بالصورة.. "حنو الأب وصلابة الجندي".. الفنان جمال فرفور يعلق على اللقطة المؤثرة لقائد الجيش "البرهان" مع سيدة نزحت من دارفور للولاية الشمالية    أردوغان يفجرّها داوية بشأن السودان    القادسية تستضيف الامير دنقلا في التاهيلي    تقارير تتحدّث عن قصف مواقع عسكرية في السودان    بمقاطعة شهيرة جنوب السودان..اعتقال جندي بجهاز الأمن بعد حادثة"الفيديو"    اللواء الركن"م" أسامة محمد أحمد عبد السلام يكتب: الإنسانية كلمة يخلو منها قاموس المليشيا    وزير سوداني يكشف عن مؤشر خطير    شاهد بالفيديو.. عودة تجار ملابس "القوقو" لمباشرة البيع بمنطقة شرق النيل بالخرطوم وشعارهم (البيع أبو الرخاء والجرد)    شاهد بالصور.. "سيدا" و"أمير القلوب" يخطفان الأضواء على مواقع التواصل السودانية والمصرية بلقطة جميلة والجمهور: (أفضل من أنجبتهم الكرة العربية)    مانشستر يونايتد يتعادل مع توتنهام    ((سانت لوبوبو الحلقة الأضعف))    شاهد بالصورة والفيديو.. حكم راية سوداني يترك المباراة ويقف أمام "حافظة" المياه ليشرب وسط سخرية الجمهور الحاضر بالإستاد    شاهد بالصورة والفيديو.. ناشطة سودانية حسناء: (بحسب قرار ترامب الجديد قد تُمنع من دخول أمريكا إذا كنت سمين أو ما بتنوم كويس)    شاهد بالفيديو.. مودل مصرية حسناء ترقص بأزياء "الجرتق" على طريقة العروس السودانية وتثير تفاعلا واسعا على مواقع التواصل    بالصورة.. رجل الأعمال المصري نجيب ساويرس: (قلبي مكسور على أهل السودان والعند هو السبب وأتمنى السلام والإستقرار لأنه بلد قريب إلى قلبي)    إحباط محاولة تهريب عدد 200 قطعة سلاح في مدينة عطبرة    وقفة احتجاجية في أديلايد ولاية جنوب استراليا تنديداً بالابادة الجماعية والتطهير العرقي في الفاشر    السعودية : ضبط أكثر من 21 ألف مخالف خلال أسبوع.. و26 متهماً في جرائم التستر والإيواء    الترتيب الجديد لأفضل 10 هدافين للدوري السعودي    «حافظ القرآن كله وعايشين ببركته».. كيف تحدث محمد رمضان عن والده قبل رحيله؟    محمد رمضان يودع والده لمثواه الأخير وسط أجواء من الحزن والانكسار    وفي بدايات توافد المتظاهرين، هتف ثلاثة قحاتة ضد المظاهرة وتبنوا خطابات "لا للحرب"    أول جائزة سلام من الفيفا.. من المرشح الأوفر حظا؟    مركزي السودان يصدر ورقة نقدية جديدة    برشلونة ينجو من فخ كلوب بروج.. والسيتي يقسو على دورتموند    شاهد بالفيديو.. "بقال" يواصل كشف الأسرار: (عندما كنت مع الدعامة لم ننسحب من أم درمان بل عردنا وأطلقنا ساقنا للريح مخلفين خلفنا الغبار وأكثر ما يرعب المليشيا هذه القوة المساندة للجيش "….")    "واتساب" يطلق تطبيقه المنتظر لساعات "أبل"    بالصور.. أشهرهم سميرة دنيا ومطربة مثيرة للجدل.. 3 فنانات سودانيات يحملن نفس الإسم "فاطمة إبراهيم"    بنك السودان .. فك حظر تصدير الذهب    وزير المعادن: المرحلة المقبلة تتطلب رؤية استراتيجية شاملة تعزز استغلال الموارد المعدنية    بقرار من رئيس الوزراء: السودان يؤسس ثلاث هيئات وطنية للتحول الرقمي والأمن السيبراني وحوكمة البيانات    ما الحكم الشرعى فى زوجة قالت لزوجها: "من اليوم أنا حرام عليك"؟    