقُ أرض الجزيرة الحنينة المعطاءة ؛ نموذج الوطن الذي حلمنا وما زلنا نحلمُ به رغم عسف النسخة الطفيلية من دين الإسلام التى تحكمنا بالقهر والتى انتهى أمر الجزيرة على أيديها إلي خراب . http://www.youtube.com/watch?v=11_czR9Yadg&NR=1