(1) "السلطة مفسدة ، والسلطة المطلقة مفسدة مطلقة " من مأثورات الأدب السياسي (2) "يمكن أن تؤدي الدوافع الإنسانية التي تُمارس من خلال وسائل غير صحيحة حتى ببعض الناس الطيبين إلى ممارسة السلطة بطرق خطيرة " " إيزابيل باترسون " (3) إذا وافقت الحركات الديمقراطية على وقف المقاومة من أجل التخلص المؤقت من القمع والاضطهاد فسينتهي المطاف بهم إلى الشعور بخيبة أمل .. فقلما يقلل التوقف عن المقاومة من حجم الاضطهاد حيث انه عند زوال الضغوطات الداخلة والدولية عن الحكام الديكتاتوريين تجدهم يمارسون قمعاً وعنفاً أكثر وحشية من ذي قبل " جين شارب " من الدكتاتورية إلى الديمقراطية " "إطار تصوري للتحرر" أستغرقُ هذه الأيام في قراءاتٍ موسعةٍ حول السلطة محاولاً الإجابة عن سؤالٍ حارقٍ : ما الذي يجعل الدكتاتوريات تستمر ؟! .. وقد بدأت جولتي الواسعة من "جمهورية أفلاطون " ، و" طبائع الاستبداد " لعبد الرحمن الكواكبي حتى آلفن توفلر صاحب "تحولات السلطة " وسالم القمودي " سيكلوجية السلطة".. والكتاب الهام جدا " من الدكتاتورية إلى الديمقراطية " "إطار تصوري للتحرر" لجين شارب والذي يمثل في نظري خارطة طريق منهجية للخروج من نفق الدكتاتورية المظلم .. .. مرورا بعمنا فوكو بالطبع ، هذا العبقري الفرنسي الذي شرَّح السلطة كما لم يفعل أحد وكشف الطريقة التي تتسلل بها حتى أدق مجريات اليومي والعابر ، فهي لا تطلب من المواطنين ضحاياها طاعتها مباشرة ، إذ لو فعلت ذلك لجازفت بعصيانها،ولكنها تفعل ذلك عبر آليات معقدة تتحول السلطة بموجبها إلى " شبكة منتجة تمرر خطابها الملتبس عبر المجتمع كله أكثر مما هي هيئة منفصلة وظيفتها هي ممارسة القمع(نظام الخطاب: 63/64 )... وبالدارجي الفصيح فإن خطاب قمع السلطة لا يمكن أن يتمحور أبدا في : افعل ولا تفعل .. وإنما يتسلل عبر مفردات لا تحصى تتناثر في خطابها الإعلامي والاجتماعي لتكييف سلوكنا ليتواءم معها ، مفردات تعمل في الوقت نفسه على بث الاعتقاد بأن التغيير لن يفلح أبدا ..الاعتقاد الذي يتسلل كغبار لامرئي ليدخِل الجميع في جب الغيبوبة متحولين رويدا رويدا إلى أشباح .. شفت كيف ؟؟! ويرى جون كينيث جيلبرت في كتابه "تشريح السلطة " أن أشكال السلطة ثلاثة : القسرية حيث ممارسة القوة والإكراه لإخضاع ضحاياها ، والتعويضية حيث الاعتماد على المال والميزات الخاصة ، والتلاؤمية وخطورتها أن الفرد فيها لا يعرف أنه خاضع للسلطة بسبب المناورة الواسعة التي تتبعها السلطة التلاؤمية وتقديمها بعض التنازلات الظاهرية ، ولذا يذهب آلفن توفلر إلى أن هذا هو المستوى الأرفع للسلطة التي تجعل " من الخضوع مظهرا طبيعيا عاديا للسلوك المقبول ،ويعد الذين لا يخضعون شاذين ومنحرفين عن جادة الصواب " (تحولات السلطة :31 ) ... ودون أن نعي ألاعيب السلطة هذه لا يمكن لنا أبدا مواجهتها .. وإليك الحقيقة البديهية التي توصلت إليها إجابة عن السؤال الموجع : ما الذي يجعل الدكتاتوريات تستمر ؟! .... تستمر الدكتاتوريات في أغلب الأحيان بالتمويه وذلك بالتستر وراء لافتة أيديولوجية (دينية أو ذات جذر ديني في الغالب ) تحجب "عمايلها" وتظهر كم أنها غارقة في البراءة ... وتستمر بأسباب عديدة ... وفي كل الحالات تستمر الدكتاتوريات بالصمت ...الصمت هو ما يتغذى عليه كرش السلطة ...وإذا كان الشاعر المصري أمل دنقل (1940 1983) يقول :" أقصى ما تطمح إليه سلطة ما أن يصيب الشعراء الخرس من داخلهم " ..فإننا يمكن أن نحور في مقولته قليلا لنقول :" كل ما تعمل عليه السلطة هو إصابة المواطنين بالخرس " .. ليس الخرس العام بالطبع فهذا يعطل تغذية السلطة برصيدها من المباركة على عمايلها ويوقف آلة الإعلام الضخمة المسبٍّحة بحمد النفاق ولكن الخرس الخاص ..