غبَاء (الذكاء الاصطناعي)    مخبأة في باطن الأرض..حادثة غريبة في الخرطوم    رونالدو يفاجئ جمهوره: سأعتزل كرة القدم "قريبا"    صفعة البرهان    حرب الأكاذيب في الفاشر: حين فضح التحقيق أكاذيب الكيزان    دائرة مرور ولاية الخرطوم تدشن برنامج الدفع الإلكتروني للمعاملات المرورية بمركز ترخيص شهداء معركة الكرامة    عقد ملياري لرصف طرق داخلية بولاية سودانية    السودان.. افتتاح غرفة النجدة بشرطة ولاية الخرطوم    5 مليارات دولار.. فساد في صادر الذهب    حسين خوجلي: (إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار فأنظر لعبد الرحيم دقلو)    إعفاء الأثاثات والأجهزة الكهربائية للعائدين من الخارج من الجمارك    حسين خوجلي يكتب: عبد الرجيم دقلو.. إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار!!    الحُزن الذي يَشبه (أعِد) في الإملاء    السجن 15 عام لمستنفر مع التمرد بالكلاكلة    صحف عالمية: تشكيل شرق أوسط جديد ليس سوى "أوهام"    عملية دقيقة تقود السلطات في السودان للقبض على متّهمة خطيرة    وزير الصحة يوجه بتفعيل غرفة طوارئ دارفور بصورة عاجلة    الجنيه السوداني يتعثر مع تضرر صادرات الذهب بفعل حظر طيران الإمارات    تركيا.. اكتشاف خبز عمره 1300 عام منقوش عليه صورة يسوع وهو يزرع الحبوب    (مبروك النجاح لرونق كريمة الاعلامي الراحل دأود)    المباحث الجنائية المركزية بولاية نهر النيل تنهي مغامرات شبكة إجرامية متخصصة في تزوير الأختام والمستندات الرسمية    حسين خوجلي يكتب: التنقيب عن المدهشات في أزمنة الرتابة    دراسة تربط مياه العبوات البلاستيكية بزيادة خطر السرطان    والي البحر الأحمر ووزير الصحة يتفقدان مستشفى إيلا لعلاج أمراض القلب والقسطرة    شكوك حول استخدام مواد كيميائية في هجوم بمسيّرات على مناطق مدنية بالفاشر    السجائر الإلكترونية قد تزيد خطر الإصابة بالسكري    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الذاكرة السمكية - الإنقاذ وسوء الخاتمة !
نشر في الراكوبة يوم 06 - 02 - 2013

تتعلم بعض الشعوب من تجارب غيرها وتستخلص العبر وتستفيد من الدروس فتأخذ الإيجابيات التي توافق بيئتها العقائدية ومنظومتها الأخلاقية وتوائم مواصفات السيكولوجية المتوارثة لإنسانها في حين تنبذ السلبيات فتختصر بذلك على نفسها المراحل وكثيراً من المعاناة التي يتطلبها التدرج وارتقاء سلم الحضارة والمدنية وهذه الشعوب خصها المولى سبحانه بذاكرة توثيقية متقدة بالإضافة لاعتمادها التدوين عوضا عن المشافهة في حفظ تاريخها مما يجعل تراكم تجاربها وإرثها الحضاري متصلاً وحاضراً بتفاصيله في الوجدان الجمعي ويساعد على حفظه من الضياع أو التحريف، الشيء الذي يزودها بالخبرة والمهارة اللازمة التي تجعل مهمة انتقالها من مرحلة تاريخية إلى أخرى أكثر تقدماً سلساً وخالياً من الصراعات الحادة لتناقضاتها الباطنية فتتمكن قبل غيرها من وضع أسس المجتمع المدني الحديث وتنجح بامتياز في بناء دولة العدل والقانون .
