النيل في السودان يصحو متثاقلاً ويفرك عينيه كفتاة بكر ليلة الزفاف.. ضفتا النيل تفتران عن ابتسامة نشوانة وأمواه النيل تتمطى في انسيابها باسترخاء وكسل لذيذين.. صداع نصفي في الضفة الشرقية، وشعور حاد بالاستفراغ في الضفة الغربية يعكران معاً صفحة النيل ذلك الصباح الجميل من غرة ذي الحجة 1403ه عشية أن اندلق في جوف النيل كميات كبيرة من الخمر التي أراقها السودان استشرافاً لفجر الصحوة الجديدة والعودة للمنابع الأصيلة .. أسماك النيل هي الأخرى نشوى تتخبط بزعانفها أمواج الماء الفائرة وتضل طريقها نحو شباك الصيادين فريسة ثملة بينا تضج حناجر الصيادين بأهازيج الصيد وأغنيات الحصاد! .. الغنيمة كبيرة، والشباك ملأى بما لذََّ وطاب من أنواع السمك في ذلك اليوم، واختفى من ساحة المضاربة متعهدو الحانات الذين كانوا يسارعون قبل زمن وجيز إلى سوق السمك مع نجمة الصباح لتقديمه طازجاً للزبائن في المساء. عشرات البطون الجائعة التي كانت لا تملك في السابق ثمن وجبة سمك مقلي تتوجه نحو مطاعم السمك منذ الصباح لتسبع نهمها المقيم.. رائحة الأسماك تزكم الأنوف وتغازل البطون الضامرة .. أسواق الخضار اختفت من واجهاتها كل أنواع الليمون بلغ سعر الليمونة الواحدة عشرة قروش والشطة أيضاً اختفت من المحال التجارية والبقالات. القوم في السودان مغرمون بأكل السمك على الشطة الممزوجة بالليمون .. لا عجب أن تحلقوا حول الموائد وأصحن الشطة الممزوجة بماء الليمون تتوسط كل مائدة.. وعلى جانب من أحواض الغسيل بالمطاعم تتراءى "أنصاص" الليمون جنباً إلى جنب قطع الصابون المعدة لغسيل الأيدي ولإزالة رائحة السمك. غفت أزهار الشوش وهدأت وشوشاتها عند ملتقى شلل النيل وكأسات الهروب في حدائق الموردة والريفيرا والجندول المطلة على النيل في مدينة أم درمان رمز السودان وملهمة الشعراء والفنانين الأوائل. أغلقت الحانة أبوابها واحدودب الساقي ومات النديم، نام الصحب "السكارى" مبكرين على غير عادتهم، وخلا المكان للعشاق والشعراء والفنانين، وران صمت مهيب على الحدائق التي انفض عنها السامر ولا شيء يقطع ذلك الصمت إلا حفيف الأشجار وأصداء الأمواج المرتدة على الشاطئ .. آه.. الليلة القمراء والضفاف الزرق والصمت الجميل... ثمة مدمنون عكفوا ساهرين على الملامة وإيجاد البديل .. قال أحدهم ضجراً بالملامة مستعيراً لسان حال " أبي نواس": " دع عنك لومي فإنّ اللوم إغراءٌ وداوني بالتي كانت هي الدواء" ويجاوبه صديقه القديم متمثلاً هو الآخر قول الشاعر السوداني توفيق صالح جبريل: "ظلت الغيد والقوارير صرعى والأباريق بتن في إطراق " ولكن أحدَهم تستهوية المساجلة الشعرية، يكمل البيت الثاني لذات الشاعر: "ائتني بالصبوح يا بهجة الروح ترحني إن كان في الكأس باقٍ " وللحظة يستعيد رابع وعيه ويصيح فيهم قائلاً: "كفوا أيها الحيارى المتعبون في الكأس باقٍ عند " الحانة السوداء" ولكن من أين لكم ثمن " القهوة" فتشروها .. كونوا واقعيين.. عندي لكم البديل.. فتعالوا معي جربوها .. وخذوا منها أنفاساً عميقة!! طينتها من نوع خاص جداً.. قطعة صلصال شديدة الاخضرار صاغتها يد الغواية الشيطانية بمقادير متناهية من المزاج اللطيف: كوب من ماء الدهشة وكوب من حافة الجنون .. وكان نتاج هذا المزيج كفيلاً بتهافت الفراشات عليها واحتراقها بنار الوهم والفاقة والجنون. أفاق النيل من نشوته رويداً .. رويداً وشخصت أبصار الندامى السابقين في مجاهيل الوهم الكبير ودنيا الضياع العريض.. تحطمت سفنية النبيذ على صخرة "الحدود" وأشرعوا للتيه قوارب الدخان. بركات بله الأمين [email protected]