أي الخرس عن حقوق المواطنة ..والخرس عن الفعل .. وهذا ما ابتلي به الشعب السوداني في أغلبه بعد اغتصاب تحالف الأكليروس / العسكر للسلطة في 30 يونيو 1989... وهذا هو التحالف الأشد شؤما على الحياة السياسية من قمتها حتى أدق تفاصيل اليومي والمعيش ...لأن هذه الخلطة من الأيديولوجيا الدينية مع القوة العسكرية كفيلة بتسميم الحياة حتى أصغر ينابيعها ..ولسبب أسوأ : أنها تستمر طويلا ما لم يحدث رد فعل جذري تجاهها ... يلزمنا الكثير من الجهد لفهم آليات عمل السلطة ... وتفكيك الشبكة الدقيقة من القوانين اللامرئية التي لا تكف السلطة لحظة عن نسجها ..وبمجرد أن نفهم هذه الآليات " يصبح من الممكن أن نتبنى في مواجهتها إستراتيجية شاملة بدلا من ردود الفعل العشوائية والفردية التي لا رابط بينها " كما يقول توفلر (تحولات السلطة ، ج1: 8 ) ... في مايو 2008 أصدرت دار رياض الريس بلندن كتابا هاما للغاية ، وصغيرا في حوالي 100 صفحة وهو "التشكيك في السلطة " من تأليف عدد من المؤلفين (ثمانية مؤلفين ) ، وترجمة صلاح عبد الحق ، ورغم أهمية الكتاب البالغة لاسيما لهذا العالم الثالث المبتلى بآثام الطغاة الصغار والكبار.. وبلاوي الاستبداد إلا أنني لاحظت بعد بحث موسع في النت أنه لا أحد تقريبا عرض لهذا الكتاب الهام .. ولذا أخذت على عاتقي القيام بهذه المهمة على صفحات " راكوبتنا " الغراء ... أغلب المفكرين الذين شاركوا في هذا الكتاب قد رحلوا عن عالمنا قبل قرنين من الزمان .. إلا أن كل ماطرح في الكتاب حول السلطة يبدو جديدا وطازجا كأن حبره لم يجف بعد .. وكما يرى رياض الريس الذي كتب مقدمة الكتاب فإن الأرض العربية اليباب التي عشش فيها الخراب السياسي ، ونضب فيها تطور الفكر السياسي ،وهزمت فيها الديمقراطية ، وودعنا فيها الأنظمة البرلمانية "الحقيقية" تبدو ظمأى للعودة إلى "ينابيع الفكر الإنساني الأولى من قبل أن تتبلور وتصبح أنظمة للحكم ، أو قواعد للحياة السياسية ، أو شروطا لتنظيم التعامل بين الناس في مجتمعاتهم ، وبينهم وبين حكامهم " (المقدمة : 10 ) ، وكان لا بد في رأيه من البحث عن مصادر هذا الفكر وتقديمه للقارئ العربي من مصادره الأساسية ، ذلك الفكر الذي هدفه ومنارته المنشودة : الحرية . يرتكز الكتاب على المفاهيم الأساسية للفلسفة الليبرالية مثل المقاومة المركزية للسلطة ، وتعزيز الفردية ، والحقوق الأساسية ، والتبادل الحر إلخ إلخ .. وعلى الرغم من أن الليبرالية تعاني الآن ، لاسيما في عصر العولمة عقابيل سقوطها تحت جحافل رأس المال، وجشعه الذي لا يرتوي .. إلا أن العمل على استنقاذها يظل هو الأمل الوحيد أمام الإنسان للعيش في مجتمع ديمقراطي سليم ... والبديل عن ذلك هو إما النسخة الكئيبة من الاشتراكية ، أو السقوط تحت السنابك الهائجة للأصولية الإسلامية بمختلف تسمياتها وكلاهما يصيب الحرية في مقتل ، ويحشر البشر كالقطيع تحت لافتة وهمه المثالي ، الماورائي ، المتعالي ، المجرد . يحتوي الكتاب على ثماني مقالات بالإضافة إلى مقدمة الناشر" انهيار الأسوار" والتعريف الموجز بمقالات الكتاب الذي يستهل بهذه العبارة المكثفة :" المبدأ الأول للمحلل الاجتماعي الليبرتاري هو القلق بشأن تركيز السلطة ، ولعل أحد المأثورات في الفكر الليبرتاري هو قول اللورد آكتون :" السلطة تنحو نحو الإفساد، والسلطة المطلقة مفسدة مطلقة " . المقال الاستهلالي لتوماس باين (1737 1809 ) المنظر السياسي الهام، وداعية الحرية الذي لا يشق له غبار ، ومن أهم أعماله (حقوق الإنسان ) ، و(عصر العقل ) ، و(الإدراك السليم ) المقتطف منه هذا المقال :"أصل الحكومة وهدفها " ، وقد أسست كتبه هذه كما ورد في ترجمته