وعلى العكس من ذلك تعاني الشعوب مثقوبة الذاكرة التي أدمنت نهج المشافهة وخاصمت التدوين من صعوبة الانتقال من حلقة تاريخية إلى أخرى فتعيد تكرار الحلقة الواحدة جدليا أكثر من مرة وتقع في فخ الدوائر التاريخية الشريرة "انقلاب عسكري/انتفاضة/انقلاب عسكري" وتظل تدور في فراغها مثل ثور "الساقية" فذاكرتها الجمعية "سمكية" لا تختزن تجاربها دع عنك الاستفادة من تجارب الآخرين فتتعثر خطوات سيرها في طريق التقدم نتيجة للفشل في تقديم الإجابات الشافية للأسئلة الوجودية التي ترتكز عليه ركائز المجتمع المدني القادر على محاصرة تناقضاته الباطنية والوصول لمساومة تاريخية تمكنه من صياغة الهوية الوطنية كشرط أساس من شروط بناء دولة العدل والقانون فالسودان الجغرافي رغم قدم الشعوب والأعراق التي قطنته يصنف للأسف ضمن شعوب المشافهة سمكية الذاكرة.
ولعل السبب الأساس لهذه العلة قد تمثل في اتساع مساحة السودان ووجود كثافة من الأعراق والأجناس المختلفة التي قطنته وانضمت لها في مراحل لاحقة أيضا مجموعات مهاجرة غلبت عليها السمة الرعوية أثرت بثقافتها العربية البدوية على المكون الأصلي من السكان ونقلت إليه ميراث المشافهة ممَّا صعب ولوج مرحلة الدولة الموحدة، ونلحظ أن المساومة السياسية الأهم في تاريخ السودان التي حدثت بعد زوال الممالك المسيحية القديمة "المقرة وعلوة" على يد عمارة دنقس وعبد الله جماع وأفضت لتأسيس السلطنة الزرقاء "1504 – 1821م" قد نأت بنفسها عن النظام المركزي القابض واختارت نظاماً لا مركزياً فضفاضاً لإدارة السلطنة، الشيء الذي أتاح لكل مجموعة عرقية أن تتقوقع في صدفتها وتظل أسيرة ثقافتها محافظة على نقائها العرقي فلم يتم التزاوج والاختلاط المطلوب لصهر تلك الأجناس والشعوب في بوتقة قومية واحدة.
يشرح هذا الوضع بصورة جلية "نعوم شقير" في سفره المهم "تاريخ السودان" فيقول: "امتدت مملكة الفونج من الشلال الثالث إلي أقصي جبال فازوغلي شمالا، وجنوبا من سواكن علي البحر الأحمر إلي النيل الأبيض شرقا وغربا، وكان الحد بين سنار ومشيخة قري (الحلفايا) مدينة أربجي بقرب المسلمية والتنظيم الإداري من أربجي فصاعداً جنوبا كان تابعاً لملوك الفونج رأسا لا دخل لمشايخ قري فيه، ومنها شمالا إلى الشلال الثالث كان تابعاً لإدارة مشيخة قري أو العبدلاب تحت سيادة ملوك الفونج. وكانت المملكة منقسمة إلى عدة ممالك ومشيخات من سود ونوبة وحضر وبادية، وكان كل ملك أو شيخ يدفع الجزية لملك سنار، إلا أن له نوعاً من الاستقلال والممالك هي: مشيخة خشم البحر، مملكة فازوغلي، مشيخة الحمدة، مملكة بني عامر، مملكة الحلنقة. أما الممالك والمشيخات التي خضعت للفونج بواسطة العبدلاب فهي: مشيخة الشنابلة، مملكة الجموعية، مملكة الجعليين، مملكة الميرفاب، مملكة الرباطاب، مملكة الشايقية، مملكة الدفار، مملكة الخندق، مملكة الخناق، مملكة أرقو.
