قد تجذبك قبيلة المبدعين اليها, بمغناطيس يتفاعل مع كيمياء مختزنة بداخلك, تجعلك تعرفهم ويعرفونك,وتألفهم ويألفونك, ولو كنت منبتاً لا أصل لك ولا قبيلة, ولعل المبدع الأصيل هو ذاك المعتلي مسرح إبداعه لا ليسلًي الناس أو يثير بعض اهتمامهم , ولعله لا يعبأ بهم أصلاً, ولكنه يعبر بأدوات فنه عن ما يقصر دونه فعل القادة العظماء, فتتسرب من بعض نوافذ عالمه دهشةً تدهشنا في لوحة أو مسرحية أو قصيدة أو أغنية, وبعضنا يفهم المغزى فيستقيم على دروب الحب والخير و بعضنا يثني عطفه لا يلوي على شئ . وفي دار تكنياوي, وهي شمال درافور بمسماها القديم, انبرى رسل السلام لمداواة الجراح وهدهدة الأحزان بين قبائل جنحت للحرب شيئاً قليلاً فتداركها الخيرون خفافاً سراعاً, باسطين موائد الصلح المباركة في سوحهم الطيبة العامرة. ولو أسعدك الحظ و جادت لك الأيام بزيارة الفاشر السعيدة و شهدت فيها مهرجان الفرح الذي ابتدرته وزارة الثقافة بشمال دارفور,وفارسها عوض إسحق دحيش, ذاك الفاشري بكل ما تحويه الصفة من حفاوة وكرم وبشاشة, متزامناً مع مؤتمرات الصلح بين القبائل, لرأيت تداعى المبدعين من كل أرجاء الولاية, مدركين للمستجدات من الأمور وملمين بطارئ الحوادث, فقالوا كلمتهم وأدلوا بدلوهم, بجد تحسبه هزل و حكمة تحسبها فهاهة و حزم تحسبه لهو وطرب. ولسعدت ليلتئذ أيما سعادة بفنون الفاشر و صنعة أبناءها ولطربت لفتحي الماحي صاحب العود والكمان و نصير الأغنية الدارفورية بمفرداتها العذبة الجزلة, والذي سكب شيئاً من قارورة فنه ذات يوم , فانداح العطر شمالاً وجنوباً وشرقاً وغربأ فشدا السودان و مازال ( بنيتي حسابك, لكلام راجل أسمعا ) ولعرفت عزو الحاج صاحب المطامير وحليمة قولو وهي تغني ( سه سه .. كلام ده ساه.. نسألو الوردو ياتو شافا) بخلفية أيقاعية تزامنت فيها أصوات الطبول مع صوت البيز جيتار مسبغاً هيبةً مسرحيةً نادرة على المشهد الجميل, واعجب لقولها العامي الفصيح ( صه صه , كلام ده صاح؟). وقد قال الممثلون كلمتهم بمسرحية أحسبها حركت دواخل المصلحين والمصطلحين, وهدتهم شيئاً قليلاً إلى دروب التسامح والمحبة, إذ أتت بما ينبغي وما لاينبغي في ثقافة التعايش بين المتجاورين من القبائل, و سدت فراغات لن تملؤها المؤتمرات و لن تبلغها , وان استطالت, المحادثات. ثم أتي الشعراء ولم يغادروا من متردم بشعرهم, و أبدع الصافي صالح النور و عبدالله كتم الكردفاني , شاعر المرأة والوطن والشاي ( بلدك حباك , بت رايعة إحساسك ترسٌي , صبٌ الغرام كفتيرتو ما ظنيتا تحسي) , وعبدالله كتم يخلط عليك الأمور, فالوطن محبوبة, والمحبوبة وطن ( مالا الظروف جارت , حرمتني من سنك.. لا افترٌ ثغرك ضو, لا عيوني شافنك .. لا سارحة لاقيتك, لا بهايمي لاقنٌك .. لا كنتي في الواردات , لا المدرسة اظنك), وان سألنا سائل كيف يحمل الكردفاني لقب كتم؟ لأجبناه بأن هكذا هي دارفور, تراود النفوس عن أوطانها ولو كانت تلك الأوطان هي بقعة أمدرمان , ( قول ليا وين ماشي, ما بتوصل الخرطوم؟ .. في نيلو تمشي تصب, في صدرو تهدا تنوم). ولو دامت لك الأيام لدامت تلك الليلة, ويا لها من ليلة, تري فيها القوم, وقد أعملت فيهم الفنون سحرها و كشفت لهم بعضاً من سرها, هاشين باشين غادين و رائحين يهزون أياديهم بالبشارة فلا تدرك منهم ظالماً و لا تميز فيهم مظلوماً, وكأنهم قد أدركوا تواً فلسفة الحياة وانها قد تصفو و تحلو مع السلام و الإخاء و نبذ القبلية, وفي ختامها اصطف المبدعون على المسرح, واحداً تلو الاخر, في هدوء كحمائم تساقطت على غدير عذب, وغنوا وغنى معهم الحضور أنا سوداني أنا. مهندس هشام بشير محمد صالح الفاشر 13-12-2012 [email protected]