القصيرة في مستهل المقال لليبرالية . في بداية المقال يقرر توماس باين : " المجتمع بركة في عموم الأحوال ، لكن الحكومة شر ضروري حتى في أحسن الأحوال ،وفي أسوأ أحوالها شر لا يحتمل " ( ص :26 ) ، وفيه يعرض تفصيلا لنشأة السلطة على الأرض ، ودوافعها ، وأهدافها ، وكيف ظهر بالتدريج ما يشبه مجلسا منتخبا . ولأن قارئ النت العجول لاصبر له على هذا التفصيل فسأعرض هنا بإيجاز قراءته اللاهوتية الممتعة لنشوء الدكتاتورية على الأرض ، وهي قراءة لاهوتية لأنها تستند في الأساس على مرويات" الكتاب المقدس"،بعد علمنتها بالطبع .. أي بعد تمريرها عبر مصفاة العقل الثاقب للمحلل السياسي (وهذا درس قاس لمجترِّي التراث بالجملة ) .. وسأحاول فيما يلي الالتزام ما أمكن باللغة المبهجة لتوماس باين بعد تقطيرها أحيانا حتى لاتفيض عن مساحة المقال ... فماذا قال توماس : لم يكن هناك ملوك (مرادف دكتاتور في ذلك الزمان ) في عصور الحياة الأولى وفقا للسرد الزمني في النصوص المقدسة ...وترتب على ذلك عدم نشوب حروب .. "جنون " الملوك هو ما ألقى بني البشر في الاضطرابات.. نظام الحكومات التي يرأسها ملوك جاء أولا عن طريق غير المؤمنين الذين نقل عنهم بنو إسرائيل هذه العادة ، وكان ذلك أكثر اختراعات الشيطان نجاحا في الترويج لعبادة الأوثان ، كان الكفرة يقدمون قرابين مقدسة لملوكهم الراحلين ، وأضاف العالم المسيحي إلى هذا التوجه القيام بالممارسات نفسها للملوك الأحياء ..و"كم هو مناف للتقوى وللعقل أساسا إطلاق لفظ صاحبة الجلالة المقدسة على دودة هي في أوج مجدها تتفتت في التراب .." انقضت 3000 عام تقريبا لقصة الخلق حتى مطالبة اليهود تحت وهم وطني بتعيين ملك عليهم ...كانت حكوماتهم حتى ذلك الحين (ما عدا في حالات استثنائية تدخل فيها الخالق ) نوعا من الجمهورية يديرها قاض وشيوخ القبائل .. متى إذن طالب اليهود بملك يحكمهم ؟ تاريخ تلك الواقعة يعود إلى هذه القصة : لما أمعن أهل مدين ظلما في بني إسرائيل سار إليهم غيدون على رأس جيش صغير وحالفه النصر .. اليهود وقد أثملتهم نشوة النصر التي عزوها لقيادة غيدون اقترحوا عليه جعله ملكا ..قالوا :" لتكن ملكا علينا ، أنت وابنك وابن ابنك " ! ، ليس مملكة إذن ..بل مملكة وراثية أي أضافوا لشرور الملكية شر الخلافة الوراثية فإذا كانت الأولى إهانة للكرامة الإنسانية ، فإن الثانية إهانة وعبء على الأجيال القادمة التي تم نزع حقها من الجماعة الأولى ..وأحد أقوى البراهين على حماقة الوراثة السلطوية كما يقول توماس هوأن الطبيعة لا تقبلها ، بل إنها كانت تحول ذلك كل مرة إلى مهزلة بإعطاء بني البشر حمارا باعتباره أسدا .. ولكن الإشكال أن مثل هذه الشرور ما أن تستقر حتى "يصبح من الصعب إزالتها ، كثيرون يخضعون خوفا ، وآخرون تحت وهم الخرافات ، والقسم الأكثر قوة يشاركون الملك سلب البقية " ، أما الضعاف فيمارسون العبادة غير الشرعية للحمار والأسد .. في "زريبة " النظام ... رفض غيدون العرض .. ولكن الباب كان قد انفتح منذ ذلك الحين ليدلف منه: الملوك (تُقرأ الدكتاتوريون باختلاف أصنافهم فلم يشهد توماس عصر الانقلابات العسكرية ولا النسخ المختلفة للأنظمة الشمولية ) ، والشعوب ، الملوك الذين يفسدون في الأرض وإذا دخلوا قرية أفسدوها ، والشعوب التي تسقط تحت سنابك خيل الطاغية ..أو ذهبه.. أوعبادته .. لم يقل توماس ذلك ولكنه حلل طبيعة الطاغية ، والشعب الذي يحكمه بلغة لاذعة لن يتسع لها هذا المقال ...ولا صدر القارئ الكريم... وفي حلقة قادمة ربما نواصل عرض ومناقشة بقية مقالات الكتاب ... عدلان يوسف [email protected] - - - - - - - - - - - - - - - - - تم إضافة المرفق التالي : الثورة السودانية.jpg