ويؤكد د. يوسف فضل هذه الحقيقة التاريخية أيضا في سفره " مقدمة في تاريخ الممالك السودانية في السودان الشرقي" قائلا: (كانت مملكة الفونج أبعد ما تكون عن الحكومة المركزية، فليست هناك مؤسسات إدارية متماثلة تنتشر في سائر أنحاء المملكة ربما عدا التنظيم القبلي، وكان تدخل السلاطين في الشؤون الداخلية وتعيين شيخ أو زعيم أو ما يعرف بالمك (وجمعها مكوك) مكان الزعيم المتوقي ولكن من أسرته الحاكمة) هذا يوضح أن المساومة التاريخية الأهم التي حدثت لوضع إطار دولة موحدة لما يعرف بالسودان اليوم قد خالفت نظم وأعراف الحكم في ذاك الزمان الذي نشأة فيه الممالك ونظم الحكم المركزية القابضة واستطاعت بقبضتها الحديدية أن توحد الأجناس والأعراق التي حكمتها وتصهرها في بوتقة وطنية واحدة ارتضاها الجميع بمرور الوقت وأصبحت فيما بعد من أهم عوامل استقرار ونهضة تلك الشعوب، ولو اختارت السلطنة الزرقاء النظام المركزي القابض في تلك المرحلة المتقدمة من تاريخ تأسيس الدولة السودانية لكنا اليوم ننعم بهوية وطنية مرضية على قرار ما حدث للجارة مصر في ظل النظم المركزية القابضة التي حكمتها تاريخيا.
هذا يكشف أن السلطنة الزرقاء التي تبنت النظام اللا مركزي الفيدرالي إذا ما صحت التسمية المتقدم على نظائره من نظم حكم بما أتاح من حقوق وحريات للشعوب التي خضعت لحكمه قد كان خصما على حسم طبيعة الهوية الوطنية حيث ظلت الأجناس والأعراق المكونة للسودان معزولة عن بعضها خاصة في ظل صعوبة التنقل والسفر بيد أن السلطنة الزرقاء قد قدمت ما استطاعت في سبيل توحيد وتشكيل لبنة السودان ومضت ليأتي حكم الاستعمار ويعمق الهوة بين شعوبه بما مارسه من سياسة "فرق تسد" التي دقت أسافين الفرقة بين مكوناته البشرية. وتمثل سياسة "المناطق المقفولة" التي مارسها من أجل عزل شعوب جنوب السودان قمة تجليات هذه السياسة البغيضة وأيضا تركه لإقليم دارفور وعدم الاهتمام بضمه للسلطة المركزية إلا في وقت متأخر كان من الأسباب التي عاقت اندماج شعوب السودان وانصهارها في بوتقة وطنية واحدة.
خضوع السودان لحكم الاستعمار الإنجليزي الذي رسم سياسة اقتصادية متوافقة مع مصالحه لم يهتم فيها بوضع خطط تنموية متوازية مما أدى لازدهار أقاليم على حساب الأخرى وواصل اهتمامه بترقية ورفاهية مركز الحكم وأهمل بقية المناطق التي ظلت تعاني التهميش وشح الخدمات الضرورية وعانت من الفقر وضعف الموارد المالية رغم أن أراضيها البكر تزخر بتنوع غير محدد في الثروات الطبيعية التي نهبت ورحلت كمواد خام لتعود في شكل منتجات مصنعة يعجز المواطن المنهوب عن شرائها، هذه السياسات الاقتصادية العرجاء قادت لثراء أهل بعض مناطق السودان وأفقرت الأغلبية الساحقة من أهله الشيء الذي عاق عملية انصهار مكوناته الاثنية في ظل التفاوت الطبقي مما أضعف لحمة المجتمع حديث التكوين، فظلت صياغة الهوية الوطنية محل صراع استمر أثره المدمر إلى اليوم.
جاء ميلاد فجر الاستقلال يحمل الفرح لأهل السودان ويحمل في ذات الوقت التناقضات الباطنية للمجتمع الهجين المتمثلة في الأسئلة الوجودية التي ظلت معلقة وعلى رأسها سؤال الهوية ونوع نظام الحكم الذي يجب أن يخضع له مجتمع متعدد الأعراق والمعتقدات والثقافات. أهمل قادة التحرير ورواد الاستقلال هذه القنابل الموقوتة عوضا عن مواجهة خطرها ونزع فتيلها ومارسوا سياسة تطييب الخواطر عل الزمن يتكفل بحلها فظلت كامنة في رحم المجتمع الهجين جمراً يستعر تحت رماد، وورقة استخدمتها بعض الأحزاب والقوى السياسية الوطنية قصيرة النظر من أجل تحقيق مكاسب آنية، وهكذا تعقدت الأسئلة المعلقة على جدار الصمت وتشعبت وازداد خطرها بعد أن ولجت سوق النخاسة السياسية.
ظل المجتمع السوداني حديث التكوين في بحث صامت ودءوب عن عروة وثقي توحده وتبعد عنه شبح التشرذم من جديد وطفقت بعض النخب الوطنية الجادة في طرح وتداول القضايا المعلقة المسكوت عنها "رواد مدرسة الغابة والصحراء" بيد أن القنوات الرسمية صمت الآذان وسدت المنافذ معتبرة جهد تلك النخب ترفاً لا يستحق النظر أو الالتفات إليه وإزاء هذا الوضع وخوفا من سقوط المجتمع في فخ الفراغ الحضاري وارتداده لعصبية القبيلة اختارت غالبية مكوناته التحلق حول العصبية الدينية منحازة للمكون الأكثر وعياً الذي مثلته القبائل العربية التي نزحت حاملة معها ارثها الديني الذي كان مؤهلاً أن يؤدي دوراً إيجابياً - بما حمل من مضامين سامية - في تشذيب عوار المجتمع الهجين إلا أن النخب الحاكمة التي لم تر أبعد من أرنبة أنفها وكراسي السلطة سخرت بغباء العامل الديني لزرع الفرقة والتمييز بين مكونات مجتمع يظل رغم أغلبيته المسلمة متعدد الديانات والمعتقدات.
حولت معظم الأحزاب السياسية وقادة النظم الدكتاتورية المتعاقبة الدين لسلعة وتاجرت بشعاراته لتحقيق مكاسب رخيصة غير مكترثة بقدسيته التي يجب أن تبعده عن مثل هذه الممارسات الشائنة ولا للدوره الإيجابي الذي يمكن أن يؤديه في استنهاض الأمة وتوحيدها إذا ما أحسن استخدامه، ليتحول على أيدي نخاسة السياسة من معتقد مقدس لمجرد مظهر اجتماعي تكتمل به زينة عقد الصفقات المشبوهة تجارية كانت أم سياسية وقد استغلت جماعة "الإنقاذ" الحاكمة اليوم باسم الإسلام هذا الواقع الذي أسهمت بالقدح المعلى في خلقه أبشع استغلال فقطعت باسم الدين أوصال المجتمع ومزقت وحدته وأمعنت في سياسات بذر الفرقة والشقاق بين مكوناته بمحاباة منسوبيها وتفضيل أبناء مناطق بعينها ليزيد حنق واحتقان بقية المناطق ويعود الاستقطاب العنصري ويقع الوطن في المحظور فيشهر الأخ سلاحه في وجه أخيه في إعلان جهور عن "سوء الخاتمة" لوطن طيب يلهج لسان أهله الأخيار في جوف الليل بالذكر والصلاة والابتهال طلبا للستر وحسن الخاتمة.
** الديمقراطية قادمة وراشدة لا محال ولو كره المنافقون.
تيسير حسن إدريس 05/02/2013م
الذاكرة السمكية - الإنقاذ وسوء الخاتمة !
تتعلم بعض الشعوب من تجارب غيرها وتستخلص العبر وتستفيد من الدروس فتأخذ الإيجابيات التي توافق بيئتها العقائدية ومنظومتها الأخلاقية وتوائم مواصفات السيكولوجية المتوارثة لإنسانها في حين تنبذ السلبيات فتختصر بذلك على نفسها المراحل وكثيراً من المعاناة التي يتطلبها التدرج وارتقاء سلم الحضارة والمدنية وهذه الشعوب خصها المولى سبحانه بذاكرة توثيقية متقدة بالإضافة لاعتمادها التدوين عوضا عن المشافهة في حفظ تاريخها مما يجعل تراكم تجاربها وإرثها الحضاري متصلاً وحاضراً بتفاصيله في الوجدان الجمعي ويساعد على حفظه من الضياع أو التحريف، الشيء الذي يزودها بالخبرة والمهارة اللازمة التي تجعل مهمة انتقالها من مرحلة تاريخية إلى أخرى أكثر تقدماً سلساً وخالياً من الصراعات الحادة لتناقضاتها الباطنية فتتمكن قبل غيرها من وضع أسس المجتمع المدني الحديث وتنجح بامتياز في بناء دولة العدل والقانون .
وعلى العكس من ذلك تعاني الشعوب مثقوبة الذاكرة التي أدمنت نهج المشافهة وخاصمت التدوين من صعوبة الانتقال من حلقة تاريخية إلى أخرى فتعيد تكرار الحلقة الواحدة جدليا أكثر من مرة وتقع في فخ الدوائر التاريخية الشريرة "انقلاب عسكري/انتفاضة/انقلاب عسكري" وتظل تدور في فراغها مثل ثور "الساقية" فذاكرتها الجمعية "سمكية" لا تختزن تجاربها دع عنك الاستفادة من تجارب الآخرين فتتعثر خطوات سيرها في طريق التقدم نتيجة للفشل في تقديم الإجابات الشافية للأسئلة الوجودية التي ترتكز عليه ركائز المجتمع المدني القادر على محاصرة تناقضاته الباطنية والوصول لمساومة تاريخية تمكنه من صياغة الهوية الوطنية كشرط أساس من شروط بناء دولة العدل والقانون فالسودان الجغرافي رغم قدم الشعوب والأعراق التي قطنته يصنف للأسف ضمن شعوب المشافهة سمكية الذاكرة.
ولعل السبب الأساس لهذه العلة قد تمثل في اتساع مساحة السودان ووجود كثافة من الأعراق والأجناس المختلفة التي قطنته وانضمت لها في مراحل لاحقة أيضا مجموعات مهاجرة غلبت عليها السمة الرعوية أثرت بثقافتها العربية البدوية على المكون الأصلي من السكان ونقلت إليه ميراث المشافهة ممَّا صعب ولوج مرحلة الدولة الموحدة، ونلحظ أن المساومة السياسية الأهم في تاريخ السودان التي حدثت بعد زوال الممالك المسيحية القديمة "المقرة وعلوة" على يد عمارة دنقس وعبد الله جماع وأفضت لتأسيس السلطنة الزرقاء "1504 – 1821م" قد نأت بنفسها عن النظام المركزي القابض واختارت نظاماً لا مركزياً فضفاضاً لإدارة السلطنة، الشيء الذي أتاح لكل مجموعة عرقية أن تتقوقع في صدفتها وتظل أسيرة ثقافتها محافظة على نقائها العرقي فلم يتم التزاوج والاختلاط المطلوب لصهر تلك الأجناس والشعوب في بوتقة قومية واحدة.
يشرح هذا الوضع بصورة جلية "نعوم شقير" في سفره المهم "تاريخ السودان" فيقول: "امتدت مملكة الفونج من الشلال الثالث إلي أقصي جبال فازوغلي شمالا، وجنوبا من سواكن علي البحر الأحمر إلي النيل الأبيض شرقا وغربا، وكان الحد بين سنار ومشيخة قري (الحلفايا) مدينة أربجي بقرب المسلمية والتنظيم الإداري من أربجي فصاعداً جنوبا كان تابعاً لملوك الفونج رأسا لا دخل لمشايخ قري فيه، ومنها شمالا إلى الشلال الثالث كان تابعاً لإدارة مشيخة قري أو العبدلاب تحت سيادة ملوك الفونج. وكانت المملكة منقسمة إلى عدة ممالك ومشيخات من سود ونوبة وحضر وبادية، وكان كل ملك أو شيخ يدفع الجزية لملك سنار، إلا أن له نوعاً من الاستقلال والممالك هي: مشيخة خشم البحر، مملكة فازوغلي، مشيخة الحمدة، مملكة بني عامر، مملكة الحلنقة. أما الممالك والمشيخات التي خضعت للفونج بواسطة العبدلاب فهي: مشيخة الشنابلة، مملكة الجموعية، مملكة الجعليين، مملكة الميرفاب، مملكة الرباطاب، مملكة الشايقية، مملكة الدفار، مملكة الخندق، مملكة الخناق، مملكة أرقو.
ويؤكد د. يوسف فضل هذه الحقيقة التاريخية أيضا في سفره " مقدمة في تاريخ الممالك السودانية في السودان الشرقي" قائلا: (كانت مملكة الفونج أبعد ما تكون عن الحكومة المركزية، فليست هناك مؤسسات إدارية متماثلة تنتشر في سائر أنحاء المملكة ربما عدا التنظيم القبلي، وكان تدخل السلاطين في الشؤون الداخلية وتعيين شيخ أو زعيم أو ما يعرف بالمك (وجمعها مكوك) مكان الزعيم المتوقي ولكن من أسرته الحاكمة) هذا يوضح أن المساومة التاريخية الأهم التي حدثت لوضع إطار دولة موحدة لما يعرف بالسودان اليوم قد خالفت نظم وأعراف الحكم في ذاك الزمان الذي نشأة فيه الممالك ونظم الحكم المركزية القابضة واستطاعت بقبضتها الحديدية أن توحد الأجناس والأعراق التي حكمتها وتصهرها في بوتقة وطنية واحدة ارتضاها الجميع بمرور الوقت وأصبحت فيما بعد من أهم عوامل استقرار ونهضة تلك الشعوب، ولو اختارت السلطنة الزرقاء النظام المركزي القابض في تلك المرحلة المتقدمة من تاريخ تأسيس الدولة السودانية لكنا اليوم ننعم بهوية وطنية مرضية على قرار ما حدث للجارة مصر في ظل النظم المركزية القابضة التي حكمتها تاريخيا.
هذا يكشف أن السلطنة الزرقاء التي تبنت النظام اللا مركزي الفيدرالي إذا ما صحت التسمية المتقدم على نظائره من نظم حكم بما أتاح من حقوق وحريات للشعوب التي خضعت لحكمه قد كان خصما على حسم طبيعة الهوية الوطنية حيث ظلت الأجناس والأعراق المكونة للسودان معزولة عن بعضها خاصة في ظل صعوبة التنقل والسفر بيد أن السلطنة الزرقاء قد قدمت ما استطاعت في سبيل توحيد وتشكيل لبنة السودان ومضت ليأتي حكم الاستعمار ويعمق الهوة بين شعوبه بما مارسه من سياسة "فرق تسد" التي دقت أسافين الفرقة بين مكوناته البشرية. وتمثل سياسة "المناطق المقفولة" التي مارسها من أجل عزل شعوب جنوب السودان قمة تجليات هذه السياسة البغيضة وأيضا تركه لإقليم دارفور وعدم الاهتمام بضمه للسلطة المركزية إلا في وقت متأخر كان من الأسباب التي عاقت اندماج شعوب السودان وانصهارها في بوتقة وطنية واحدة.
خضوع السودان لحكم الاستعمار الإنجليزي الذي رسم سياسة اقتصادية متوافقة مع مصالحه لم يهتم فيها بوضع خطط تنموية متوازية مما أدى لازدهار أقاليم على حساب الأخرى وواصل اهتمامه بترقية ورفاهية مركز الحكم وأهمل بقية المناطق التي ظلت تعاني التهميش وشح الخدمات الضرورية وعانت من الفقر وضعف الموارد المالية رغم أن أراضيها البكر تزخر بتنوع غير محدد في الثروات الطبيعية التي نهبت ورحلت كمواد خام لتعود في شكل منتجات مصنعة يعجز المواطن المنهوب عن شرائها، هذه السياسات الاقتصادية العرجاء قادت لثراء أهل بعض مناطق السودان وأفقرت الأغلبية الساحقة من أهله الشيء الذي عاق عملية انصهار مكوناته الاثنية في ظل التفاوت الطبقي مما أضعف لحمة المجتمع حديث التكوين، فظلت صياغة الهوية الوطنية محل صراع استمر أثره المدمر إلى اليوم.
جاء ميلاد فجر الاستقلال يحمل الفرح لأهل السودان ويحمل في ذات الوقت التناقضات الباطنية للمجتمع الهجين المتمثلة في الأسئلة الوجودية التي ظلت معلقة وعلى رأسها سؤال الهوية ونوع نظام الحكم الذي يجب أن يخضع له مجتمع متعدد الأعراق والمعتقدات والثقافات. أهمل قادة التحرير ورواد الاستقلال هذه القنابل الموقوتة عوضا عن مواجهة خطرها ونزع فتيلها ومارسوا سياسة تطييب الخواطر عل الزمن يتكفل بحلها فظلت كامنة في رحم المجتمع الهجين جمراً يستعر تحت رماد، وورقة استخدمتها بعض الأحزاب والقوى السياسية الوطنية قصيرة النظر من أجل تحقيق مكاسب آنية، وهكذا تعقدت الأسئلة المعلقة على جدار الصمت وتشعبت وازداد خطرها بعد أن ولجت سوق النخاسة السياسية.
ظل المجتمع السوداني حديث التكوين في بحث صامت ودءوب عن عروة وثقي توحده وتبعد عنه شبح التشرذم من جديد وطفقت بعض النخب الوطنية الجادة في طرح وتداول القضايا المعلقة المسكوت عنها "رواد مدرسة الغابة والصحراء" بيد أن القنوات الرسمية صمت الآذان وسدت المنافذ معتبرة جهد تلك النخب ترفاً لا يستحق النظر أو الالتفات إليه وإزاء هذا الوضع وخوفا من سقوط المجتمع في فخ الفراغ الحضاري وارتداده لعصبية القبيلة اختارت غالبية مكوناته التحلق حول العصبية الدينية منحازة للمكون الأكثر وعياً الذي مثلته القبائل العربية التي نزحت حاملة معها ارثها الديني الذي كان مؤهلاً أن يؤدي دوراً إيجابياً - بما حمل من مضامين سامية - في تشذيب عوار المجتمع الهجين إلا أن النخب الحاكمة التي لم تر أبعد من أرنبة أنفها وكراسي السلطة سخرت بغباء العامل الديني لزرع الفرقة والتمييز بين مكونات مجتمع يظل رغم أغلبيته المسلمة متعدد الديانات والمعتقدات.
حولت معظم الأحزاب السياسية وقادة النظم الدكتاتورية المتعاقبة الدين لسلعة وتاجرت بشعاراته لتحقيق مكاسب رخيصة غير مكترثة بقدسيته التي يجب أن تبعده عن مثل هذه الممارسات الشائنة ولا للدوره الإيجابي الذي يمكن أن يؤديه في استنهاض الأمة وتوحيدها إذا ما أحسن استخدامه، ليتحول على أيدي نخاسة السياسة من معتقد مقدس لمجرد مظهر اجتماعي تكتمل به زينة عقد الصفقات المشبوهة تجارية كانت أم سياسية وقد استغلت جماعة "الإنقاذ" الحاكمة اليوم باسم الإسلام هذا الواقع الذي أسهمت بالقدح المعلى في خلقه أبشع استغلال فقطعت باسم الدين أوصال المجتمع ومزقت وحدته وأمعنت في سياسات بذر الفرقة والشقاق بين مكوناته بمحاباة منسوبيها وتفضيل أبناء مناطق بعينها ليزيد حنق واحتقان بقية المناطق ويعود الاستقطاب العنصري ويقع الوطن في المحظور فيشهر الأخ سلاحه في وجه أخيه في إعلان جهور عن "سوء الخاتمة" لوطن طيب يلهج لسان أهله الأخيار في جوف الليل بالذكر والصلاة والابتهال طلبا للستر وحسن الخاتمة.
** الديمقراطية قادمة وراشدة لا محال ولو كره المنافقون.
تيسير حسن إدريس
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.